إيران.. هوة سحيقة بين نظام الملالي والشعب الإيراني
بقايا إمبراطورية تضم أمما شتى، فهي أكثر من دولة وأكبر من مملكة، لكنها تبقى أقل من أمّة! هو وطن يشكو كرده وعربه وبلوشه ظلم القومية، ويشكو سنته ظلم شيعته، ويشكو مسيحيوه ظلم مسلميه، ويشكو زرادشتيوه ظلم إسلامييه، ويفر بهائيوه بأرواحهم هربا من قوانين دولته، وتشكو مدنه تسلط أريافه. التعدد سمة تميّز أرض فارس التي لا يشكل الفرس سوى 63 بالمئة من مكوناتها، لذا يصبح الحديث عن الشعب الفارسي والحضارة الفارسية وأرض التشيع مصادرة لحقائق التاريخ وابتزازا لحق الجغرافيا.
يصرّ الإسلاميون في إيران على تلقين الشعب لقب الدولة الرسمي”الجمهورية الإسلامية في إيران” لكن الشعب يرفض ذلك في الغالب، بل إنّ العالم – وخاصة على مستوى الصحافة والإعلام وأروقة السياسة – يتعامل مع مصطلح إيران كوصف نهائي لكتلة الجغرافيا والتاريخ التي حملت الوصف عبر المئات من السنين، ورغم الضغط الخارجي الدولي والإقليمي، علاوة على ضغط قوى الرفض والمعارضة في الداخل، نجح الإسلاميون في أن يبنوا بلدا قويا وصناعة متينة واقتصادا لا ريعيا ومتنوع المصادر، وهذه كلها أثبتت فاعليتها حين عجزت 10 سنوات من الحصار الدولي عن ترك أي تأثير على الاقتصاد الإيراني (رغم تدنّي سعر صرف الريال داخليا وخارجيا بشكل سريع).
الآذريون هم القوة الخفية في”الجمهورية الإسلامية” ويحملون الورقة الرابحة، فمنهم “مرشد الثورة” علي خامنئي (ويلقّب على المستوى الرسمي مقامِ معظّم رهبري) واللقب نفسه يثير إشكالات داخل المجتمع الإيراني، فكثيرون يرفضون النطق به ويكتفون بالقول خامنئي، أما المتدينون الرافضون للقب الإمبراطوري الإسلامي فيقولون باختصار”سيد علي” والآذريون هم العمود الفقري لقوات حرس الثورة “باسدران” وللجيش الإيراني.
[embed:render:embedded:node:17557]
رغم أن وسائل الإعلام العربية والدولية بشكل عام تصرّ على القول إن الإسلاميين قد زوّرا الانتخابات الإيرانية، فإن هذا يبقى ادّعاء عاريا عن الصحة،أمّا حقيقة تلك الانتخابات فهي أنّ المدن الإيرانية الكبرى لم تصوّت للإسلاميين ونفوذهم، وذهبت لتصوّت للإصلاح الإسلامي السياسي، وما التظاهرات الكبرى التي رأيناها في المدن، وواقعة إطلاق النارعلى المتظاهرين إلاّ إثباتات إعلامية على رفض سكان الحواضر لجمهورية الإسلاميين.
لكن ما لم يره الإعلام غير الإيراني وجمهوره، أنّ الريف برمته صوّت للإسلاميين، وهذا يجعل النسبة بحدود 65 بالمئة من الشعب مع الإسلاميين (سكان الريف الذين تسميهم أدبيات السياسة الإيرانية “مناطق محروم كشور”)، وما تبقى راوح بين انتخاب الإصلاحيين وبين الحنين لاستعادة المجد الشاهنشاهي.
هذا الانقسام الحاد تجلى بوضوح في نسيج المجتمع، فبتنا نرى الإيرانيين داخل إيران والإيرانيين خارج إيران (وهي أزمة عابرة للحدود ناتجة عن اتساع الفجوة بين الدول المتقدمة وبين بلدان العالم النامية)، فالإيرانيون المهاجرون ينتمون غالبا إلى الطبقة الوسطى والطبقة المرفّهة، لكن على المراقب أن يخوض بحذر في هذا الميدان، فالحدود بين هذه الطبقات وألوان نسيجها معقّدة.
النساء الإيرانيات المسافرات مثلا، وحال مغادرة الطائرة للأجواء الإيرانية يذهبن إلى مرحاض الطائرة ويتخلصن من كل قطعة ملابس تنتمي إلى الحجاب الإسلامي، وهو ما أصبح الشباب الرجال أيضا يفعلونه أي أنّ انتزاع مظهر النظام السياسي الإسلامي هو أول إعلان لطلاق المسافرين مع كل ما ينتمي إلى الداخل، وهكذا تنمو الفجوة بين الشعبين، أهل الخارج يضعون كل أهل الداخل في سلة الولاء للنظام والانصياع له، وبالمقابل فإنّ أهل الداخل يضعون كل أهل الخارج في سلة قلة الوطنية والولاء لأميركا على وجه الخصوص.
أي مراقب لوضع المهاجرين في الولايات المتحدة والعالم الغربي بوسعه أن يميز بسهولة الإيرانيين عن غيرهم، فهم الأكثر انسلاخا عن منظومة القيم الأخلاقية والمجتمعية الإسلامية في العالم، ولا يجد المرء أي إيرانية محجبة خارج إيران، كما لا يجد أي إيراني متدين خارج “الجمهورية الإسلامية”، وهو ما يختلف جذريا عن وضع المسلمات المهاجرات من العالم العربي والإسلامي، ممّا يدعو إلى دراسة ظاهرة ردّات فعل المسلمين خارج خارطة الإسلام السياسي.
[embed:render:embedded:node:14471]
هذه القطيعة مع النظام السياسي ترافقها بطبيعة الحال غربة عن نسيج المجتمع الإيراني، لذا- ورغم الحديث عن 8 ملايين مهاجر إيراني خلال ما يقرب من أربعة عقود من الزمن- لم ينجح هؤلاء في بناء قاعدة معارضة، حتى فكرية، تهدد الإسلاميين.
مصادقة مجلس الشورى الإيراني خلال شهر أبريل 2016 على قانون يتيح للحكومة منح الجنسية لعائلات أجانب قضوا خلال قتالهم “لمصلحة البلاد” أثناء الحرب العراقية الإيرانية والحروب التي تدور رحاها حاليا في سوريا والعراق، تعني أنّ القتلى قضوا في سبيل قضية نشر الإسلام السياسي الملائي.
ويمكن أن يسري هذا القانون على “المتطوعين” الأفغان والباكستانيين الذين قتلوا خلال المعارك إلى جانب القوات السورية، على ما أوردت وكالة “فرانس برس”.
وفي هذا السياق تنشر وسائل الإعلام الإيرانية بانتظام تقارير عن مقتل متطوعين أفغان وباكستانيين في سوريا والعراق، ويجري دفن جثثهم في إيران.
وجرى مثل ذلك خلال الحرب العراقية الإيرانية، فقد قاتل الألوف من المهجارين العراقيين (الذين هجّرهم وعائلاتهم نظام البعث في العراق بتهم التبعية الإيرانية على مدى 3 عقود)، علاوة على الألوف من المنتمين لأحزاب الاسلام السياسي الشيعية التي عارضت سلطة صدام حسين، واختارت أن تقف إلى جانب “الجمهورية الإسلامية” في حرب السنوات الثماني، وقاتل معهم بضع مئات من المقاتلين الأفغان وهم في الغالب من المهاجّرين من العراق أيضا، كل هذا الخليط قاتل إلى جانب نظام الجمهورية الإسلامية ضد العراق، وقد صار كل الأحياء من أولئك وكل أُسر من قُتلوا منهم، يتمتعون بحقوق مواطني الدرجة الأولى في إيران، وتسلّم البعض منهم مناصب عليا في الدولة.
وتتبنى حكومة “الجمهورية الإسلامية” نفس الموقف من مقاتلي حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله في لبنان، إذا تمنح عائلات قتلاها امتيازات داخل إيران، تصل إلى مستوى منحهم الجنسية الإيرانية، ومنحهم وحدات سكنية في المشاريع العملاقة التي تقيمها الحكومة والبازارعلى أطراف المدن فتقوّي الاقتصاد، وتحل أزمة السكن وتشتري ولاءات ملايين المنتمين لمشروع “الجمهورية الإسلامية” التي تمثل إيران أولى حلقاتها بانتظار اكتمال حلقات السلسلة الأخرى.
أمير علي حيدر
حقوق النشر: صحيفة العرب اللندنية 2016