"الفكر العربي المعاصر لا يحمل من هذه السمة إلا اللغة العربية"
فهمي جدعان مفكر فلسطيني، دكتوراه الدولة في الآداب من جامعة باريس (السوربون). أستاذ جامعي للفلسفة والفكر العربي الإسلامي الحديث. له إصدارات عديدة أبرزها: "أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث"، و"المحنة، بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام"، و"خارج السرب. بحث في النسوية الإسلامية الرافضة وإغراءات الحرية". أصدر مؤخرا "سيرة محكية" بعنوان "طائر التم-حكايات جنى الخطا والأيام". حائز على عدة أوسمة وجوائز علمية وثقافية رفيعة.
أصدرت مؤخرا "سيرة محكية. طائر التم- حكايات جنى الخطا والأيام"، وذلك بعد عقود من الانشغال تدريسا وبحثا في الحقل الفلسفي الأكاديمي. لماذا تذهب إلى هذا النوع الأدبي الإبداعي؟
فهمي جدعان: فعلت ذلك استجابة لدواعي المكون الوجداني، الذي ظل عندي مقموعا بسلطان العقل، الذي يفرضه الآمر الأكاديمي العملي، الذي يقصي بطبيعته المكونات الأخرى في الكينونة الإنسانية. هو بمعنى ما تحرير وتحرر من هذا الآمر المستبد ورد لحقوق العقل الوجداني التي غيبها العقل المعرفي الموضوعي أو الأداتي.
في هذه السيرة عرضت في إطار إنساني لعدد من الوجوه الفكرية، التي اقترنت بمسيرتك الأكاديمية والفكرية، لكنك لم تتطرق إلى أعمالهم الفكرية تحليلا أو مراجعة أو نقدا. إذا خرجنا من السياق الحكائي للسيرة وسألناك عن محصل موقفك أو تقييمك لجملة الحصاد الذي تبلور فيه الفكر العربي المعاصر-أقول المعاصر لا الحديث- ماذا تقول؟
فهمي جدعان: سأكون قاسيا في الإجابة عن هذا السؤال الذي يقلقني منذ زمن بعيد. وسأختزل هذه الإجابة في القول إنه فكر "غير عربي"، وإنه فكر ينضح بما أسميه "الهجران". هو غير عربي، لأنه لا يحمل من هذه السمة إلا اللغة العربية، لكنه في الأغلبي الطاغي من تجلياته صدى للمذاهب والمناهج، التي نبتت في بيئات وثقافات وحضارات غير عربية، حين أنظر في أعمال كبار المفكرين والفلاسفة العرب المعاصرين لا أتبين فيها- ماخلا حالات نادرة- إلا منتجات هي صدى للمذاهب والمناهج التي نجمت في الغرب في القرن المنصرم: الماركسية، والبنيوية والتأويلية والتاريخانية والفينومينولوجيا والتفكيكية والتحليلية.. وجميعها مشتبك بالمعطيات الثقافية والتاريخية والسياسية والموضوعية والحضارية الغربية، ولا شيء منه يعكس ما هو عربي من هذه المعطيات.
هي بكل تأكيد تمثل هجرانا صريحا لمبدأ النظر في المعطيات العربية المباشرة ومحاولة استنباط ما يطابقها من نظر وفعل، أو الكشف عن مبادئها التفسيرية مثلما فعل ابن خلدون مثلا. وبالطبع هذا لا يعني أبدا إغفال النظر أو هجر وإنكار التواصل مع معطيات الثقافة الغربية والإفادة بل والاستخدام لما هو ناجح فاعل مؤثر، ومطابق فيها للأوضاع والأحوال والمتطلبات العربية، لكن لا استيرادها وزرعها على ما هي عليه هناك مثلما فعلت جملة المفكرين الذين نسميهم عربا.
هل هذه دعوة للعودة إلى التراث؟
فهمي جدعان: أبدا هي دعوة للنظر في المباشر تحليلا ونقدا واستشرافا لما يطلبه هذا الواقع المعطى، وليس أخذا بما عرفناه من مقاربات لمسألة التراث، تلك التي تتطلب استئنافه أوتثويره أو تأويله أو غير ذلك. ما أرى أن على المفكر الذي يليق به نعت "المفكر العربي" هو أن ينظر في المعطيات المباشرة لوجوده وينطلق في التفكير منها أولا وقبل أي شيء آخر. وفي مسألة التراث أنا دافعت في أول أعمالي العربية عن مبدأ "إبداع التراث".
كأنك تذهب إلى ما ذهب إليه عبد الله العروي، أعني القطيعة مع التراث؟
فهمي جدعان: مرة أخرى: أبدا. عبد الله العروي هو واحد من هؤلاء المفكرين الذين أشرت إليهم قبل قليل، فكر مستعار، هجراني، لا أصالة ولا ابتكار. ثم هو غير منصف وغير عادل حين يلقي بالتراث في سلة مهملات التاريخ. لا شك في أن جزءا كبيرا من التراث قد فقد القيمة والمعنى، لأن معطيات كثيرة حديثة ومعاصرة قد تجاوزته. لكن ثمة وجوه عديدة منه مازالت وستظل حية فاعلة مؤثرة: معرفيا، أو ثقافيا وجماليا. اللغة العربية حامل رئيس من حوامل التراث.. القرآن من التراث على الرغم من أنه وحي. الأدب في شعره الخالد ونثره الفذ من التراث. الفنون والآثار العمرانية من التراث.. الخ. كل هذا نتمثله اليوم ونتذوقه ونحياه. أما ما لا ينبغي أن نتعلق به فهو أن نزعم أننا نستطيع تقويم حاضرنا وبناء مستقبلنا بالعودة إلى التراث. وعندي أن فكرة "القطيعة" فكرة تنضح بالحيدة عن العدل والإنصاف.
والإسلام الذي حكمته في العقدين الآخرين رؤى ومواقف عملية صراعية راديكالية وممارسات دنيوية عنيفة، اقترنت بما نعت بالإسلام السياسي، هل هو في حقيقة الأمر إيديولوجيا سياسية لا أكثر ولا أقل مثلما ترى هذه الحركات؟
فهمي جدعان: لا هو ليس إيديولوجيا سياسية. هو منظومة إيمانية عقيدية أخلاقية سلوكية في المقام الأول. لكنه، تاريخيا، اقترن بإنشاء دولة تقوم عليه وترعاه وتنثره. هذه المهمة انتهت في رأيي. لكن المسلم الذي يحيا في العالم وفقا للمبادئ الأساسية التي يقوم عليها دينه، وبما هو كائن اجتماعي يحيا في مركب اجتماعي سياسي لا يملك إلا التفاعل مع قضايا هذا الاجتماع الذي يحتل فيه السياسي منزلة مركزية. وانخراطه في قضايا هذا الاجتماع السياسي يفرض عليه مواقف موافقة للمبادئ العليا لاعتقاده. لكن هذا لا يعني بالضرورة التعلق بدولة "خلافة" أو بدولة "دينية" أو بحزب ديني-سياسي لا يتقوم الإسلام إلا به. المبدأ الأساسي المطلق الذي يحكم عندي هذه المسألة هو توفر الدولة العادلة فقط، وحيثما توفرت الدولة العادلة فثمة شرع الله مثلما يقول ابن القيم.
في كتابك "في الخلاص النهائي"، ولتجاوز المأزق العربي، اقترحت صيغة "تضافرية" بين النوى القاعدية للنظم الفكرية العربية الإسلامية، والليبرالية والعلمانية، والقومية. هل لقيت هذه الصيغة صدى إيجابيا في الحياة الثقافية والعملية العربية؟ وهل مازلت تعول على هذا المذهب؟
فهمي جدعان: للأسف الشديد لا. لم يلتفت إليها أي من التيارات التي أشرت إليها. وأنا الآن أعلم السبب على وجه الدقة. لأن جميع هذه التيارات، وبلا أي استثناء، وثوقية دغمائية، أصولية، راديكالية، إقصائية. العقل التواصلي غائب عنها جميعا. كلها تدعي الديمقراطية والتسامح والحرية لكنها جميعا تبطن أنانيات جوفاء فاشية وكارهة. كلها يكذب، ويكذب بوقاحة، وكلها مذنب، ومذنب بلا خجل. وهي جميعا تتحمل قدرا عظيما مما يعصف بالاجتماع والوجود العربيين. تسألين إذا كنت ما أزال أعول على هذه الصيغة التضافرية، الجواب: لا بالطبع. وليس ذلك لأن الصيغة طوباوية أو غير سديدة في ذاتها وإنما لأن أصحاب النظم، الذين تتوجه إليهم هذه الأطروحة انتهوا جميعا إلى الإخفاق الفاجع وبات أي تعويل عليهم أمرا خارقا وممتنعا. ثم إنها تتطلب عقلا وفعلا ديمقراطيين حقيقيين، وأنا بكل صراحة لا أتبين في مدعي الديمقراطية العربية إلا أنوات فردانية تلحق بها اللوثة الديماغوجية أو العقل الاستحواذي أو الشعبوية المقيتة الفاشية الخفية.
شهدت ثلة من الدول الأوربية منذ عقد أو عقدين صعودا قويا مدويا لليمين واليمين المتطرف طالت بعض مظاهره الإسلام والمسلمين والمقدس الديني الإسلامي، وفي فرنسا بالذات، وخاصة منذ واقعة "شارلي إبدو" صعد اليمين الفرنسي، باسم الحرية والعلمانية، من خصومته وعدائه للمسلمين وروج إيمانويل ماكرون للمذهب بما نعته بالإنعزالية الإسلامية وبأن ما يقوم به يهدف إلى الدفاع عن الحرية والعلمانية وقيم الجمهورية. ما رأيك؟
فهمي جدعان: مما يؤسف له كثيرا أن يكون من بين تلاميذ الفيلسوف الأخلاقي الكبير بول ريكور تلميذ على شاكلة إيمانويل ماكرون. يتبنى هذا الرئيس، بنهج "نضالي" مسرف الدفاع عن العلمانية في شكلها الراديكالي القبيح، المعادي للحرية وللعدالة والإنصاف. لأن الحقيقة هي أن ما يجري إنما هو عملية "عزل المسلمين" وإقصاء لهم عن الفضاء الاجتماعي السياسي الذي يحيون فيه، لا "إنعزالية انفصالية" من جانب هؤلاء وبخاصة الشباب منهم، الذين لا تقبلهم مؤسسات الدولة العلمانية ولا تأبه بهم، وتلقي بهم في ضواحي الفقر والعوز والحرمان.
في حراكه السياسي العلماني أثبت ماكرون أن العلمانية تبغض الحرية وتقصي المخالف وتفتقر إلى العدالة والإنصاف. أما مقولته: "الديانة الإسلامية في أزمة" فهي بكل تأكيد مقولة سوفسطائية مغرضة، لأنه إذا كان ثمة من أزمة هنا فإنها بكل تأكيد ليست في بنية الديانة الإسلامية وإنما في واقع المسلمين ومشكلات حياتهم وأوضاعهم المباشرة والمشخصة والمادية، حيث يعانون الإقصاء والتهميش والعزل لأنهم مسلمون.
لكنهم يتوجسون خيفة من الراديكالية الإسلامية، وبعضهم يخشى من استفحال الوجود الإسلامي في الغرب وتهديده للحضارة الغربية وقيمها!
فهمي جدعان: هذه أطروحة اليمين واليمين المتطرف التي تبلغ في مخياله حدود اللوثة الفوبيائية المرضية. هي وهم خالص بكل المعاني والمقاييس، لأنه ما يدعى بالراديكالية الإسلامية والانعزالية الإسلامية لا يشخص في الفضاءات الغربية إلا في أجواء الفاقة والعزل والإهمال، التي تطال فئات الشباب المحرومة المقصية، وبالتالي الغاضبة، وهي أقلية نادرة لا يعتد بها على الرغم من الاختراقات التي تحدث فيها والتي لا يمتنع أن تكون صدى لدعوات إيديولوجية شاذة تأتي من أماكن بعيدة.
أما ما ينبعث في حدود مواطن اللجوء فإنه من الممكن بل الضروري مقاربته بإجراءات اجتماعية مشخصة عادلة. وأما الذين ترتعد فرائصهم لوجود المسلمين إلى جوارهم فإنهم مبتلون بذاكرة تاريخية مشوهة وبحساسية مرضية من مجرد "حضور المخالف"، إلى جانبهم، وغافلون عن أن الذين يهاجرون إلى بلدانهم ليسوا من "الفاتحين الجدد" وإنما هم من الفارين من العذابات التي يلاقونها في بلدانهم الأصلية الاستبدادبة أو الفاشلة أو الفاسدة التي ينقطع فيها كل أمل، ويطلبون حسن العيش في مواطن جديدة أكثر إنسانية وعدلا وأبعث على الأمل والحياة الطيبة. ثم ينبغي في جميع الأحوال أن يكون حاضرا في البال أن الجماعات المسلمة المهاجرة قد أثبتت على مدار العقود أنها تسهم إسهاما حقيقيا في إغناء البلدان التي استقرت فيها وفي التقدم العلمي والعملي والحضاري في هذه البلدان.
"الحرية آمر قطعي ومن يصادرها شرير أو آثم"
تشير قرائن وشواهد لا عد لها ولا حصر إلى أن المرأة المسلمة تعاني اليوم في الفضاءات الغربية ما يدرك حدود الاضطهاد والتعدي والإساءة والقمع. وذلك على وجه التحديد بسبب الحجاب الذي يتم إلحاقه بالسياسي لا بالديني وبالقهر لا بالحرية وبالإرهاب لا بالإيمان. كيف تنظر إلى هذه الحالة الشائكة؟
فهمي جدعان: نحن نشهد هذا في فرنسا الحالية على وجه الخصوص ولا نشهده في انجلترا أو ألمانيا أو شمال أوروبا إلا نادرا. فرنسا الحالية تبعث من جديد الوجه القبيح للعلمانية، واليوم بشكل منهجي منظم، والحقيقة أن مقولة الحجاب التي تصوب نحوها العلمانية الراديكالية سهامها السامة ليست بنت إيمانويل ماكرون، فهي ترجع إلى عهد جاك شيراك الذي أصدر في العام 2003 قانون حظر الحجاب في المدارس تأييدا لما أوصت به لجنة شكلها لهذا الغرض وكان محمد أركون أحد العناصر البائسة المعززة للقانون. ثم ما لبث هذا الحظر أن اتسع وتجذر ليبلغ عند إيمانويل ماكرون مشكلة الراديكالي، ولأسباب سياسية، لكن الذرائع التي تعلل بها هذا الرئيس اليميني تعلقت أولا وأخيرا بالدفاع عن الحرية وقيم لجمهورية وعن العلمانية.
اقترن النظر والفعل جملة من الإجراءات القمعية والقوانين التمييزية والغرامات والعقوبات التي تطال النساء المسلمات اللواتي يتعلقن بحجابهن لأسباب إيمانية. تم تقييد الحرية لهن وجرؤ فريق على اعتبار ارتداء الحجاب فعلا أو رمزا إرهابيا.
لكن خالص الأمر هو مصادرة الحرية باسم الدفاع عن الحرية وعن قيم الجمهورية العلمانية. قبالة هذه الحالة الشاذة التي تكشف عن الوجه القبيح للعلمانية الفرنسية، وعلمانية الفصل نفسها، أنا لا أقول أبدا أن الحجاب ضرورة دينية أو شرعية، لكنني أقول إنه لا يحق للعلمانية أن تحرم المرأة التي ترغب بفعل إرادي حر في ارتداء الحجاب من هذا الحق، مثلما أنني أقول إنه لا يحق للسلطة الدينية أو الاجتماعية أو الأبوية أن تلزم المرأة بارتداء الحجاب إن هي لم ترغب في ذلك بكامل حريتها وإرادتها. وفي جميع الأحوال- والعلمانية واحدة منها- الحرية آمر قطعي ومن يصادرها شرير أو آثم.
اجرت الحوار: مريم رئيس
حقوق النشر: قنطرة 2021