فشل إسرائيلي ذريع في توظيف لغة القوة
يبدو أنَّ العملية العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة قد تحوَّلت إلى فشل سياسي مؤلم لإسرائيل، إن لم يكن حتى فشلاً عسكريًا. ولم يعد يهم إن كان القصف المتبادل توقَّف قبل أو بعد الحملة العسكرية الإسرائيلية البرية التي كانت مقررة في غزة، وذلك لأنَّ حركة حماس قد حقَّقت هدفها، أي الاعتراف بها كشريك في مفاوضات وقف إطلاق النار، كقوة سياسية.
حاول إيهود باراك منذ شهر تشرين الأوَّل/أكتوبر 2000 إقناع العالم بأنَّه لا يمكن الاعترف بحركة حماس كشريك مفاوضات. ولكن مع ذلك يبدو الآن أنَّ هذا الموقف قد تغيَّر، زد على ذلك أنَّ مفهوم "الشريك في المفاوضات" يتم تحديده تمامًا كما تريد حركة حماس.
قوَّة الإسرائيليين تفقدهم بصيرتهم
وتكمن المشكلة الأساسية التي يعاني منها الإسرائيليون في كونهم لا يستطيعون التفكير إلاَّ في منطق القوة. وغالبًا ما يفقد الطرف الأقوى بصيرته بسبب قوَّته، ولا يكون قادرًا على معرفة مدى حدوده - أو أنَّه لا يعرفها إلاَّ بعد فوات الأوان.
وفي أحسن الأحوال تتعرف إسرائيل مع مرور الوقت على هذه المشكلة، وهذا يؤدِّي إلى إعداد أرضية للمفاوضات. ولكن عادة ما يتم التوصّل إلى ذلك القيام بعد القيام بعملية قوية، وعندئذ كثيرًا ما يكون وقت إجراء المفاوضات قد تأخَّر كثيرًا.
علماً بأنه بإمكان عدم القدرة على معرفة حدود القوَّة أن يؤدِّي إلى انهيار نظام ما أو حتى إمبراطورية برمَّتها - وهذا ما حدث للاتحاد السوفييتي نتيجة رفضه التخلي عن السلطة في أفغانستان. في حين تمكَّنت الولايات المتحدة الأمريكية من النجاة بنفسها حين انسحبت من فيتنام، وكذلك كانت الحال مع إسرائيل حين انسحبت من لبنان في عام 2000.
لم تكن إسرائيل على استعداد للتفاوض مع مصر إلاَّ بعد حرب عام 1973 - هذه الحرب التي شكَّلت انتصارًا عسكريًا، غير أنَّها كانت أيضًا هزيمة سياسية. وكذلك مثَّلت حرب لبنان في عام 1982 فشلاً ذريعاً لإسرائيل، سياسيًا وعسكريًا، أدَّى في نهاية المطاف إلى الاعتراف الإسرائيلي الرسمي بالفلسطينيين في مطلع التسعينيات. وكذلك أدَّت الانتفاضة الأولى في نهاية المطاف إلى حمْل رئيس الأركان الإسرائيلي على الحيود عن الحلّ العسكري، وإلى جعْله يتبنى المسار السياسي.
وعندها فقط فهم الساسة الإسرائيليون مضمون الرسالة، وبدؤوا بإجراء المفاوضات السياسية. ولكن مع ذلك كانت المشكلة أنَّهم حاولوا، حتى بعد الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، فرض تسوية على الفلسطينيين، بدلاً من التفاوض معهم في مفاوضات جادة.
العنف باعتباره حلاً وحيدًا
وفي الواقع يبدو وكأنَّ إسرائيل لا تجيد التفكير والحديث، منذ آخر "محاولة تفاوض" جادة أجريت في شهر تشرين الأوَّل/ أكتوبر 2000 إلاَّ بلغة القوة، وفق شعار: يجب علينا، نظراً لعدم وجود "شريك مفاوض"، مساندة القوّات الإسرائيلية في تحقيق النصر. وهكذا لم يعُد هناك لا يسار ولا يمين، وبات الجميع يتبنّون حلول العنف والخطوات الأحادية الجانب.
وبعكسنا، نحن الإسرائيليين، أدرك الفلسطينيون - مثل أي شعب ضعيف لا يملك دولة - أنَّهم غير قادرين على التغلب على إسرائيل. وحتى إن كانوا يستخدمون القوة والعنف، فهم يحاولون بذلك إيصال رسالة سياسية.
ولو كانت المسألة لدى الفلسطينيين هي مسألة مقارنة للقوة، فإنَّ إسرائيل ستبقى دائمًا هي الطرف الأقوى. ولهذا السبب فإنَّ الصواريخ التي يتم إطلاقها من قطاع غزة هدفها سياسي قبل كلِّ شيء؛ والغاية منها تذكير الإسرائيليين بأنَّهم لن ينعموا بالسلام طالما ظلّ قطاع غزة محاصرًا ومعزولاً اقتصاديًا.
وبدورها تريد حركة حماس أن تبيِّن للفلسطينيين ولبقية دول العالم أنَّها تعمل بمسؤولية من أجل تلبية احتياجات مواطنيها. ولذلك فإنَّ مطلبها الرئيسي هو فتح المعابر الحدودية المؤدِّية إلى قطاع غزة، من أجل خلق بيئة خالية من النزاعات ورفع مستوى معيشة السكَّان وضمان الاستقرار السياسي.
تحَسُّن مكانة حماس
لن تنجح إسرائيل في وقف عمليتها العسكرية من دون الالتفات إلى حماس. هناك مؤشر آخر على الفشل السياسي الذي مُنيَت به العملية العسكرية الإسرائيلية، وهو أنَّ حركة حماس كانت قادرة على إطلاق صواريخها على تل أبيب والقدس، وقد حقَّقت بذلك هدفًا آخر من أهدافها الاستراتيجية؛ إذ تمكَّنت من إثبات قدرتها (مرة أخرى) على الصمود أمام الضغوطات العسكرية الإسرائيلية.
وبالتالي كلما حاولت إسرائيل فرض وقف إطلاق النار من خلال تصعيدها العنف، تحسَّنت مكانة حماس وضَعُفَت في المقابل هيبة إسرائيل.
تُظهِر الأحداث الراهنة أنَّ حركة حماس تمكَّنت من تحسين سمعتها أثناء الربيع العربي في العالم العربي والمجتمع الدولي. كما تُبيِّن عملية "عمود السحاب" أيضًا أنَّ حركة حماس هي الأقوى في أية حالة، حتى وإن تم التوقيع على اتفاق غير مشروط لوقف إطلاق النار؛ وذلك لأنَّها تجاوزت الهجوم الإسرائيلي، وستكون قادرة على تجهيز نفسها والتسلح استعداداً لهجمات مقبلة. وبناءً على ذلك فإنَّ فرصة إسرائيل الوحيدة لمنع المزيد من العنف هي التفاوض مع حركة حماس.
ليس لدي أية فكرة عما كان يدور في خَلَد صنَّاع القرار في تل أبيب عندما اتَّخذوا قرار الهجوم على قطاع غزة. ولكنهم كانوا وبكلِّ تأكيد قصيري النظر، وربما أيضًا خانهم حدسهم بسبب الانتخابات المقبلة مثلما يقول البعض، وذلك لأنَّهم لم يحدِّدوا أية أهداف سياسية لهذه العملية، ولم يوضِّحوا كيف يتصوَّرون نهاية هذا الصراع وما سيحدث في الفترة التي تليه. وفي الواقع آمل في أن يبدأ قريبًا أحد صناع القرار في إسرائيل في التفكير تفكيرًا سياسيًا؛ ذلك لأنَّ الديمقراطية تقوم على فكرة حلِّ النزاعات عن طريق الحوار ولا تقوم على التعسّف وفرض الرأي من طرف واحد.
ليف غرينبيرغ
ترجمة: رائد الباش
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2012
يعمل ليف غرينبيرغ أستاذًا لعلم الاجتماع السياسي في جامعة بن غوريون في تل أبيب، وشارك في تأسيس الحركة الطلابية العربية اليهودية التي تأسَّست عام 1974. وصدر له في عام 2007 كتاب:
" خطاب الحرب ووََهْم السلام - إخفاق القيادة والسياسة والديمقراطية في إسرائيل"
"Imagined Peace, Discourse of War: The Failure of Leadership, Politics and Democracy in Israel, 1992-2006"