الربيع العربي كشف العصبية الكامنة خلف الجماعة المستبدة بالسلطة
قبل عقود قليلة اعتمد الكثيرون من الدارسين المختصين بالمشرق العربي، مثل رايموند هاينبوش وحنا بطاطو، على مفهوم الطبقة في شكل أساسي من أجل تفسير الأحداث التي عصفت بمجتمعات المشرق العربي، من دون أن يستدعي هذا نفي أي دور للطوائف أو غيرها من الجماعات الأهلية في فهم وتفسير حركة هذه المجتمعات.
لكن الإحالة على الجماعات الأهلية تمت عموماً عبر محاولة إلحاقها تحليلياً في شكل أو آخر بالطبقة، وبخاصة في ما يتعلق بالأقليات التي عاشت في المدن أو الأرياف حيث وجد شكل من التنظيم الاجتماعي الطبقي. يُضاف إلى ذلك أن هذه الأقليات تمتعت بتجانس اجتماعي أعلى، بالمعنى الطبقي، مقارنة بالغالبية، بالإضافة إلى كونها سكنت مناطق جغرافية خاصة بها مثل أحيائها الخاصة أو قراها. كل هذا سمح بالحديث عن الطبقة- الطائفة، وبالتالي تم فهم «الطائفي» بالإحالة على الطبقي أو الاجتماعي بمعنى أوسع.
الربيع العربي كشف العصبية الكامنة خلف الجماعة المستبدة بالسلطة
لكنْ وبتأثير تطورات الأحداث، التي حصلت خلال العقود الأخيرة في المشرق وتطور الأنظمة السلطوية الشعبوية وتكشف العصبية الكامنة خلف تلاحم الجماعة المستبدة بالسلطة، طرأ تحول على النماذج التفسيرية الخاصة بدراسة المشرق العربي، حيث تم الانتقال من «الطبقة» إلى «العصبية» من أجل تفسير ما حصل.
لا تقتصر العصبية هنا على القبيلة بل تغطي مجالاً أوسع، فهي تحيل على كل أشكال الولاء لجماعات أهلية سواء كانت هذه الجماعات قبائل أو طوائف أو مذاهب. وهكذا صارت «العصبية» المقولة التحليلية الأساسية لفهم السلوك الاجتماعي وتفسير التطورات الحاصلة في بنية هذه الأنظمة كما حروبها وصراعاتها.
إن صح التحليل القائم على «العصبية»، فستترتب عليه نتيجتان أساسيتان بصدد فهمنا لهذه المجتمعات والدول وما يدور فيها من صراعات:
أولا: من غير المجدي تفسير النزاعات الطائفية بالدين، ولن يكون من المجدي العودة إلى التراث الشيعي أو السني أو الأحداث التاريخية السالفة والتي مضت عليها قرون من أجل فهم ما يدور في العراق أو سورية، كما لا نحتاج إلى التعمق في دراسة الديانة العلوية أو المسيحية من أجل فهم سلوك العلويين أو المسيحيين. على العكس تماماً، يجب علينا أن نقلب المسألة رأساً على عقب، فنشرح ونحلل التفسيرات الدينية المستخدمة انطلاقاً من دورها في صون الهوية وتعزيزها في هذه النزاعات، بحيث يتحول التركيز من الدين إلى الجماعات الطائفية والتي ستتم مقاربتها بوصفها جماعات عصبية مثلها مثل القبيلة أو الإثنية.
فالنموذج الأفضل لفهم الطوائف هو النموذج الإثني، باعتبار أن القومية أو القبلية هي حالات خاصة منه، بحيث تُعتبر نزاعاتها نزاعات إثنية متركزة على مسألة الهوية مثل النزاعات في يوغوسلافيا السابقة أو النزاعات القبلية في افريقيا.
هذه النتيجة تتقاطع مع ما توصل إليه كل من حسن أبو هنية ومحمد أبو رمان في دراساتهما حول السلفية الجهادية في المشرق وبخاصة مع صعود نجم الدولة الإسلامية، عندما أشارا إلى الارتباط بين التطورات الحاصلة في الحركات السلفية الجهادية وسياسات الهوية المتمركزة حول «أهل السنة» والدفاع عنهم ضد ما لحقهم من تنكيل وبطش. «أهل الســنة» الذين تحولوا، بعد الاحتلال الأميركي للعراق واستيلاء الجماعات الشيعية على الدولة العراقية والجيش، إلى جماعة أهلية في مواجهة جماعات أهلية مغايرة ومختلفة.
ثانيا: انتفاء مقولة المجتمع، بالمعنى الذي يحيل فيه المجتمع (والأمة الجامعة ضمناً) إلى جماعة من البشر الذين يتشاطرون إحساساً مشتركاً بالانتماء والالتزام بمعايير وقيم مشتركة تشكل الأساس للسلوك الاجتماعي المقبول بينهم ولما هو مرفوض ومدان ومستحق للعقاب.
وفي النظام السياسي لعصرنا الراهن تكون الدولة- الأمة هي التعبير السياسي عن هذا المجتمع، أي أنها التمثيل السياسي لإرادة مجتمعها أمام الآخرين والتعبير عن وعيه لنفسه، وهذا يدعم حق الدولة في السيادة في ما يتعلق بشؤونها الداخلية. لكن عندما تحظى الجماعات الأهلية بولاء أفرادها من دون الدولة الوطنية، عندها لن يكون هناك مجتمع مكون من أفراد ينتمون إلى الأمة، بل جماعات تعيش متجاورة في ما بينها، والدولة لن تكون دولة- أمة بل ساحة للتنازع بين هذه الجماعات.
المثال الأقرب لهذه الحالة هو «المجتمع الدولي»، فهو ليس مجتمعاً إلا على سبيل المجاز، حيث لا هوية عامة تجمع أفراده إلى بعضهم بعضاً، كما لا تنظمه قوانين ومؤسسات تنفيذية تعمل على نفاذ هذه القوانين وتحقيقها ومعاقبة من يخرج عنها، ويتساوى الجميع أمام هذه القوانين.
على العكس تماماً، فالمجتمع الدولي هو ساحة تتصارع فيها الدول من أجل مصالحها أولاً وأخيراً، فالمصلحة هي المعيار الأول لسلوك هذه الدول تجاه بعضها بعضاً في الساحة الدولية.
أيضاً لا توجد مؤسسة تقف فوق هذه الدول وتملك سلطة نافذة عليها إلا مجازاً، فالأمم المتحدة لا تملك قوة عسكرية أو مالية أو تنفيذية مستقلة بها، بل تعتمد كلية على الدول لتنفيذ ما تقره، وهو ليس سوى حصيلة توافق وتوازن لقوى الدول. المكاييل المزدوجة ليست عاراً للمجتمع الدولي وقوانينه، بل هي صفة جوهرية وأساسية فيه.
«المجتمع الدولي»، بهذا المعنى، هو المثال الأفضل لنقيس مجتمعاتنا ودولنا عليه. فهي ليست مجتمعات أو دولاً إلا على سبيل المجاز، حيث يعود الولاء إلى الجماعة الأهلية وليس إلى الدولة، وحيث تسعى كل جماعة أهلية لتحقيق مصالحها وأن تتحالف مع من تشاء، حتى لو من خارج الدولة، من أجل تحقيق مصالحها. في هذه الحالة تؤول «الدولة» في المشرق العربي إلى مقولة حقوقية، لأنها تملك علماً وكونها عضواً في الأمم المتحدة ولها حدود، ولكنها لا تعود دولة بالمعنى الاجتماعي بوصفها تنظيماً يحتكر العنف في شكل شرعي في إقليم محدد (السيادة) ويعبر عن الأمة ووعيها ذاتها أمام بقية الأمم.
وحتى في اللحظات التي بدت فيها هذه الدولة متمتعة بالسيادة، كما في سورية حافظ الأسد أو عراق صدام حسين، فإنها لم تكن سوى تعبير عن انتصار عصبية على العصبيات الأخرى وقمعها وإسكاتها بالقوة واستخدام جهاز الدولة لتحقيق مصالح هذه الجماعة ذات العصبية، أو على الأقل نخبة هذه الجماعة المحتكرة للسلطة، حتى تأتي اللحظة المناسبة التي تسمح للجماعات الأخرى بالانتفاض على الجماعة ذات الشوكة ومنازعتها السيطرة على الدولة.
موريس عايق
حقوق النشر: موريس عايق 2018