هل يشبه إردوغان المدني عبد الناصر العسكري؟
رغم انتماء عبد الناصر للوسط العسكري وإردوغان للمدني، إلا أن التشابه حاضر بينهما كاريزمياً. فكل منهما خطيب مفوه، يطل على جمهوره بأداء متوازن، يتحدث مباشرة دون قراءة من ورقة، يرفع الصوت في موضع لإثارة حماس الجمهور ويخفت منه في موضع آخر لكسب تعاطفه، مع إيحاءات مناسبة بلغة الجسد لا سيما ما يتصل منها بحركات اليدين و"الشوبرة". وخلف كل منهما يقف جهاز إعلامي ضخم ومواكب للحداثة، يعرف ماذا يفعل، وما نوعية الصورة المفترض نقلها لكل من الداخل والخارج.
استناد إلى أيديولوجية مناسبة
ومن أهم أدوات ترسيخ الحكم المطلق هو الاستناد إلى أيديولوجية مناسبة قادرة على شد الجمهور، وهذا حال كلا الرجلين رغم اختلاف المضمون الأيديولوجي. فقد وجد عبد الناصر في القومية العربية المغناطيس الجاذب لحشد الملايين في زمن النضال ضد الاستعمار لتحقيق الاستقلال القومي؛ أما بالنسبة إردوغان فقد كان الإسلام السني مع توظيف للإرث العثماني كحاضنة تاريخية للأتراك والأكراد والعرب وقوميات أخرى في زمن تصاعد الخطاب الديني كحل للخراب الذي خلفته سنوات حكم "القوى العلمانية" الطوال في كافة المجالات، جرى ذلك بالتلازم مع صعود إيران-الشيعية وارتفاع حدة الاستقطاب السني-الشيعي.
كما يتشابه الرجلان في طرحهما لـ"أولية الأمن على الديمقراطية"، وقد يستسيغ المعجب بشخصية أحدهما أن يبرر ذلك "بكثرة الأعداء، ومنعاً لتغلغل الفئات المندسة في البناء الديمقراطي الحديث/الضعيف عبر وسائل المال والإعلام". فمن جهته، كان عبد الناصر يؤمن بالرقابة الأمنية شرط ألا تتعدى ضرورات الأمن الوطني، إلا أنه لم يحدد ماهية هذه الضرورات! وكانت تجربته السابقة مع الأحزاب المصرية زمن الملكية المصرية قد خلفت لديه عقدة الخوف من الديمقراطية في عصر الصراع بين الإيديولوجيتين الشيوعية والليبرالية.
وفي الجانب العملي، نجح عبد الناصر في تأميم الحياة الحزبية في مصر، وأحل مكانها التنظيم الواحد، الاتحاد القومي بدايةً ثم الاتحاد الاشتراكي، بالتلازم مع تحويل نائبه السوري عبد الحميد السراج للإقليم الشمالي (سوريا) لدولة بوليسية محضة خلال سنوات تجربة الوحدة السورية-المصرية، تلك التجربة التي ما كان عبد الناصر ليقبلها دون شرط إلغاء الحياة الحزبية السورية برمتها، ما غير شكل الحكم في سوريا للأسوأ بلا عودة.
وجود أعداء حقيقين أو مفترضين
ومما يسهّل عملية القضاء على المعارضة والمنافسين وجود أعداء حقيقين أو مفترضين، وكان القائمة المصرية زمن عبد الناصر طويلة، تضم إسرائيل والقوى الرجعية (معظم الأنظمة العربية وإيران-الشاه) والإمبريالية الغربية، والشيوعية العالمية، فإذا ما استعصى توجيه تهمة من بينها "للمغضوب عليه" حضرت تهمة الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين. ويقدم النموذج التركي زمن إردوغان "باقة منوعة" من الاتهامات أيضاً، "عصرية وتناسب الأذواق كافة"، تبدأ بالانتماء لداعش (ضد ذوي الاتجاهات الإسلاموية)، أو لحزب العمال الكردستاني (ضد الأكراد)، أو لجماعة عبد الله غولن (الكيان الموازي/ ضد الأتراك المحافظين)، أو للقوى الانقلابية (ضد القوى العلمانية)، أو تهمة التعامل مع إحدى القوى التي تدعم هذه الجماعات إقليماً أو دولياً، وبذلك يمكن لدائرة الاتهام أن تتسع أو تضيق تبعاً للحالة المراد التعامل معها.
انقياد شعبوي لشخصية "القائد الملهم"
ومن أهم أدوات التي تعزز الانقياد الشعبوي لشخصية "القائد الملهم" هي الإنجازات على أرض الواقع. وقد كان بحوزة عبد الناصر من الأرقام ما يجعله يدلل على نجاح سياساته، حيث كان يتحدث باعتزاز عن النمو في المؤسسات الصناعية، والزيادة في إنتاج النسيج، ومضاعفة إنتاج الحديد، وبرنامج الكهرباء، وصناعة أجهزة الراديو، والتجميع الصناعي للشاحنات، ونمو قوة الجيش، وإنجاز السد العالي والمشاريع الزراعية المرتبطة به، والحضور المميز لمصر دولياً، وغير ذلك مما كان له وزن كبير في زمانه، وهو أمر موازن (إذا راعينا الفوارق الزمنية) للنقلة الاقتصادية التي حققتها تركيا إبان حكم حزب العدالة والتنمية، أي عملياً تحت حكم إردوغان، الذي ما ينفك يفاخر بها أمام جمهوره، تلك الإنجازات التي جعلت تركيا تتبوأ مركزا متقدما ضمن أقوى عشرين اقتصاد في العالم، بدايةً من إصلاح النظام النقدي، مروراً بمشاريع البنية التحتية العملاقة، وصولاً إلى إعلان عن مشروع "تركيا الجديدة 2023".
ويشترك الاثنان في كرههما لوجود شخصية منافسة على الزعامة، أي ينتميان إلى "شخصية الديك" إن جاز التعبير. تلازم ذلك مع حالة عبد الناصر بتهويل المؤامرات على حياته. ويجمع معظم السياسيون السوريون ممن كان لهم حضور سياسي في دولة الوحدة على تأكيد انتهاجه لسياسة إقصائية بحق أي شخص قد يفترض أن يكون منافساً مستقبلياً له، هذا على الجانب السوري.
أما على الجانب المصري فقد تمت العملية على دفعتين رئيستين، الأولى بعد حادثة المنشية 1954 (محاولة اغتيال عبد الناصر)، وقدمت المصوغ لاقتلاع جماعة الإخوان المسلمين من المشهد السياسي والاجتماعي المصري؛ والثانية بعد الهزيمة الكبرى أمام إسرائيل 1967 وما أعقبته من تصفيات وإبعاد، كالتخلص من الرجل الثاني في النظام المصري آنذاك، المشير عبد الحكيم عامر (1967)، ومن ثم اعتزال الرجل الثالث في النظام المصري، زكريا محيي الدين، العمل السياسي (1968). حتى إذا ما توفي عبد الناصر (1970) لم يبقَ من رجال الدولة المصرية شخصية ترتقي لخلافته سوى نائبه محمد أنور السادات، وهو نفسه صاحب شخصية خلقت إشكاليات كبرى أكثر من عبد الناصر نفسه، نتيجة صفقة السلام مع إسرائيل (كامب ديفيد 1978).
وعلى الضفة الأخرى يمكن لمتابع الأوضاع السياسية في تركيا أن يقارب ذلك مع تسلسل خروج بعض القيادات التاريخية لتركيا أو لحزب العدالة والتنمية في تركيا-إردوغان من المشهد السياسي بطريقة مشابهة لتجربة مصر-عبد الناصر، فكان خروج عبد الله غل (شريك إردوغان في تأسيس حزب العدالة والتنمية ورئيس تركيا السابق) من الواجهة السياسية، ومن ثم إعلان أحمد داود أوغلو اعتزاله عالم السياسة، أقوى الأمثلة على صحة هذه المقاربة. وقدمت المحاولة الانقلابية الفاشلة ضد إردوغان (صيف 2016) "المبرر الدستوري" له للتخلص دفعة واحدة ممن يستشعر خطرهم على النظام التركي، وطالت حملة المداهمات المؤسسات كافة.
نوعية من الرجال محيطة بالقائد من فئة "أمرك مولاي"
وتدريجياً، أصبحت نوعية الرجال المحيطة به من فئة "أمرك مولاي"، ينفذون الأوامر دون تردد أو نقاش، وتلاشت عند بعضهم الحدود المعقولة بين إظهار الطاعة وبين المبالغة في التملق، فيطيلون شواربهم إذا سمعوا أنه قد امتدح الشارب العثماني. هذه النوعية بالذات أوصلت عبد الناصر إلى حتفه، كما قادت مصر إلى الحضيض الذي تعيشه حالياً. إذا يحضر سؤال: من سيتولى مقادير البلاد حال أصاب "الزعيم" حادث طارئ، سيما وأن معاييره لانتقاء الرجال المحيطين به قد اعتمدت أساساً على ضعف الشخصية وانتفاء الصفات القيادية؟
تنبؤ بمسارات الرياح الدولية
ويقدم تعامل الرجلين مع الوضع الدولي جانباً مفيداً لمقارنة أوجه الشبه بينهما. فقد كان عبد الناصر بارعاً إلى حد ما في الإفادة من تغير موازين القوى عقب نهاية الحرب العالمية الثانية 1945، فاستغل بدايةً التنافس الأمريكي-البريطاني لضمان موقف أمريكي مؤيد (أو صامت في الحد الأدنى) للحركة العسكرية التي أطاحت بالملكية المصرية المدعومة من بريطانيا 1952، ومن ثم تقديره صائباً في أن أمريكا ستعارض أي عدوان على مصر جراء تأميم قناة السويس، وتجسد ذلك في موقفها إزاء العدوان الثلاثي 1956، كما أمكن له أن يفلت من الوقوع مباشرة تحت رحمة الأمريكي في مواجهة السوفيتي عن طريق المفاوضة والمساومة بينهما. ولم تكن سياسته هذه خافية على الإدارة الأمريكية، إذا تكشف الوثائق أنها قد حاولت بدورها استغلال لجوئه إليها لتركب موجة الثورة المصرية، ومن ثم الاستفادة منها لإقصاء النفوذ البريطاني والفرنسي، وبعدها محاولة إبعاده عن السوفييت للانفراد به والمزايدة عليه في مواضيع متعددة مصرية وإقليمية.
أما تركيا التي استفادت بصورة كبيرة من التنافسات الدولية في القرن العشرين ونالت مساعدات كثيرة من الغرب جراء اشتراكها في عضوية أحلافه العديدة، فقد تغيرت الأوضاع بصورة متسارعة في زمن إردوغان. وأكدت الأزمة السورية للسياسيين الأتراك أن التحالف طويل الأمد مع الغرب قابل بدوره للتعديل، لا سيما مع استمرار الرفض غير المعلن لقبول عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي. وهنا يمكن القول إن السياسيين الأتراك قد تفوقوا على نظرائهم العرب والإيرانيين في التنبؤ بمسارات الرياح الدولية.
ففي الوقت الذي كانت فيه أنظمة الخليج العربي مطمئنة لتحالفها مع أمريكا، وقّعت الأخيرة الاتفاقية النووية مع خصمهم إيران. حتى إيران ذاتها، تنازلت عن مشروعها النووي في مفاوضات مع الغرب في أيام ليست أحسن أيامه. وفي المحصلة قدمت الأزمة السورية خدمة جليلة للسياسة التركية لإعادة ترتيب توجهاتها السياسية الخارجية والمنافع المحتملة، فناورت ورمت أوراقها على طاولة المفاوضات مع الغرب للموافقة على الانضمام للاتحاد الأوروبي، ومنها ورقة اللاجئين وتحكمها بمرورهم إلى أوروبا، وكان اختبار الشد على الأعصاب إثر إسقاط الطائرة الروسية، تلك الحادثة التي أفضت إلى تأكيد وجهة نظر الأتراك القائلين بأن الغرب بات في مرحلة يجيد فيها التنديد والقلق فقط، وأن زمن توجيه الأشرعة في اتجاه جديد قد آن.
وجرى توظيف محاولة الانقلاب الفاشلة كمبرر قوي لتنفيذ السياسة الجديدة، فخرجت بعض وسائل الإعلام التركية باتهامات للغرب بضلوعه في الانقلاب، وبأن أوروبا تستضيف كوادر حزب العمال الإرهابي في حين تستضيف أمريكا فتح الله غولن المتهم الرئيس بمحاولة الانقلاب، وسرعان ما أدار إردوغان دفة سفينة السياسة التركية لتسير في مسار يتناسب مع رياح الشمال التي هبت من روسيا، وأمكن له استغلال الخلافات الدولية لإصلاح العلاقات التركية-الروسية المتدهورة، وبدأ إردوغان بتقديم بعض التنازلات لروسيا في الملف السوري، في حلب تارة، وعلى حساب دعم المعارضة السورية تارة أخرى، مقابل مساعدتها في الملف الكردي السوري والأمني التركي.
ونذكر هنا أن هذا النوع من "اللعب" خطير ويحتمل مواجهة أحد أنداد الصراع الدولي بشكل منفرد حال مالت كفة لصالحه، فيفتح "الحليف" المفترض دفتر الحسابات القديم. هي حالة واجهها عبد الناصر في ظرف تاريخي أفضى إلى أكبر هزيمة عسكرية حلت بمصر عام 1967.
أخيراً، استمر عبد الناصر في السلطة مدة 18 عاماً حتى موته 1970، أنفق منها 16 كرئيس جمهورية محتفظاً لنفسه بكرسي رئاسة الوزراء أيضاً. يبدو أن إردوغان ماضٍ في الطريق ذاتها.
حسام الحسون
حقوق النشر: موقع قنطرة 2017
[embed:render:embedded:node:24384]