سر الكلمة التي أشعلت جدلا مستمرا في ألمانيا إلى اليوم

تقف أنغيلا ميركل على المنصة وتتحدث عبر الميكروفون، ويظهر في الخلفية علم إسرائيل.
في 18 مارس/آذار 2008، ألقت ميركل كلمة أمام الكنيست الإسرائيلي. وفي إطار إحياء الذكرى الستين لتأسيس إسرائيل، أعادت ميركل التأكيد على "المسؤولية التاريخية" التي تقع على عاتق ألمانيا تجاه أمن إسرائيل، وأعلنت أن هذا الأمن جزء من "المصلحة العليا للدولة" الألمانية. (Photo: picture alliance / AP | M. Schreiber)

عندما استخدمت أنغيلا ميركل كلمة "Staatsräson" أي "مصلحة عليا بالنسبة للدولة" (الألمانية)، في خطابها أمام الكنيست الإسرائيلي عام 2008، ربما لم تكن تتوقع ما تشعله من نقاش حاد مستمر إلى اليوم. في مذكراتها الجديدة "الحرّية"، تكشف المستشارة السابقة عن نظرتها المثالية لإسرائيل، وترددها في الاعتراف بوجهات النظر الفلسطينية.

الكاتبة ، الكاتب: جيمس جاكسون

خصصت أنغيلا ميركل 15 صفحة فقط من مذكراتها الجديدة "Freiheit. Erinnerungen 1954–2021" أي "الحرية ـ ذكريات 1954 ـ 2021" لإسرائيل، ولكن مساهمتها في العلاقة بين ألمانيا وإسرائيل يمكن تلخيصها بكلمة واحدة، ألا وهي "Staatsräson" التي تعني "مصلحة عليا للدولة" الألمانية.

استخدمت ميركل، المصطلح الشهير في خطابها أمام الكنيست الإسرائيلي عام 2008 لتقطع به التزامًا تاريخيًا لألمانيا، أن أمن إسرائيل هو "جزء من مصلحة دولتي العليا". ومنذ ذلك الحين، اكتسب هذا المصطلح وزنًا شبه قانوني، وغالبًا ما يُستشهد به كما لو كان التحالف مع إسرائيل جزءًا من دستور ألمانيا.

تشير ميركل إلى أنها استخدمت الحجج "نفسها تقريبا"، التي وردت في خطاب الكنيست، قبلها بنصف عام في الجمعية العامة للأمم المتحدة، و"بالكاد سجلها أحد"، وهو الأمر الذي أثبت لها أن "التواصل يعتمد إلى حد كبير على من يقول ماذا، ومتى وأين". إذ كان لوقع كلمتها في الكنيست "تأثيرا مختلفا وقويا بشكل لا مثيل له".

وتقول إن كلمة "مصلحة عليا للدولة" كانت ببساطة "جزءًا من مفرداتها السياسية"، وكذلك مفردات حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي. فقد استخدم المستشار الألماني هلموت كول في الثمانينيات العبارة نفسها، ولكن في سياق التزام ألمانيا بالتحالف عبر الأطلسي والوحدة الأوروبية.

كمواطنة من جمهورية ألمانيا الديمقراطية DDR، نشأت ميركل على نسخة مختلفة من التاريخ الألماني عن نظرائها في ألمانيا الغربية. فقد تعرّض العديد من قادة ألمانيا الشرقية للاضطهاد من قبل النازيين بسبب انتماءاتهم الشيوعية، وكان هذا الاضطهاد هو محور ثقافة الذاكرة في البلاد. تقول كاتبة السيرة الذاتية لميركل الصحافية جاكلين بويسن لموقع قنطرة، "كانت هناك العديد من الأشياء التي لم تتعلمها ميركل في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، حيث كانت عملية التعاطي مع التاريخ (Aufarbeitung) تركز على اضطهاد الشيوعيين أكثر من اليهود".

تقول بويسن: "أصبح كول مُعلم ميركل السياسي". "لقد كانت دائمًا فضولية وتعلمت بسرعة كبيرة أن عليها أن تكون حذرة في بعض المسائل، وأن تتعلم من الآخرين، وخاصة كول، الذي أكد بدوره على "مسؤولية ألمانيا تجاه دولة إسرائيل".

يقول دانيال مارفيكي، مؤلف كتاب "إسرائيل وألمانيا: تبييض الصورة وبناء الدولة"، لـ قنطرة، "يستخدم السياسيون أحيانا كلمات لمجرد أنها تبدو كبيرة ومهمة، وهو ما ينطبق على كلمة 'مصلحة عليا للدولة' بالتأكيد، لكن معناها يظل غامضًا"، مضيفا: "أنها بطريقة ما سياسة ذكية: أنت تطمئن الناس، وتتمنى لهم الأفضل عند التنفيذ".

غموض متعمد

تشير الخدمة الاستشارية الفنية في البوندستاغ، إلى أن مصطلح "مصلحة عليا للدولة": "ليس جزءًا من الدستور الألماني ولا من القانون"، ولكنه "بالأحرى يُفهم على أنه مبدأ سياسي استرشادي".

يحمل المصطلح نفسه دلالة ما قبل الديمقراطية بشكل ملحوظ، وغالبًا ما يستخدمه المنظرون السياسيون في عصر النهضة الإيطالية مثل نيكولو مكيافيلي. تقول الوكالة الاتحادية للتعليم السياسي في ألمانيا: "في الدول الديمقراطية، لم يعد مصطلح (مصلحة عليا للدولة) يلعب دورا في الدول الديمقراطية".

فيما ليس واضحا ماهية الدور الذي يمكن أن تلعبه هذه الفكرة ما قبل الديمقراطية في جمهورية دستورية. وفي محاولة للتقليل من أهميتها، تشير ميركل إلى أن إعلانها لم يكن "سياسة دفاع مشترك" مثل المادة الخامسة لحلف شمال الأطلسي، ولكنها تُظهر "ارتباطًا أوثق بإسرائيل مقارنة بالعديد من الدول الأخرى في العالم".

"هذا تهرب من المسؤولية"، كما يقول مارفيكي. ويضيف: "لا يمكن لألمانيا أن تلتزم بالمادة الخامسة تجاه إسرائيل ولكن يمكنها فقط التلميح إلى ذلك. هناك تلميح صريح ولكنه غير مفهوم تماما".

ومع ذلك، فإن عواقبه استخدام المصطلح على السياسة الخارجية حقيقية. فإلى جانب تأكيدها على استعداد ألمانيا لتزويد إسرائيل بالأسلحة، تشير ميركل إلى مصطلح "مصلحة عليا للدولة" كسبب لمشاركة ألمانيا في مفاوضات منع تطوير إيران للسلاح النووي، وكذلك قرارها بالامتناع عن التصويت على الاعتراف بفلسطين كدولة. ولا تشرح المستشارة السابقة بالضبط كيف يتعارض الاعتراف بالدولة الفلسطينية مع أمن إسرائيل. وفي الواقع، بالكاد يرد ذكر فلسطين في هذا الفصل.

في الوقت نفسه، تشدد ميركل في مذكراتها على دعمها لحل الدولتين. وقد فعلت الشيء نفسه في خطاب الكنيست، على الرغم من أنها خففت من حدة الطلب إلى حد ما، بقولها إن إسرائيل "لا تحتاج إلى نصيحة غير مرغوب فيها من الغرباء".

بعد عام من الخطاب الشهير، عاد بنيامين نتنياهو إلى السلطة. وقد "تكلّم رئيس الوزراء الإسرائيلي، الأطول حكما في إسرائيل، عن حل الدولتين ولكنه لم يفعل شيئًا لتسهيله. بل على العكس، قام بتقويضه من خلال استمراره في بناء المستوطنات"، كما كتبت ميركل. وأصبحت الخلافات حول المستوطنات "غير قابلة للتوفيق" بينهما، على الرغم من أنها ظلت مقتنعة بأنها "لن تؤدي إلى تشكيك جوهري في العلاقات بين البلدين".

تقف ميركل بجانب نائبها آنذاك أولاف شولتز، وعلى الحائط خلفهما عدد من الصور بالأبيض والأسود.
المستشارة أنغيلا ميركل وخليفتها، نائب المستشار آنذاك أولاف شولتز، أثناء زيارة لمتحف ياد فاشيم للهولوكوست في القدس، أكتوبر/تشرين الأول 2018.(Photo: picture alliance / AP | D. Hill)

زيارة إسرائيل

يكشف كتاب "الحرية" عن نظرة ميركل الرومانسية الواضحة لإسرائيل، التي كانت الدولة الأجنبية الثانية التي زارتها كنائبة برلمانية. وتكتب عن "القشعريرة" التي انتابتها بعد أن استشعرت "الحضور المادي لأديناور (مستشار الجمهورية الاتحادية الألمانية) وبن غوريون (أول رئيس وزراء لإسرائيل) ... رجلان تمكنا من تغيير الأمور بشجاعة وذكاء وحكمة".

تشيد ميركل بـ"سمعة إسرائيل المتميزة في مجال الأبحاث والعلوم". وكعالمة فيزيائية في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، لم تتمكن ميركل من الحصول على بريد من إسرائيل إلا بعد إعادة توحيد ألمانيا، لذا فهي تتذكر أنها بذلت جهدًا إضافيًا لطباعة الأبحاث الإسرائيلية.

تبدي ميركل إعجابها بنجاح إسرائيل في "تحويل الأراضي الصحراوية إلى أراضٍ زراعية خصبة"، وتأمل أن تتمكن الشركات الأفريقية من خلال مبادرات مشاركة التكنولوجيا من "تقدير قوة إسرائيل الابتكارية" واكتساب انطباع أفضل عن البلاد، التي تعتقد أنها "محكومة بشكل مفرط بسبب نزاعها مع فلسطين".

كتبت ميركل أن إسرائيل وألمانيا "مرتبطتان بشكل فريد بذكرى المحرقة". من الواضح أن هذه الذكرى تلقي بثقلها عليها، حيث كانت الزعيمة الرزينة عادةً تشعر بـ"الاختناق حقًا" أثناء زيارتها إلى ياد فاشيم، النصب التذكاري الرسمي للهولوكوست في إسرائيل. وكتبت: "يا لها من معاناة لا توصف جلبتها ألمانيا على الشعب اليهودي وأوروبا والعالم". وقالت: "إذا استمرت ألمانيا في الاعتراف بمسؤوليتها الدائمة عن الكارثة الأخلاقية في تاريخها، يمكننا أن نتصور ونخطط لمستقبل جيد وإنساني".

تتسم رؤية ميركل لتاريخ ومستقبل العلاقات الألمانية الإسرائيلية بالنظرة التبسيطية. فهي تتغنى بأول لقاء بين الزعيمين الأولين كونراد أديناور مستشار الجمهورية الاتحادية الألمانية، وديفيد بن غوريون في نيويورك بعد 15 عامًا من الهولوكوست. لكنها لا تذكر الأزمة السياسية في إسرائيل التي أعقبت محاولة بن غوريون الأولى لقبول التعويضات الألمانية، والتي أطلق عليها العديد من الإسرائيليين (بمن فيهم مؤسس حزب الليكود مناحيم بيغن) "أموال الدم".

الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط؟

لا تزال إسرائيل في عيون ميركل إسرائيل رومانسية مبسطة في المخيلة الألمانية: دولة ذات نوايا حسنة ومجتمع مدني قوي ولكن بعض العوائق تعترض طريقها، وعلى رأسها المستوطنات غير الشرعية والقيادة السيئة بشكل مبطن. إن تصويت الشعب الإسرائيلي للحكومات التي تدعم المستوطنات غير القانونية، لا يكاد يكون أمرًا مهمًا، وكذلك الأمر بالنسبة للفلسطينيين. 

إن احتلال إسرائيل للضفة الغربية وغزة، التي يقطنها ملايين الفلسطينيين الذين لا دور لهم في الديمقراطية الإسرائيلية، لا يمنع إسرائيل من أن تكون "الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، وهو ادعاء يتم الترويج له دون مبرر واضح في كتاب ميركل كما في الخطاب الغربي عموما.

من الواضح أن ميركل تأخذ معاداة السامية على محمل شخصي وتفسر دعم فلسطين من هذا المنظور. وتأسف أنه بعد هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول التي شنتها حماس، "بدلًا من أن تلقى تضامنًا في جميع أنحاء العالم، سرعان ما عانت إسرائيل واليهود في جميع أنحاء العالم من معاداة السامية في شكل سيل من خطاب الكراهية".

وتكتب ميركل، مستخدمةً صيغةً غالبًا ما تُستخدم لعرقلة المطالبة بإقامة دولة فلسطينية: "بقدر ما كانت الرغبة في إقامة دولة فلسطينية قابلة للعيش مشروعة وكانت دائمًا كذلك"، فإن "أولئك الذين يستخدمون هذه الرغبات والانتقادات في المظاهرات كستار دخاني لإطلاق العنان لكراهيتهم تجاه دولة إسرائيل واليهود يسيئون استخدام الحقوق الدستورية في حرية التعبير".

لم تتحاور ميركل مع أولئك الذين لا يشاركونها نظرتها الرومانسية لإسرائيل "المبتكرة"، التي تشكلت تحت تأثير التاريخ أو حب البحث العلمي. "تتحدث في خطابها في الكنيست عن إسرائيل كقصة نجاح ولكنها لا تذكر أبدًا تهجير الفلسطينيين فيها"، كما يقول مارفيكي، "عليك أن تنكر وجود الطرف الآخر وروايته لتدّعي أن كل شيء قابل للتصالح: فأحدهما مبني على الآخر".

بالنسبة لميركل، فإن تأسيس إسرائيل هو النهاية السعيدة للهولوكوست، وهو درس أخلاقي أنيق يربط بين الدولتين الألمانية واليهودية في تشابك سياسي كمي. لكن بالنسبة للفلسطينيين، كانت هذه النهاية السعيدة بداية كابوس التطهير العرقي والاحتلال وما تصفه محكمة العدل الدولية بالفصل العنصري.

© قنطرة