أذري: تحدثنا الروسية مع الأحياء والعربية مع الأموات
تحاول أذربيجان منذ عدة أعوام اجتذاب السيَّاح: باستضافتها "مسابقة يوروفيجن للأغاني" ودورة الألعاب الأوروبية وسباق الفورمولا واحد وغيرها من الفعاليات المرموقة في العاصمة باكُو. وهكذا يسعى هذا البلد المعتمد على ثروة النفط إلى خلق مصادر دخل جديدة لا تعتمد على تجارة النفط.
ولكن السيَّاح الذين طال انتظارهم لم يصلوا إلى أذربيجان - حتى الصيف الماضي 2016. وفجأة بات السيَّاح يتوافدون إلى البلاد - حتى وإن لم يكونوا هم السيَّاح الذين تمَّنت وصولهم أذربيجان. فبدلاً من السيَّاح الغربيين، الذين يتجوَّلون في الشوارع وهم يحملون حقائبهم على ظهورهم وبخرائطهم السياحية وبسراويل قصيرة وتيشيرتات، جاءت من الدول العربية مجموعات سياحية تتكوَّن من مئات العائلات المسلمة. وكان تدفُّقهم ضخمًا للغاية، بحيث أنَّ المحلات التجارية ومراكز التسوُّق في باكُو قد علَّقت لافتات كُتب عليها باللغة العربية عبارات مثل "أهلا وسهلاً" و"مفتوح" و"للبيع".
اختبار في التسامح
تُعلِّق أذربيجان قدرًا كبيرًا من الأهمية على سمعتها كبلد متعدِّد الثقافات ومتسامح. غير أنَّ هذا التقارب المفاجئ بين الثقافات المختلفة أثبت أنَّه مشكلة معقَّدة، تشكِّل تحدِّيًا حتى بالنسبة لأولئك الذين يفتخرون بانفتاحهم. وقد أثار ذلك نقاشات في وسائل الإعلام الاجتماعية، تناولت بالتفصيل الاختلافات الثقافية بين السيَّاح العرب المسلمين والأذربيجانيين المسلمين.
وفجأة بات نصب "المرأة المتحرِّرة" في العاصمة باكو مُدرجًا من جديد على جدول الأعمال. تم تشييد هذا النصب التذكاري في الحقبة السوفيتية تكريمًا للأذربيجانيين على كفاحهم ضدَّ الحجاب باعتباره رمزًا يرمز للاضطهاد الإقطاعي واللامساواة الاجتماعية.
"في جميع أنحاء العالم تعتبر باكو المدينة الإسلامية الوحيدة، التي تم فيها تشييد نصب تذكاري لامرأة تخلع حجابها. يجب على الجميع أن يفهموا أهمية هذا النصب التذكاري، الذي يعتبر بالنسبة لي واحدًا من الرموز الأساسية في بلدنا. ولكن لا يتعيَّن اعتبار ذلك من المسلَّمات. ولذلك يجب علينا أن نقوم بزيارات إلى هناك، وأن نُقدِّر أهميَّته التاريخية"، مثلما كتب الشاعر الأذربيجاني راسم قاراجا في أحد المقالات النقاشية العديدة حول السيَّاح العرب في باكو.
وبينما كان السيَّاح يتوافدون في الصيف إلى البلاد بلا هوادة، دارت نقاشات حيوية حول الاختلافات بين أذربيجان وبين الدول الإسلامية الأخرى، وكذلك حول تاريخها العلماني: وفقط قبل قرن من الزمن كان ممنوعًا على النساء الأذربيجانيات التمثيل على خشبة المسرح الذي افتتح حديثًا في باكو تلك الأيَّام: فجميع أدوار الإناث كان يتم تمثيلها دائمًا من قبل رجال. وفي مجتمع أذربيجان الإسلامي المعاصر ينطبق التعليم الإلزامي على الفتيات أيضًا، وبإمكان النساء بطبيعة الحال العمل في المسرح والأوبرا والباليه وغيرها من المجالات الثقافية.
تخليص أذربيجان من "العالم المسلم المظلم"
كان من الممكن أن تسير الأمور بشكل مختلف تمام الاختلاف. وبفضل "التنوير" الأذربيجاني بشكل خاص، الذي قاده الأدباء والكتَّاب في القرنين التاسع عشر والعشرين، أصبحت أذربيجان أوَّل بلد إسلامي اعترف في عام 1919 بحقّ النساء في الانتخاب - وذلك بالتزامن تقريبًا مع حصول النساء على هذا الحقّ في كلّ من ألمانيا وبريطانيا والولايات المتَّحدة الأمريكية.
ويستنتج الكثيرون من ذلك أنَّ "الأدب قد أثَّر في الشعب الأذربيجاني، وساهم في طبيعته وتعزيز تقدُّمه"، مثلما صاغ ذلك أحد المشاركين في النقاش: "يجب علينا جميعنا أن نكون ممتنين للأدباء والشعراء، لذين يعتبرون بمثابة ’فولتير أذربيجان‘، وعملوا في القرن التاسع عشر وفي مطلع القرن العشرين من أجل جعل البلاد دولة علمانية حديثة، وفريدة من نوعها بين الدول الإسلامية".
الأدباء والكتَّاب المسرحيون الأذربيجانيون، مثل ميرزا فتالي أخوندوف (عاش بين 1812-1878)، وجليل محمدقليزاده (1869-1932)، وميرزا علي أكبر صابر (1862-1911)، وعبد الرحيم حقوئردييئو (1870-1933)، وجعفر جبارلي (1899-1934)، وكذلك يوسف وزير چمنزمينلي (1887-1943)، حاولوا بحسب كلماتهم "تخليص أذربيجان من العالم المسلم المظلم". وتعاملوا بشدة مع الجهل المنتشر لدى الأهالي واضطهاد المرأة وتشغيل الأطفال. وبنظرهم كانت الأمية كارثة والتعليم ضرورة من أجل البقاء. وقد دعوا أذربيجان إلى التوجُّه نحو الثقافة الغربية.
ومن بين المنشورات العديدة كانت تصدر من عام 1907 وحتى عام 1918 أيضًا مجلة "الملا نصر الدين"، وهي مجلة ساخرة كانت لديها مجموعة عريضة من القرَّاء في العالم الإسلامي امتدَّت من المغرب وحتى إلى إيران. ومجلة "الـمُلاّ نصر الدين" (جُحَا) كانت تفضح نفاق رجال الدين المسلمين وتدعو إلى التوجُّه نحو الغرب، وإلى إصلاح المدارس ومنح النساء حقوقًا متساوية.
لقد كان نشر الموضوعات المناهضة بشكل واضح لسيطره رجال دين والمناهضة لمضامين دينية في بلد إسلامي في مطلع القرن العشرين محفوفًا بمخاطر كبيرة بالنسبة لمحرِّري هذه المجلة. وكثيرًا ما كان المؤلِّفون يتعرَّضون للملاحقة والاضطهاد، وكانت تتم مهاجمة مكاتبهم، وفي أكثر من مناسبة اضطر الناشر جليل محمدقليزاده إلى الهرب من المتظاهرين الغاضبين.
وعندما أصبحت أذربيجان في 1920 جزءًا من دول الاتِّحاد السوفييتي، كان بعض كتَّاب وشعراء هذا الجيل قد ماتوا بالفعل. وأمَّا الذين كانوا لا يزالون على قيد الحياة فقد كانوا سعداء لأنَّ أذربيجان قد قطعت اتِّصالها مع العالم المسلم. ولكنهم في الوقت نفسه كانوا يستنكرون التوسُّع الروسي. وحتى يومنا هذا لا تزال هذه الكلمات المأثورة عن الكاتب جليل محمدقليزاده: "نحن نتحدَّث الروسية مع أبناء بلدنا، ولكننا نتحدَّث العربية مع موتانا"، تحظى بشعبية واسعة في أذربيجان.
إرث مثير للجدل
وحتى وقت غير بعيد كانت أسماء هؤلاء الشعراء والكتَّاب تحظى في أذربيجان بأهمية أكثر من القادة السياسيين السلطويين. وبالإضافة إلى ذلك فقد كان يتم الاحتفال بذكراهم في القاعات المقدَّسة في البلاد، ونُشرت كتبهم بأعداد كبيرة، وعلى مدى عقود من الزمن كان يتم عرض مسرحياتهم في مسارح الدولة وقد استحوذت أعمالهم على المناهج المدرسية. كما أنَّ مَنْ لا يعرف هؤلاء الشعراء والكتَّاب، كان يعتبر في المجتمع الأذربيجاني "غير مثقف" - على الأقل حتى وقت غير بعيد.
وعلى الرغم من أنَّ نصبهم التذكارية لا تزال على حالها في مركز العاصمة باكو اللامع، غير أنَّ شعبيَّـتهم باتت تتراجع: فالخطاب الديني المتنامي في المجتمع الأذربيجاني يجعل هذا الإرث الأدبي غير مرغوب به بسبب موقفه الصريح والصارم المناهض للدين.
واليوم أصبحت أعمالهم عرضةً للإبعاد غير الرسمي عن المسارح، وهذا ما يتم انتقاده بشدة من قبل المثقَّفين الأذربيجانيين: "إنَّ إقصاء هذه المسرحيات الآن وإبعادها عن المسارح، يعني أنَّنا قد تراجعنا إلى الخلف. قبل مائة وخمسين عامًا قال ميرزا فتالي أخوندوف إنَّه ينظر إلى جميع الأديان على أنَّها أسطورة وغير مجدية. وكان بإمكانه أن يدافع بشكل علني عن أفكاره"، مثلما يقول صابر رستمخانلي، الحاصل على جائزة الشعراء الأذربيجانيين.
في محاولة لتهدئة الاحتجاجات العامة، تم قبل فترة غير بعيدة عرض مسرحية "الموت" للكاتب المسرحي الساخر والبارز جليل محمدقليزاده على خشبة المسرح الأكاديمي الوطني. وفي النسخة الأصلية يظهر بطلها السكِّير والمُلحد كفلي إسكندر في النهاية على خشبة المسرح، ويتمتم مع نفسه حديثًا فرديًا ينتقد فيه تخلُّف المجتمع وخاصة الرجال، الذين يُصرُّون وهم في سنِّ الخمسين على الزواج من طفلة عمرها عشرة أعوام. ولكن في النسخة الجديدة و"المُحسَّنة" يبقى صامتًا ويمسك مصحفًا في يده.
تهديد من خلال الفتاوى الإسلامية
تحدُّ أذربيجان ثلاث دول إسلامية: إيران وتركيا وجمهورية داغستان. وحتى يومنا هذا لا يزال بإمكان رجال الدين المسلمين في هذه الدول أن يصدروا فتاوى دينية وأن يطالبوا باعتقال أو قتل الكتَّاب والمؤلفين. لقد تكرَّر هذا عدة مرات - مثلاً في عام 2011 عندما تم اغتيال المؤلِّف وكاتب المقالات الأذربيجاني المعروف، رفيق تاجي في العاصمة باكو. وقبل اغتياله أصدر آية الله العظمى الإيراني محمد فاضل لنكراني فتوى في عام 2006 ضدَّ الكاتب رفيق تاجي.
الأدباء والكتَّاب الأذربيجانيون هم الذين دفعوا بعملية العلمنة في أذربيجان إلى الأمام وعملوا بنشاط من أجل التنوير الأذربيجاني. وحتى يومنا هذا لا يزال الأدباء والكتَّاب والصحفيون الأذربيجانيون يشعرون "بالمسؤولة" عن مجتمعهم العلماني، مثلما يتَّضح ذلك من تقاريرهم حول السيَّاح المسلمين.
نرمين كمال
عن الألمانية ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2016