ليبيا...معركة سرت تحدد مصير الحرب أو السلام
سئل الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، في أواخر ولايته الرئاسية الثانية (2016)، عن أسوأ خطأ ارتكبه خلال رئاسته؟! فأجاب بأنه الفشل في التخطيط لمرحلة ما بعد سقوط نظام القذافي. أما التدخل العسكري من خلال الناتو في ليبيا، فيعتقد أنه كان عملاً صائباً.
ونتيجة للفشل الأمريكي ـ الأوروبي في التخطيط والمتابعة السياسية الفعّالة لإنجاح المرحلة الانتقالية، ما بعد سقوط نظام القذافي الشمولي، تخبط "المجلس الوطني الانتقالي" منذ غداة إعلان التحرير (23 اكتوبر 2012) في مراكمة الأخطاء السياسية والأمنية، بدءاً من تعجّله بانتقال سلطات الدولة الجديدة الناشئة من بنغازي معقل الثورة إلى طرابلس العاصمة، وهي تغص بميليشيات جهوية وقبلية وايديولوجية ولصوصية، تمارس السلب والنهب والخطف وتهريب الوقود والبشر، في غياب مؤسستي الجيش والشرطة اللتين اندثرتا في حكم المُجتَّث مع اندثار مؤسسات دولة القذافي الهشة.
هذا التعجل أدى إلى تحول أمن العاصمة إلى رهينة التنازع بين هذه الميليشيات المتنافسة على مراكز النفوذ السياسي وموارد الدولة، بمنطق أَمْرُهُمْ فَوْضىً بَيْنَهُم. ومع ذلك تمكن الليبيون، بعد خمسون عاماً على اخر انتخابات ديمقراطية في عهدة الدولة الملكية، من اجراء انتخابات حرة ونزيهة بمواصفات دولية (يوليو 2012) انبثق عنها برلمان "المؤتمر الوطني العام".
وكانت الميليشيات، والتي أمَّنت العملية الانتخابية، تُقوي نفسها بأنواع الأسلحة المختلفة المنهوبة من مخازن النظام المنهار، وتجنّد المزيد من المسلحين الجدد من الشباب المدنيين، حتى زاد عدد المسلحين، الذين لم يتجاوزوا الثلاثين ألفاً في كامل البلاد أثناء الثورة، إلى ما يزيد على مائتين وخمسين ألفاً بعد سقوط نظام القذافي، مسجلين في قوائم المئات من ميليشيات أمراء الحرب، ويتقاضون رواتب شهرية من السلطة الجديدة بحسبانهم قوات شرعية، الأمر الذي ترتب عليه، بطبيعة الحال، دخول تلك الميليشيات المتنافسة والمتنازعة، لدواعي جهوية/ قبلية وإيديولوجية/ سياسية ولصوصية/ إجرامية، في جولات احتراب متواترة في ما بينها، على خلفية الاستقطاب السياسي الحاد داخل "المؤتمر الوطني العام"، بين تكتل الاغلبية المتمثل في نواب الإسلام السياسي من اخوان مسلمين وحلفائهم من إسلاميين مستقلين وسلفيين جهاديين، وبين تجمع المعارضة المدنية المتمثل في نواب حزب "تحالف القوى الوطنية" الموصوف بالعلمانية يعاضده نواب ليبراليون مستقلون.
وهكذا ارتسمت بين أحياء طرابلس وضواحيها خطوط تماس متعارف عليها، تفصل بين مناطق نفوذ ميليشيات مصراتة الجهوية، التي تمثل القوة الضاربة في صف تحالف الإسلام السياسي، يقابلها بالمواجهة ميليشيات قبائل الزنتان القوة الضاربة في صف "تحالف القوى الوطنية".
فعاشت العاصمة لنحو سنتين جولات اشتباكات حربية متواترة، يتخللها عمليات خطب واغتيال متبادلة، إلى أن نشبتْ المعركة الحاسمة بينهما بسبب نتائج انتخابات مجلس النواب في 22 يوليو 2014 (على أساس نظام الانتخاب الفردي) والتي لم يحصل فيها المنتمين للجماعات الإسلامية سوى على نحو 30 مقعدا من مقاعد مجلس النواب المائتين، مقابل 50 مقعداً للمنتمين إلى "تحالف القوى الوطنية".
وذهبت بقية المقاعد إلى ذوي انتماءات جهوية/ مناطقية وقبلية، معظمهم معارضون لمشروع "الإسلام السياسي". وإذ علم تحالف الإسلاميين، المهيمن على الحكومة ومؤسساتها، بهزيمته في الانتخابات قبل نحو أسبوع من إعلان نتائجها، لجأ إلى الخطة سابقة الإعداد على ما يبدو. فشنت ميليشياته عملية عسكرية كاسحة سموها "فجر ليبيا" ضد ميليشيات قبائل الزنتان، التي اندحرت، بعد أربعين يوما من القتال الضروس، منسحبة نحو الاحتماء بمناطق قبائلها على بعد (180كم) من طرابلس.
وبالتالي وقعت العاصمة تحت سيطرة الإسلاميين، الذين أعادوا إحياء البرلمان المنتهي ولايته (المؤتمر الوطني العام)، وشكلوا حكومة تمثلهم ولا يعترف أحد بها في العالم. بينما لجأت أو قلّ هربت الحكومة الشرعية إلى شرق البلاد حيث اتخذت لها مقراً بمدينة البيضاء على مبعدة 1,225.9 كم من العاصمة طرابلس.
واستقر مجلس النواب المنتخب لتوه في مدينة طبرق، التي تنعم بالاستقرار الأمني على الحدود الشرقية مع مصر. في الوقت الذي كانت فيه الميليشيات الإسلامية المتطرفة تسيطر، على نواحي من مدينة بنغازي كبرى مدن الشرق. وتشن هجماتها على بضع سرايا تنتمي إلى القوات النظامية الخاصة (الصاعقة) المتمركزة وسط المدينة.
اقرأ/ي أيضًا: المزيد من مقالات موقع قنطرة
حسابات الربح والخسارة في ″مغامرات أردوغان العربية″
حفتر...مشروع إسقاط الإسلام السياسي في ليبيا
دور أوروبي خجول إلى متفرج ومتردد في الأزمة الليبية
كانت التفجيرات الإرهابية أخبار معتادة، وعمليات الاغتيال متواصلة في ملاحقة عناصر الجيش والشرطة بحسبانهم ممثلين للطاغوت. وقد اغتيل المئات منهم، عدا النشطاء المدنيين والحقوقيين. وكانت مدينة درنة واقعة بالكامل في قبضة الجهاديين القاعديين قبل أن تُقام فيها إمارة الداعشيين إلى جانب إمارتهم القائمة في مدينة سرت التي تتوسط البلاد بين غربها وشرقها. وهنا ظهرت ظاهرة الجنرال خليفة بلقاسم حفتر، إذ التف حوله بضع مئات من ضباط وجنود الجيش النظامي، وازداد مع الوقت انضمام العسكريين المهمشين من مختلف أنحاء البلاد، والتحق به مسلحين مدنيين من بينهم المنتمين إلى السلفية المدخلية المعادية بشراسة لغيرها من الجماعات الإسلامية.
حظى الجيش المُتشكّل بالتأييد والمؤازرة من قبائل الشرق ومعظم قبائل الجنوب وبعض قبائل الغرب في حربهم على ميليشيات التطرف والإرهاب. ولم يكن خافياً تلقي الجنرال حفتر دعماً إماراتياً ـ مصرياً مباشراً بالأسلحة والذخيرة، الأمر الذي شكّل عاملاً حاسماً وراء تمكّن قواته من القضاء التام على الميليشيات المتطرفة في بنغازي والقضاء التام على إمارة داعش في مدينة درنة، والسيطرة التامة على جنوب ليبيا (إقليم فزان) وايقاف متوالية الحروب الصغيرة القبلية والأثنية المشتعلة هنا وهناك في مناطقه الشاسعة. في الوقت الذي تمكنت فيه ميليشيات مصراتة القوية من القضاء على إمارة داعش في مدينة سرت بدعم عسكري جوي من قوات الافروكوم الأمريكية.
وهنا نصل إلى يوم الرابع من الشهر الرابع العام 2019، اليوم الذي أرسل فيه الجنرال حفتر قوات "الجيش الوطني" للسيطرة على العاصمة. فوصلت بسرعة خاطفة إلى داخل ضواحيها الطرفية، بحيث أصبحت حكومة المجلس الرئاسي برئاسة فائز السراج، المعتمدة من مجلس الأمن، لا تحكم إلا حيزاً ضيقاً من الساحل الغربي ولم ينجيها من سقوطها الوشيك إلا التدخل التركي بالسلاح والذخيرة والمستشارين العسكريين والطائرات الحربية المسيرة وجلب آلاف المرتزقة السوريين. وبعد زهاء 14 شهراً على "حرب طرابلس" انسحبت قوات "الجيش الوطني" من كامل إقليم الغرب الطرابلسي وتمركزت في مدينة سرت الساحلية بوسط البلاد، وذلك نزولاً عند طلب الحلفاء الإقليميين: مصر والإمارات والدوليين روسيا وفرنسا (مع ضغط أمريكي).
وبهذا أصبحت مدينة سرت عنواناً لفصل جديد في روزنامة الصراع في ليبيا، والذي قد يتحول إلى صراع على ليبيا، يكون أفتك قتلا وأشد دماراً من مجمل ما سبق من جولات احتراب محلية. فهذه المرة أُدخلت البلاد في لعبة تصادم الكبار، حيث الاتراك والروس يوشكان على استنساخ رقعة الشطرنج الجيوبولتيكية السورية بينهما في البلاد الليبية، بينما الفرنسيون يدبرون لصالحهم ما ينفعهم. والأمريكان يراقبون الروس. والمصريون لا يمزحون، لأن الشرق الليبي لصيق بوجودهم منذ الفراعنة الأوائل.
وعليه، ترسم "سرت" ما بعدها: حرباً أو سلاماً! والمؤمل عند الليبيين أن تتوقف عندها جولات الحروب الصغيرة العبثية بين الاخوة الأعداء، بتثبيت وقف دائم لإطلاق النار، واستئناف العملية السياسية لاجتراح حل سياسي توافقي.
وفي اعتقادي، حسبما أخبر الوقائع الليبية الجارية والمعقّدة، أن الحل السياسي الشامل والدائم للمسألة الليبية العويصة غير ممكن بالسرعة المتصورة. فالبلاد في حالة حرجة من الانقسام السياسي والعسكري والجغرافي بين شبه دولتين غرباً وشرقاً، وبينهما دماء وثارات وأحقاد، واجندات أجنبية متناقضة.
إن الحل الممكن مرحلياّ ينبغي أن يُثبّت الوضع العسكري القائم عند خط وقف اطلاق النار على امتداد سرت ـ الجفرة، وأن يؤخذ بالمحاصصة بين الأقاليم الثلاثة في مراكز الحكم وتوزيع عوائد النفط بعدالة بين الاقاليم الثلاثة وفق آلية اشراف البعثة الأممية، وإقامة حكومة وطنية جديدة خارج طرابلس مؤقتاً (ربما في سرت منزوعة السلاح) حتى يتم حلّ الميليشيات وخروج كافة القوات الأجنبية والمرتزقة من العاصمة.
أما في حالة الفشل في استحقاق الحل السياسي الممكن هذا فسوف تتحول ليبيا، ولا شك، إلى حلبة حرب تدميرية بشعة بين الكبار وقد جن جنونهم. ويصبح الانقسام بين الشرق والغرب أمراً واقعاً لا مفر منه.
حقوق النشر: قنطرة 2020
اقرأ/ي أيضا: مقالات من موقع قنطرة
ملف خاص حول ثورة 17 فبراير/ الحرب الأهلية الليبية
الأمم المتحدة: الأردن والإمارات والسودان دعمت حفتر فاستنجدت حكومة ليبيا بتركيا وكلها انتهكت الحظر