نبضات قلوبكم تتردد في قلبي - إهداء لشجعان كورونا
كتاب "النبي: رواية مصورة" للرسام بيت كاتز هو ترجمة بتصرف ورسم بصري لرواية "النبي"، وهو كتاب لا يزال -رغم التعديل- مثل الرواية الأصلية، يتألف من قصائد نثرية تصوّرُ تأمّلات منفى المصطفى (النبي) إبان عودته إلى الوطن من مدينة أورفليس، وتبقى هذه القصائد النثرية سليمة من دون تغيير وإن كانت بترتيب مختلفٍ.
ولكن إضافة إلى القصائد النثرية، تَظهرُ سرديةٌ أخرى أكثر حداثة، لتكشفَ عن التأثير غير المنتهي لكتاب "النبي" على قرائه: إذ تناضل فنانة معاصرة -اسمها "آل"- من أجل إدخال والدها المريض إلى المشفى بمساعدة من صديقها الممرض أندرو، الذي يعطيها نسخة من كتاب النبي على أمل أن يساعدها الكتاب في تجاوز هذه المرحلة الصعبة التي تمرُّ بها، كما ساعده هذا الكتاب من قبل.
وتتداخلُ السرديةُ المعاصرةُ لـِ كاتز التي تتشكّلُ من الفنانة آل مع القصائد النثرية لجبران التي تُصوِرُ النبي المصطفى في أنحاء الرواية المصورة، مما يسمح لهما بالتعبيرِ موضوعياً بعضهما عن بعض.
وبينما تتعلمُ آل من قراءة الكتاب الذي أعارها إياه صديقها، يبدو أنّ سرديتها الحديثة -التي تدورُ أحداثها في الموقعِ الأكثر مركزية في عصر فيروس كورونا الذي نعيشه، أي في غرفة المشفى- تعكسُ الألم والصدمة والضياع والتأمل الذاتي وفحص الذات اللذين عبّر عنهما النبي المصطفى في كلماته المُلهِمة عند وداعه لأبناء أورفليس قبل ركوبه السفينة عائداً للجزيرة التي وُلِدَ فيها. كما تنعكسُ هذه المواضيع الأصلية في الجمالية التي أنشأها كاتز، برسوماته الناعمة والحالمة والرومنسية.
"نعم، قد عرفت فرحكم وحزنكم"
بالنسبةِ للباحثين في الرومانسية أو في جبران وحده، فيمكنُ لرواية كاتز المصورة -كما في رسوماته وترجماته السابقة للكلاسيكيات مثل "فن الحرب وفرانكشتاين"- أن تُقدِّمَ مدخلاً إلى الحركة الأدبية الفنية وأحد أهم شخصياتها الإشكالية، إشكالية بمعنى تقسيم الأصوات الأكاديمية والشعبية.
في الواقعِ، ربما بدَت قصائدُ جبران النثرية الرومانسية والحسية وقد عفا عليها الزمن أو حتى مبتذلة حين نُشِرت لأول مرة. ومع ذلك، بالنسبةِ للباحثين في الرومانسية والعاطفية، فإنّ العاطفة في صوت جبران -رغم انتقادات النقاد- هي بالضبط ما ينبغي تسليط الضوء عليه، بما أنّ جبران يُنسب إليه الفضل في إعادة إحياء الأسلوب الأدبي للحركة بكتابه "النبي".
إضافة إلى ذلك، قيل إنّ النبي المصطفى يكشفُ عن الفهم الرومانسي لجبران لوظيفة الشاعر، في قدرته كمدرس وصاحب رؤية على إدراك ما يجد الناس صعوبة في صياغته بالكلمات، والتعبير عنه بشكل بديهي. وكما يقول المصطفى لشعب أورفليس المتجمّع حوله:
"نعم، قد عرفت فرحكم وحزنكم، وفي هجوعكم كانت أحلامكم أحلاماً لي... فكانت ترتسم على صفحات مرآتي قُنَنكم الشاهقة ومنحدراتكم المتعرجة، حتى قطعان أفكاركم ورغباتكم العابرة عليها".كما عبّر إمرسون أيضاً عن الأدوار المزدوجة للشاعر والنبي: "علامة الشاعر هي أنه يعلن عن ذلك الذي لم يسبق لأحد التنبؤ به...فهو الراوي الوحيد للأخبار، لأنه كان حاضراً وعلى علمٍ بالمظهرِ الذي يصفه".
وحين يُطلبُ من المصطفى أن يحدّث شعب أورفليس عن المحبة والصداقة والعمل والألم قبيل رحيله، فإنه يستجيب من دون ترفع أو تمييز نفسه عمن حوله. إذ تُميّزُ صوتَ النبي النزعةُ الإنسانيةُ الرومانسيةُ التي تبدو في خدمةِ الشعبِ وليست معارِضةً لهم أو ساخِرةً منهم. وبالمثلِ -فإنّ رسومات كاتز الحالمة والناعمة للمصطفى وأبناء شعب أورفليس بوجوههم المعبّرة وعيونهم المجعدة اللطيفة- تعكسُ المودة التي أنشأها.
والعلاقةُ بين الفرد والطبيعة تُصَوَّرُ في لوحات تجمع بشكل سريالي البشر والنباتات والحيوانات مع بعضهم لتشكيل زخارف عربية. أما استخدامُ الإبحار في "النبي" -كنايةً عن الملاحة العاطفية للشدائدِ فمرسوم في لوحتين- الأولى عبارة عن بحر مستقر يحتضنُ سفينة والثانية بحر هائجٌ يهدّدُ بقلب السفينةِ، مؤكداً على العلاقةِ بين باطن الفرد ومحيطه الطبيعي.
في الواقعِ فإنّ رسوم كاتز التفصيلية والنابضة بالحياة، تلمّحُ إلى المُثلِ الرومانسية لوحدة الفرد والطبيعة. بيد أنها أيضاً تكشفُ انقساماً، إذ يمكن العثورُ على أنماط متداخلة أخرى تقسم السماء المليئة بالنجوم إلى قسمين، أو تُبرِزُ عناصر من الطبيعةِ -حيوانات ونباتات وحبوب- أمام خلفية الموقعِ الذي تحولت فيه إلى وسائل: إلى مطبخ وفرن ومائدة معدّة لتناول وجبة طعام.
إعادة تأطير ما لا ينتهي تأثيره بمرور الزمن
تحويل كاتز لكتاب جبران "النبي" إلى كتاب عصري في إطار سردية حديثة لم يُفقِده المثل الرومانسية الموجودة فيه: بالطبع، معاصرة الموقع المركزي لحزن آل، أي المشفى، مرسومة بألوان خافتة وخطوط نظيفة، تتنافرُ مع خلفيةِ السردية، الخلفية المفعمة بالحياة والمورقة التي تلتفُ حول الزخرفات العربية المتداخلة.
ومع ذلك فإنّ تأثيرَ السردية المؤطَّرة على الإطار غير متأثّرٍ بالزمنِ: فالروابطُ التي يهدفُ المصطفى إلى الحفاظِ عليها مع الآخرين، ومع محيطه، بصوت إنساني عميق -"وكانت نبضات قلوبكم تتردد في قلبي وسحائب لهاثكم تنتشر على وجهي، وقد عرفتكم"- تقودُ آل اليائسة والتائهة إلى إعادة التواصلِ بمجتمعها في محاولة منها لتجاوز حزنها.
ولا عجب أن يهدي كاتز كتابه إلى "العاملين في المجالِ الطبي والعاملين الرئيسيين الشجعان الذين يخوضون معركةً على الخطوطِ الأماميةِ ضد فيروس كورونا في جميع أنحاء العالم بالنيابةِ عن البشريةِ". وبالنظرِ إلى غرفةِ المستشفى باعتبارها الموقع الرئيسي للصدمة في عصرنا، فإنّ هذا التوقيت المناسب للحكاية الحديثة ربما يتمحورُ حول فهم المجتمع بوصفه يساعدُ على البقاءِ والنجاةِ ويجعلهما ممكنين.
وكما يقولُ النبي لشعب أورفليس: "إن هذا الإنسان العظيم هو بالحقيقة كالسنديانة الجبارة المغطاة ببراعم التفاح الجميلة؛ فقدرته تقيدكم بالأرض، وشذاه يرفعكم إلى أعالي الفضاء، وفي عزمه وصبره على عواصف الطبيعة أنتم خالدون".
نهرين الموسوي
ترجمة: يسرى مرعي
حقوق النشر: موقع قنطرة 2020
[embed:render:embedded:node:42512]