الإعلام الإسرائيلي التقليدي يُطَبِّل للسُّلطان في أوقات الحروب
ثمة مَثَل سوفييتي يقول: "حين يدوّي صوت المدافع يصمت صوت الشعراء" ولكن يمكننا ضرب هذا المثل في إسرائيل في القرن الحادي والعشرين كما يلي: "حين يدوّي صوت المدافع لا يتوقف أبدًا المعلقون الإعلاميون في محطات التلفزة عن الثرثرة" .
ما لبثَ القتال الأخير بين إسرائيل وحماس يبتدئ حتى استبدَلت جميع القنوات التلفزيونية الكبرى في إسرائيل برامجها اليومية ببرامج إخبارية "خاصة" تَعْرِض على مدار الساعة أحدث الصور: صاروخ يطير عبر السماء في ظلمة الليل، وفجوة في سقف منزل تعرَّض للقصف، ومجموعة من جنود الاحتياط بانتظار التعليمات.
وهذا في الواقع هو سلوك القنوات التلفزيونية الإسرائيلية في كلِّ المعارك الأخرى التي خيضت في الأعوام الأخيرة، لكننا نريد هنا التركيز على تصعيد أعمال العنف مؤخراً بين إسرائيل وحركة حماس في قطاع غزة.
ففي هذه البرامج يأتي دور معلقين يُعدُّون من الخبراء، ويُوصَفون جميعاً بأنهم رجال يتمتعون بسنين من الخبرة بحكم خدمتهم في الجيش الإسرائيلي أو الموساد أو جهاز الشاباك (الأمن الداخلي) الإسرائيلي. وهم كلهم رجال قد شاب شعر رؤوسهم، وانتفخت "كروشهم"، وبلغوا من الكِبَر عِتيّا. ثم يُقال إن كل منهم يعرف بالضبط ما الذي يجب على إسرائيل فعله من أجل القضاء على حركة حماس إلى الأبد.
زِد على ذلك أنَّهم جمعياً كانوا جلسوا في الحروب الأخيرة - قبل عامين أو أربعة أو ستة أعوام - في الاستوديوهات نفسها، وتحدَّثوا فيها بلهجتهم ذاتها، التي تنم عن الخبرة والمعرفة حول الأشياء نفسها، واقترحوا الحلول نفسها، بيد أنَّهم نسوا اليوم أنَّ حلولهم الحالية لم تنجح كذلك في المرَّات السابقة.
بل إنََّ منهم مَن يؤدّي دور المشجِّع المصفِّق للجيش، طالباً المزيد من الدماء والنار. ومِن مثل هؤلاء المعلقين: المعلق العسكري روني دانيال الذي يعمل لصالح القناة الإخبارية الإسرائيلية الثانية. فقد أعلن المعلق روني دانيال مؤخراً أنَّه يريد رؤية تدمير شامل وواسع النطاق في هذه العملية الإسرائيلية، في إشارة منه إلى ما يشبه الدمار الواسع الذي أصاب المناطق السكنية في بيروت في حرب لبنان الثانية عام 2006، وهو الدمار الذي أدَّى في نظر الإسرائيليين إلى "نهاية الحرب والانتصار على حزب الله".
وما أن فرغ روني دانيال من حديثه حتى اتَّهمه عضو الكنيست العربي الدكتور أحمد الطيبي، الذي كان يجلس بجانبه في الاستوديو بأنَّه يُشجِّع على قتل الأطفال والأُسَر في غزة، ثم اندلعت مُلاسنة كلامية صاخبة بينهما.
الرأي الآخر غير مرغوب
من السهل التنبُّؤ، في أوقات الحرب، بنوع التغطية الإعلامية التي يقدِّمها الإعلام الإسرائيلي، فمن المعروف أنَّ آراء القنوات الإسرائيلية الرئيسية الثلاث (الأولى والثانية والعاشرة) تتماشى مع ما يراه الجيش الإسرائيلي والمتحدِّثون باسم الحكومة الإسرائيلية، ولا تبيِّن إلاَّ جانبًا واحدًا من الأحداث - وكأنَّها تعزف النغم نفسه في جوقة غناء واحدة – فتبدو الأصوات التي تقدِّمها منسجمة، ولكن عندما يخرج بعض المدعوِّين عن السرب في برامجها، مثل النائب الدكتور أحمد طيبي، يتم استبعادهم على الفور.
ولا تبذل هذه القنوات الجهد الضروري لتقديم عمل صحفي حقيقي إلاّ نادراً - فهي لا تقوم بأي بحث ولا تطرح أية أسئلة صعبة، بالإضافة إلى أنَّها لا تتقصى عن أية حقائق موضوعية لتعرضها للجمهور.
بل إن هذه الظاهرة تبدو أكثر وضوحاً في الصحافة الإسرائيلية. على سبيل المثال: صحيفة "إسرائيل هايوم" التي يموِّلها أحد أنصار نتنياهو، وهو شيلدون أديلسون، تقف تمامًا مع أي قرار تتَّخذه الحكومة. أمَّا صحيفة يديعوت أحرونوت، فهي تُعَدّ في الوسط السياسي معارضة لِنتنياهو، ولكنها تؤكِّد في الوقت نفسه على وطنيَّتها وانحيازها على الدوام، تمامًا مثلما هي الحال لدى صحيفة معاريف المهدَّدة بالانقراض. وصحيح أنَّ صحيفة هَأَرِتْس هي الصحيفة الوحيدة التي تعرِض المواقف المعارضة والليبرالية، لكنّ مستقبلها التمويليّ مُعرَّض حالياً للخطر.
علماً بأنّ الإذاعة في إسرائيل موزَّعة ما بين: راديو "كُل إسرائيل" المموَّل من الحكومة ويؤثِّر فيه كثيرًا ممثِّلو الحكومة والمسؤولون، وراديو الجيش الإسرائيلي ويُعتبر أكثر انفتاحًا مما يبديه اسمه من الوهلة الأولى، ولكنه مع ذلك يخصع لسلطة الجيش، كما ينص اسمه على ذلك.
إعلام لا يخضع للرقابة
وأمام هذا التوجّه الواضح لوسائل الإعلام التقليدية في النزاع الراهن تمثِّل وسائل الإعلام الاجتماعية مثل موقع الفيسبوك وتويتر والمدوَّنات وكذلك منتديات الحوار على الإنترنت وسيلة بديلة ضرورية للتعبير عن المستجدات والآراء ووجهات النظر.
وبطبيعة الحال تستِخدم كذلك الهيئات والمؤسَّسات الرسمية، مثل مكتب رئيس الوزراء والناطق الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي والسياسيون، وسائل الإعلام الاجتماعية الجديدة. كما أنَّهم كانوا أثناء العملية العسكرية مثل جميع الآخرين يغرِّدون على موقع تويتر ويكتبون تعليقاتهم ويضعون إعجاباتهم. ولكنهم يمثِّلون هنا، في وسائل التواصُل الاجتماعي، وعلى عكس ما عليه الحال في وسائل الإعلام التقليدية، صوتًا منفرداً فقط من ملايين الأصوات.
أما في وسائل التواصل الاجتماعي، فلا يوجد لديهم أي تأثير على ما يتم نشره ولا يستطيعون كذلك الاستمرار في فرض رقابتهم مثلما يفعلون حتى الآن في وسائل الإعلام التقليدية - لا عن طريق المال ولا باستخدام القوة. لذلك فإنَّ وسائل الإعلام الجديدة تمتاز بكونها أكثر تعدّدية وانفتاحًا وصدقًا، وهي لهذا السبب أيضًا تحظى بقدر أكبر من الأهمية والمصداقية.
ففيها يتم طرح الأسئلة الصعبة التي يتم تجنّبها في وسائل الإعلام التقليدية، وفيها يتم التشكيك بالتصريحات التي يؤكِّدها الجميع باعتبارها حقائق، وفيها يجد المرء ردود الفعل الأسرع ويستطيع معرفة ما يدور من نقاشات ساخنة.
كما أنّ الأجواء السائدة فيها مرِنة ومسلية، بعكس الأجواء في استوديوهات القوات الإخبارية التي يظهر فيها رجال متجهمون بوجوه قاتمة. وبالتالي تُشكِّل وسائل الإعلام الاجتماعية صمّامًا مناسبًا للتنفيس النفسيّ وللتخفيف من الضغط.
من الممكن أن تكون متابعة الأخبار على موقعي تويتر وفيسبوك أمرًا مرهقاً، لأنَّ من يتابع الأحداث فيهما يجد كمَّاً كبيراً من الكراهية والتعامل بعشوائية واليأس الذي يشعر به الكثير من الناس. ولكن مع ذلك، يظهر الشعور بالانتماء إلى المجموعة، وهو شعور يخلقه جميع الناس على الإنترنت بحكمتهم وفكاهتهم، كما أنه شعور مطمئِن للغاية. إذ لا يشعر المرء هنا على الأقل بأنَّه وحيد ومعزول.
كسر الحصار الإعلامي
سوف نرى في المستقبل إن كان هذا النوع الجديد من وسائل الإعلام سيغيِّر وجهات نظر الناس وإدراكهم. ففي وسائل التواصُل الاجتماعي، يكوِّن كلّ فرد لنفسه مزيجًا من الأشخاص والمؤسَّسات كمصدر خاص به، يأخذ منه المعلومات. وبناءً على ذلك، يشعر الأفراد بانتمائهم إلى طرف ما: فهم لا يتابعون إلا الأخبار والآراء التي لا تتعارض مع وجهات نظرهم. وفي النهاية، ينحاز الجميع لأنفسهم.
وبالإضافة إلى ذلك تتيح وسائل التواصُل الاجتماعي - بعكس وسائل الإعلام التقليدية – إمكانيات تواصلية غير محدودة، فلا توجد فيها أية قيود تحصر المرء ضمن وجهات نظر وآراء: تتحكم بكلِّ شيء يتم كتابته أو بثه. وفي وسائل التواصُل الاجتماعي يُعتَبَر كلّ شخص محرِّر موضوعاته. كما أنَّ كلَّ شخص يستطيع أن يختار بنفسه ما يريد.
وكذلك تتيح هذه التعدّدية وتنوّع الأصوات المجال لوصول الحقائق وانتشارها، وهكذا تشق الحقائق طريقها لتصل وتنكشف وتجد الأفكار طريقها للانتشار. ولهذا السبب ستكون عملية إيصال المعلومات الموجَّهة وغسل الأدمغة أكثر صعوبة في المستقبل - وهذا تطور إيجابي.
عساف غافرون
ترجمة: رائد الباش
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2012
ولد الكاتب الإسرائيلي عساف غافرون عام 1968 في القدس ونشأ فيها. ودرس في لندن وفانكوفر. ويعيش الآن في تل أبيب. صدرت له مؤخرًا روايته "اغتيال جميل" (مترجمة إلى الألمانية عن دار نشر لوختَرهاند)، وفي هذه الرواية يسلط الضوء على العوالم الداخلية لإسرائيليّ يقع ضحية الإرهاب وحياة فلسطيني يقوم بعملية انتحارية.