خبايا الفشل الغربي في أفغانستان
"ربَّما تكون هذه المرة أيضًا مثل المرة الأولى التي استولت فيها طالبان على كابول بين ليلة وضحاها" هذا ما قاله شاب عمره ثلاثون عامًا واسمه أحمد جاويد في يوم السبت 14 / 08 / 2021 عَشِيَّةَ استعادة حركة طالبان سيطرتها على كابول، متذكرًا تمامَ التذكُّر صباح أحدِ الأيامِ قبل خمسة وعشرين عامًا -رغم أنه كان لا يزال طفلًا صغيرًا- حين سيطر مسلحو حركة طالبان الإسلامية على العاصمة الأفغانية لأوَّل مرة.
في ذلك الوقت وصل مسلحو طالبان إلى كابول فجأةً في حين هرب ممثِّلو حكومة المجاهدين بعدما تقاتل هؤلاء وأولئك فيما بينهم لسنوات عديدة، ويبدو أن هذا السيناريو يتكرر من جديد -كما رأى أحمد جاويد- بعد نحو عشرين عامًا من بداية احتلال حلف الناتو لأفغانستان، وأضاف متوقعًا: "لقد أظهرت الأيَّام الأخيرة أنَّ طالبان ستكون هنا في كابول قريبًا".
توقُّعات أحمد لم تلبث أن تحقَّقت بالفعل في اليوم التالي حين دخلت حركة طالبان إلى كابول في تاريخ 15 / 08 / 2021 -بعد تمكنها من السيطرة على جميع مراكز المحافظات الرئيسية الأخرى في أفغانستان خلال الأيَّام القليلة السابقة لهذا التاريخ- وذلك نتيجة تخلى أفراد الجيش والشرطة -في حالات كثيرة- عن مواقعهم في كابول حتى قبل دخول طالبان إلى العاصمة الأفغانية.
وفي الوقت نفسه سارع الرئيس الأفغاني أشرف غني إلى الفرار من البلاد مع حاشيته، بعد فترة حكمه التي تصرَّف فيها كنائبٍ للاستعمار الجديد - كما كان يصفه خلال الأعوام السابقة ليس فقط حركة طالبان بل وحتى أفغانٌ كثيرون ممن لم يكونوا مستفيدين من جهاز دولته الفاسد، وبحسب بعض التقارير فقد أخذ رجال أشرف غني معهم حقائبَ مملوءة بالنقود عند فرارهم.
وبالمناسبة أشرف غني هو نفسه الذي كان قبل عدة أعوام قد قال إنَّه غير متعاطف مع اللاجئين الأفغان مضيفًا أنَّهم على أية حال سيعملون في نهاية المطاف في غَسْل أطباق المطاعم في الغرب، وبعد هروبه كاللاجئين من كابول استولى مسلحو حركة طالبان على القصر الرئاسي وَهَيَّئوا أنفسهم لالتقاط الصور عند مكتبه وفي كلِّ مكان داخل القصر الرئاسي.
وبعد دخولهم القصر الرئاسي بقليل قال أحدُ قادة طالبان الحاضرين خلال مؤتمر صحفي مرتجل لقناة الجزيرة القطرية إنَّ الأمريكيين اعتقلوه وعذَّبوه في معتقل غوانتانامو ثماني سنوات، وعلى الأرجح أن هذا لم يكن من باب المصادفة فقد اتَّضح هنا من جديد أنَّ "الحرب الأمريكية على الإرهاب" عملت على تطرُّف العديد من الأشخاص في أفغانستان - وأنَّ الكثيرين منهم لم ينسوا هذه الحرب حتى يومنا هذا.
السماح للأمريكيين البيض فقط بالصعود إلى الطائرة؟
تتابعت الأحداث في كابول بوتيرة سريعة وتدفَّقت حشود الناس إلى المطار حيث كانت القوَّات الأمريكية منشغلة في إجلاء مواطنيها -ولم تنتهِ الفوضى في المطار حتى في الأيام التالية- وتعلق بعض الأشخاص بطائرة أمريكية أثناء إقلاعها وسقطوا موتى خلال محاولة هروبهم اليائسة، في حين كان جنود أمريكيون يطلقون النار في اتجاه حشد من الأفغان اليائسين.
بعد هذا الحادث قال الصحفي الهولندي الأفغاني والناشط في البودكاست سنگر پيكار: "قُتل أحد أقربائي وقد كان طبيبًا"، وكذلك ادَّعت الكاتبة والناشطة الأفغانية الأمريكية نادية هاشمي أنَّ الأمريكيين من أصل أفغاني تم منعهم جزئيًا من الصعود على متن الطائرة والسبب -بحسب تعبيرها- أنهم لم يكونوا من الأمريكيين البيض البشرة.
هذه المشاهد في كابول أظهرت بوضوح أكثر من أي وقت مضى أنَّ مهمة الغرب في أفغانستان باءت بالفشل. وها هو الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال خطابه في خضم هذه الأحداث لم يتَفوَّهْ حتى ولو بكلمة واحدة حول الأفغان الذين قُتلوا في الحرب الأمريكية على الإرهاب في العقدين الماضيين، وبدلًا من ذلك اتسمت كلماته من جديد بإنكاره الواقع وبالجهل، وهو ما يدل على إنَّ الفائزين الحقيقيين في هذه الحرب ليسوا الجالسين في البيت الأبيض بل في كابول.
لم تكن حركة طالبان قوية بتاتًا إلى هذا الحد بقدرما صارت في هذا الوقت بعد استيلاء مقاتليها -خلال أيَّام وأسابيع فقط- على الكثير من الآليات والمعدَّات العسكرية الأمريكية العالية التقنية، وبعد سيطرة المتطرِّفين من جديد على كلِّ أفغانستان تقريبًا بغض النظر عن ولاية بَنْجْشِير شمال كابول المعروفة دائمًا بمقاومتها لطالبان، وهذا عدا قوَّة قادة حركة طالبان السياسية على الساحة الدولية التي عملوا على زيادتها خلال سنوات سابقة.
وباستيلاء طالبان على السلطة كان لابدّ من من تصحيح تحليلات وتوقُّعات كثيرة برزت في أيَّام سابقة لسيطرة طالبان ومنها مثلًا افتراض وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية أنَّ بإمكان طالبان الاستيلاء على كابول خلال ثلاثين أو تسعين يومًا تالية ولكن في النهاية حدث كلُّ شيء خلال أربعٍ وعشرين ساعة، وحتى أنَّ الكلمات لم تسعف الكثيرين من المحللين الأمريكيين المعروفين في واشنطن فوقف بعضهم عاجزين عن الكلام في موضوع أحداث أفغانستان.
على سبيل المثال وصف المحلل الأمريكي بيل روغيو من مركز الأبحاث الفكرية الأمريكي اليميني المحافظ "مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات" تقدُّمَ طالبان الناجح كواحد من "أعظم الإخفاقات الاستخباراتية خلال العقود الأخيرة"، قائلًا إنَّ استراتيجية طالبان الحربية المُحَنَّكة "في غاية التألُّق"، فقد ركَّز المتطرِّفون في البداية على شمال البلاد قبل استيلائهم على مدن أخرى في جميع أنحاء أفغانستان.
كيف حدث ذلك؟
توجد أسباب عديدة لكلّ هذه الأحداث، فقد تم كبت الكثير من أسباب فشل الغرب وتم تجاهلها طيلة سنوات - ليس فقط لأنَّ الغربيين أرادوا حفظ ماء وجههم بل أيضًا لأنَّهم لا يزالون بعد كلِّ هذه السنوات يجهلون أفغانستان، فقد كانت جميع المحافظات -التي سقطت مراكزها قبل كابول- تخضع عمليًا لسيطرة طالبان منذ سنوات إثر ترسيخ مسلحي طالبان وجودهم هناك: فقد كانوا يعملون ويحكمون في الظلّ وتمكَّن المتطرِّفون في فترة مبكِّرة من الحصول على موطئ قدم لهم في هذه المناطق الريفية، وذلك لأسباب منها الفساد الهائل في العاصمة وكذلك العمليات العسكرية الكثيرة التي نفَّذها هناك حلفُ الناتو وحلفاؤه الأفغان.
فقد تسبَّبت هجمات الطائرات المسيَّرة من دون طيَّار والمداهمات الليلية الوحشية في سقوط الكثير من الضحايا المدنيين بانتظام في القرى الأفغانية، وهذا ما دفع الكثيرين من أهالي الضحايا إلى الانضمام إلى طالبان بطريقة أو بأخرى، وهذا ذاته كان الحال على أرض الواقع على أبواب كابول، وحتى قبل تطوُّرات سيطرة طالبان على كابول بفترة طويلة كان يكفي السفر بالسيارة مسيرة عشرين إلى ثلاثين دقيقة للوصول من العاصمة إلى مناطق طالبان.
غير أنَّ المسؤولين في حكومات الغرب كانوا لا يريدون مواجهة مثل هذه الحقائق وبدلًا من ذلك كانوا مشغولين بأكبر قدر من التملُّق الذاتي ومداهنة الذات متحدثين عن "قيمهم المُقْنِعة" ومركِّزين على إنجازات مفترضة تحقَّقت في أفغانستان منذ عام 2001، ومتحدثين عن ديمقراطية على الرغم من عدم حدوث أي انتقال ديمقراطي للسلطة في أفغانستان خلال العشرين سنة التي سبقت استعادة طالبان السيطرة على كابول.
ما من شكّ في أنَّ هذا لا ينطبق على الأفغان الذين خاطروا بحياتهم وذهبوا فعلًا إلى صناديق الاقتراع، بل ينطبق في المقام الأوَّل على تلك النُخب الفاسدة التي وصلت إلى السلطة في كابول عن طريق الولايات المتَّحدة الأمريكية، فقد استغل رجالٌ مثل حامد كرزاي أو الرئيس الهارب أشرف غني النظام الجديد وقوَّضوه من الداخل لأغراضهم الخاصة واستخدموا دائمًا تزوير الانتخابات من أجل البقاء في السلطة.
ومثلهم تصرَّفت أيضًا جهاتٌ فاعلة أخرى داخل أفغانستان ومن بينها مثلًا كثيرون من أمراء الحرب وأرباب تجارة المخدرات المعروفين، الذين أصبحوا من أقرب حلفاء الغرب في جبال الهندوكوش، مالئين للجيوب وجامعين للثروات من أموال المساعدات الخارجية الكبيرة وناقلين لمليارات الدولارات إلى خارج أفغانستان.
وهم في الوقت نفسه من أكبر المستفيدين من الحرب، مثلًا بفضل شركات أمن خاصة أنشأوها بأنفسهم لتفتعل هجمات وهمية على قوَّات الناتو وحصلوا على إثر ذلك على عقود مربحة من حلف الناتو نفسه من أجل التكفل بمواجهة خطر إرهابي مزعوم.
Airport in #Kabul… Listen .. #kabulairport #Afghanistan pic.twitter.com/0hsDWNqOFS
— Natalie Amiri (@NatalieAmiri) August 16, 2021
تطورات تنبئ بالفشل بات من الواضح -منذ نهاية عام 2019 على أبعد تقدير- أنَّ المسؤولين في واشنطن وغيرها يعرفون عنها كلَّ شيء. فقد نشرت في ذلك الوقت صحيفةُ واشنطن بوست ما يُعرف باسم "أوراق أفغانستان"، التي اعترف فيها إلى حدّ ما نحو أربعمائة من كبار المسؤولين الأمريكيين بفشلهم في أفغانستان، وقد ظلت تفاصيل ذلك محفوظة بسرية طيّ الكتمان طيلة سنوات.
ولكن لا أحد يريد في هذا الوقت الحديث حول ذلك أيضًا، بل يتم الاستناد على كل ما هو ظاهر فوق السطح والتأكيد على أنَّ حركة طالبان خرجت من العدم لتفاجئ أفغانستان والغرب، ويتم الادعاء بأنه قد تم بذل أقصى الجهود في أفغانستان بأعلى مراتب المعرفة والضمير وبأن هذه الجهود لم تثمر عن نجاح بسبب سوء الحظ.
وها هو الغرب -بعد عشرين عامًا من تدخُّل فاشل أودى بحياة مئات الآلاف من الأفغان وجعل الملايين منهم لاجئين ودفعهم إلى الفقر- لم يفقد فقط اهتمامه بأفغانستان بل أيضا أصبح الغرب لا يشعر بأية مسؤولية عن بلوى الأفغان وتعاستهم، بل يتم اختزال المأساة في توصيف ثقافوي يلقي باللوم على ثقافة الأفغان ويهوّن من مسؤولية الغرب بالقول: "هذه طبيعة الأفغان في الواقع، وهذا ليس ذنبنا نحن في الغرب"، توصيف أصبح يتردَّد صداه الصوتي بقوة خصوصًا إبان خروج قوات الناتو واستعادة طالبان السيطرة على أفغانستان.
عمران فيروز
ترجمة: رائد الباش / ع.م
حقوق النشر: موقع قنطرة 2021
[embed:render:embedded:node:45237]