هل بدأت رياح الربيع العربي تصل إلى فلسطين؟
تتعرَّض السلطة الفلسطينية لصعوبات مالية متزايدة نتيجة لآثار الأزمة الاقتصادية العالمية وعدم تسديد السلطات الإسرائيلية رسوم الجمارك المستحقة للسلطة الفلسطينية. ولذلك لم تعد السلطة الفلسطينة منذ عدة أسابيع قادرة على دفع رواتب موظَّفيها. وكذلك ترفض البنوك الدولية منذ فترة طويلة منح حكومة سلام فياض قروض مالية، كما أنَّ هذه البنوك ما تزال تؤخِّر تسديد القروض لحكومة فياض. وهناك أيضًا نحو مائتي مليون دولار مقدَّمة للسلطة الفلسطينية من الولايات المتَّحدة الأمريكية ما تزال تنتظر موافقة الكونغرس الأمريكي، ولكن تأخَّر تدفعها نتيجة مبادرة الاعتراف بالدولة الفلسطينية لدى هيئة الأمم المتَّحدة.
والآن أعلنت السلطة الفلسطينية عن نيَّتها رفع أسعار المحروقات المرتفعة في الأصل لتزيد بنسبة ثمانية في المائة وذلك لكي تعوِّض على الأقل بعض العجز الذي تعاني منه ميزانيتها. وعلى هذا النحو فقط من الممكن لها تسديد رواتب موظَّفيها المستحقة منذ الشهر الماضي ولكن ذلك أثار غضب المواطنين. وفي السابق وصل سعر ليتر البنزين إلى مستوى قياسي، أمَّا الآن صار يبلغ سعر الليتر الواحد نحو يورو وسبعين سينتًا، تمامًا كسعره في داخل إسرائيل.
ولكن في الواقع لا يتجاوز متوسَّط دخل الفرد في المناطق الفلسطينية أكثر من ألف وأربعمائة دولار أمريكي في العام، وهذا أقل بكثير من دخل الفرد في دولة إسرائيل. ولذلك فالأجواء العامة متوتِّر جدًا خاصة بين الشباب في الأراضي الفلسطينية.
هل هي بداية ثورة حسب النموذج التونسي؟
وفي الثاني من شهر أيلول/سبتمبر أقدم شاب فلسطيني على سكب البنزين على نفسه في ساحة عامة في غزة وأحرق نفسه. وقد أدَّى حادث مماثل في شهر كانون الثاني/يناير 2011 في تونس إلى إطلاق ثورة الياسمين التي كلِّلت بإسقاط الرئيس التونسي زين العابدين بن علي.
ومثلما هي عليه الحال في دول الربيع العربي يقوم الفلسطينيون الآن بتنظيم الاحتجاجات كما يستخدمون من أجل ذلك شبكات التواصل الاجتماعية على نحو متزايد، حيث دعت نقابة النقل والميكانيك الفلسطينية في الثاني عشر من شهر أيلول/سبتمبر إلى إضراب عام استجاب له سائقو سيَّارات الأجرة. وتسبب هذا الإضراب بشلل تام تقريبًا في حركة المرور داخل المدن الفلسطينية، كما طالبوا سلطتهم الوطنية بتحديد الحدّ الأدنى للأجور بما يعادل خمسمائة يورو، وذلك لأنَّ الجزء الأكبر من دخلهم سيتم إنفاقه على البنزين بسعره الجديد.
وإذا لم تستجب السلطة الوطنية لمطالبهم فسيتم تنطيم إضراب جديد واحتجاجات من الممكن أن تتحوَّل مع الزمن إلى أعمال عنف شديدة. وحاليًا ينصبّ غضب الشعب الفلسطيني بالمقام الأوَّل ضدّ شخص واحد هو رئيس الوزراء سلام فياض الذي يتَّهم قبل كلِّ شيء بسوء الإدارة، ويعتبر بالإضافة إلى ذلك في نظر الكثيرين من الفلسطينيين "دمية في يدّ الغرب وإسرائيل" ولذلك فهو لا يعمل لمصلحة شعبه.
وفي مدينة الخليل وغيرها من المدن الفلسطينية تم إحراق دمى من المفترض أنَّها تمثِّل سلام فياض وكان المتظاهرون يهتفون بهتافات مهينة. وفي اجتماع عقدته جامعة الدول العربية في القاهرة في منتصف شهر أيلول/سبتمبر قال الرئيس الفلسطيني محمود عباس إنَّ "الربيع الفلسطيني قد بدأ". وأضاف أنَّ دولته تريد الاستجابة للمتظاهرين ودعم مطالبهم. ولكن السؤال هل يكمن سبب خروج الناس إلى الشوارع فقط في ارتفاع الأسعار وانعدام الآمال والفرص بالإضافة إلى الغضب الكبير من عجز السلطة الفلسطينية؟
غضب الشارع الفلسطيني من سلام فياض
ويرى المحلل السياسي والصحفي في وكالة معًا الإخبارية الفلسطينية المستقلة كريم عساكرة في هذه الاحتجاجات تعبيرًا عن الإحباط الشديد الذي وبحسب رأيه ليس له سوى علاقة سطحية فقط بالوضع الاقتصادي والسلطة الفلسطينية. ويقول عساكرة إنَّ "السبب الحقيقي للاحتجاجات هو الإحباط العام إزاء توقّف عملية السلام ورفض إسرائيل الاعتراف بحقوق الفلسطينيين الأساسية". وعلى الرغم من أنَّ هذه الاحتجاجات موجَّه ضدّ رئيس وزراء السلطة الفلسطينية سلام فياض، إلاَّ أنَّ خيبة الأمل الكبيرة تنتج حسب قوله قبل كلِّ شيء من كون الفلسطينيين يشعرون أنَّهم أصبحوا هدفًا للسياسة الإسرائيلية.
وفي هذا الصدد يقول عساكرة إنَّ "الناس يقاومون سياسة الاحتلال الإسرائيلية التي تدمِّر حلمهم في إقامة دولة فلسطينية مستقلة في حدود عام 1967". وعلى الرغم من أنَّ كلَّ شيء يسير على ما يبدو نحو بدء ربيع فلسطيني مثلما هي الحال في الدول الأخرى، "ولكن الاحتلال يلعب بالنسبة للفلسطينيين دورًا أكبر بكثير من دور العوامل الاقتصادية"، مثلما يؤكِّد المحلل السياسي كريم عساكرة، وبناءً على ذلك يختلف الوضع اختلفًا جوهريًا عن الوضع في الدول العربية الأخرى.
وعلى الرغم من أنَّ حركة فتح تفقد من خلال سوء الأحوال الاقتصادية المزيد من تعاطف الفلسطينيين معها، إلاَّ أنَّ الفصائل والمجموعات السياسية الأخرى لا تستطيع الاستفادة من ذلك على المدى البعيد. وفي حين أنَّ حركة حماس بالذات قد نجحت في السابق في حشد الساخطين وتعبئتهم لصالحها، صار يبدو الآن أنَّ الفلسطينيين يحمِّلون هذه الحركة الإسلامية مسؤولية كبيرة عن الأوضاع الكارثية في قطاع غزة ولا يرون أنَّها قادرة أيضًا على حلِّ المشكلات التي تعاني منها منطقة الضفة الغربية. فهل يمثِّل هذا حالة إحباط من أكبر فصيلين فلسطينيين؟ من الممكن أن يشكِّل ذلك أرضًا خصبة لحركات سياسية جديدة - مثل "حركة شباب 6 أبريل" المصرية أو "حركة 20 فبراير" المغربية، اللتان ينتضم فيهما الشباب بصورة خاصة من خلال شبكات التواصل الاجتماعية مثل موقعي الفيسبوك وتويتر وكذلك المدوِّنون وينظِّمون الاحتجاجات.
القوة الثالثة
ولكن في الحقيقة لا يرى كريم عساكرة الذي يعتبر مدوِّنًا على الإنترنت أية فرصة واقعية في الوقت الراهن من أجل تكوّن حركة كهذه ويقول إنَّ "الوضع في الأراضي المحتلة يختلف اختلافًا جوهريًا عن الأوضاع في البلدان العربية الأخرى، وفلسطين لا تعتبر مقسَّمة فقط سياسيًا، بل هي مقسَّمة أيضًا جغرافيًا. وهذا يزيد بالنسبة للشباب من صعوبة خلق التغيير. وحتى الآن تمكَّنت حركتا حماس وفتح دائمًا من الحيلولة دون حدوث ذلك من خلال نجاحهما في إلقاء اللوم على كلِّ حركة ثورية واعتبارها تصب في مصلحة الاحتلال أو الغرب. ولكن على الرغم من ذلك هناك قوة ثالثة تثبت وجودها على نحو تدريجي كما أنَّها تنشط قبل كلِّ شيء في شبكات التواصل الاجتماعية".
وصحيح أنَّ الناس يطالبون وبكلِّ صراحة باستقالة حكومة سلام فياض، حيث ما تزال المظاهرات تبدو مثل ذي قبل موجَّهة قبل كلِّ شيء ضدَّ حكومتهم؛ ولكن الآن تخشى أيضًا الدوائر الأمنية الإسرائيلية طبقًا لمعلومات صحيفة معاريف الإسرائيلية من أنَّ هذه الاحتجاجات من الممكن أن تصل قريبًا إلى المستوطنات الإسرائيلية الموجودة على الأراضي الفلسطينية. ولذلك تراقب إسرائيل هذه الاحتجاجات الاجتماعية في الضفة الغربية بقلق كبير، وبالإضافة إلى ذلك تعتقد السلطات الإسرئيلية أيضًا أنَّ الانهيار الاقتصادي يمكن أن يؤدِّي إلى إضعاف السلطة الفلسطينية كثيرًا أو حتى إلى إسقاطها.
سيناريوهات مرعبة بالنسبة لنتنياهو
وفي الواقع إذا انهارت السلطة الفلسطينية فعندها ستغرق منطقة الضفة الغربية في حالة فوضى. وهذا توقيت غير مناسب بالنسبة لإسرائيل، لا سيما وأنَّ المنطقة تشهد حاليًا أوضاعًا غير مستقرة بصورة ملحوظة؛ حيث تواجه في سيناء القيادة المصرية برئاسة الرئيس محمد مرسي تحديات من جماعات مسلحة مقرَّبة من تنظيم القاعدة تقوم أحيانًا بمهاجمة المخافر الحدودية الإسرائيلية. وكذلك يبقى قطاع غزة منطقة متأزِّمة للغاية بسبب الحصار المفروض عليه.
وفي الشمال ترى إسرائيل نفسها مهدَّدة من خلال نظام الأسد، بحيث أنَّها تدرس أيضًا إمكانية توجيه ضربة عسكرية من أجل الحيلولة دون وصول الأسلحة الكيميائية إلى أيدي الإرهابيين. وأخيرًا وليس آخرًا في الشمال أيضًا هناك حزب الله الذي يعتبر وجوده مهدَّدًا تهديدًا جادًا في حال إسقاط نظام الأسد.
ولكنّ الإسرائيليين يجهِّزون أنفسهم قبل كلِّ شيء لتوجيه ضربة عسكرية محتملة ضدّ المنشآت النووية الإيرانية. ولهذا السبب تسعى حكومة بنيامين نتنياهو إلى الحفاظ على هدوء الفلسطينيين بقدر الإمكان وذلك لأنَّها لا تكاد تحمّل فتح جبهة جديدة مع الفلسطينيين في الوقت الحاضر على الإطلاق. لذلك يريد نتنياهو توفير مبلغ يعادل نحو خمسين مليون يورو للفلسطينيين. وهذا ليس إلاَّ قطرة في بحر، لا سيما وأنَّ البنك الدولي يقدِّر الفجوة المالية التي تعاني منها السلطة الفلسطينية بنحو أربعمائة مليون دولار أمريكي.
وبالإضافة إلى ذلك يبدو أنَّ قضية المستوطنات قد خرجت أكثر وأكثر عن السيطرة. حيث يقوم وبشكل متزايد المستوطنون المتطرِّفون بمهاجمة المدنيين الفلسطينيين ومصادرة الأراضي أو إحراق أشجار الزيتون، الأمر الذي يشكِّل بالنسبة للفلسطينيين ضياع مصدر رزقهم. وبما أنَّه لا تكاد تتم من الناحية القانونية ملاحقة مرتكبي هذه الأعمال العدوانية، ينتشر بين المدنيين الفلسطينيين شعور بالعجز. ويقول الناشط والمصوِّر الفلسطيني هيثم الخطيب من مدينة رام الله: "لدينا انطباع بأنَّ العالم نائم، نحن نريد أخيرًا أن يتم احترام حقوقنا وأن نعيش في سلام".
تخلي العالم عن الفلسطينيين
وعلى الرغم من أنَّ الفلسطينيين صاروا الآن يعملون أيضًا مع نشطاء سلام دوليين وإسرائيليين، لكنهم يشعرون بأنَّ العالم قد تخلى عنهم. وضمن هذا السياق يقول هيثم الخطيب: "لكن لدينا الآن إمكانيات مختلفة تمام الاختلاف عما كانت عليه الحال في السابق، مثل موقع اليوتيوب الذي يمكننا من نشر أفلام. ولا يمكن لأية نقطة تفتيش منعنا من التواصل مع بعضنا بعضًا عبر سكايب. وهذا يمنحنا نحن الشباب الأمل". ويضيف أنَّ المسألة ليست إلاَّ مسألة وقت قبل أن يطلق بشكل خاص جيل الشباب العنان لغضبهم من الظروف المعيشية السيئة. ويعتبر أكثر من نصف المواطنين الفلسطينيين دون سنِّ الثامنة عشر. كما تتوقَّع الدوائر الأمنية الإسرائيلية أنَّ المتظاهرين الفلسطينيين من الممكن أن يسيروا باتِّجاه المستوطنات المكروهة.
ولذلك من غير المستبعد حدوث اشتباكات مع المستوطنين الإسرائيليين. ويتَّفق معظم المعنيين على أنَّه في هذه الحالة أصبح من المتوقَّع قريبًا انطلاق انتفاضة ثالثة؛ سوف تكون بمثابة ربيع عربي ولكن بطابعه الفلسطيني الخاص. ولكن مع ذلك يأمل الناشط هيثم الخطيب أن يفرض مفهوم "الانتفاضة البيضاء" نفسه، أي الانتفاضة الخالية من العنف، ويقول: "في السابق كانت هناك انتفاضة الحجارة ولكن حجارتنا اليوم خالية من العنف. وكلّ ما نريده هو الحرِّية والسلام".
فابيان شميدماير
ترجمة: رائد الباش
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2012