"لا أريد خدمة الصور النمطية عن المرأة العربية"
السيِّدة أسماء العطاونة (أسمى العطاونة)، أنتِ تصفين في روايتك كيف هربت من ظروف شديدة وعنيفة جدًا في غزة، أوّلاً إلى إسبانيا وثم إلى فرنسا حيث تعيشين اليوم. فما هو الجانب الخيالي في روايتك؟
أسماء العطاونة: لقد راودتني عندما كتبت روايتي الكثيرُ من المشاعر والذكريات. وعندما يصبح الأمر صعبًا جدًا بالنسبة لي أثناء الكتابة، أحاول أن أعرض الأمور بشكل أسهل. وذلك لأنَّ الكثير مما عشته كان صعبًا جدًا.
ولذلك أضفت الجانب الخيالي ودمجت عناصر السخرية. الرواية تتعلق بأحداث واقعية، ولكنني قمت، على سبيل المثال، بتغيير الأسماء فيها حتى أجعل القصة تبدو أكثر مأساوية. واستخدمت على سبيل المثال أسماءً مستعارة لأبطالها الذكور: فجدي اسمه في الرواية "أبو شَنَب" وهناك رجل آخر اسمه "أبو حرب". والهدف من هذه الأسماء هو التأكيد على طابع الأحداث الذكوري.
واعتمدت في العمل على ذكرياتي، ولكن عندما كنت لا أستطيع تذكُّر مشهد ما من الماضي، كنت أكمِّله من خيالي. وأنا أُسمي ذلك بـ"الخيال الوثائقي". أردت أن يتمكَّن القارئ أثناء القراءة من أن يشم ويشعر بما عشته.
"رواية تتعلق بحياتي"
هل خلقتِ بذلك مسافة بينك وبين النصّ؟
أسماء العطاونة: نعم ولا؛ توجد مسافة لأنَّني انتظرت عشرين عامًا لكتابة هذا الكتاب وسرد قصَّتي. وعلى الرغم من ذلك فأنا ما زلت أشعر بهذا الألم أثناء الكتابة.
ومن ناحية أخرى، لا توجد مسافة لأنَّ الرواية تتعلق بحياتي. وأفضل طريقة يمكنني بها وصف ذلك هي أنَّني كتبت هذه الرواية بدموعي ودمي وعرقي.
تحتل المعاناة بسبب الاحتلال الإسرائيلي حيِّزًا كبيرًا في الأدب الفلسطيني. ولكنك تكتبين أيضًا حول كيفية تقييدك كفتاة مُتمرِّدة في أسرة محافظة وكيف يتعرَّض الفلسطينيون السود للتمييز.
أسماء العطاونة: توجد نزعة في الأدب الفلسطيني للقول نحن نعيش تحت الاحتلال الإسرائيلي ولذلك من الأفضل أَلَّا نكتب حول هذا أو ذاك. وكأنَّنا نخفي إخفاقاتنا ونواقصنا خلف الاحتلال الإسرائيلي. وبطبيعة الحال فإنَّ أحدهما يؤثِّر على الآخر.
ولكن خلال مواجهتنا الاحتلال، يمكننا أيضًا مواجهة المجتمع المحافظ. ونحن نستطيع العمل على كلا الأمرين في الوقت نفسه. ولمجرَّد أنَّنا نعيش تحت الاحتلال فهذا لا يعني أنَّنا دائمًا ضحايا فقط، لا.
يجب علينا أيضًا محاربة التمييز ضدَّ المرأة في مجتمعنا. ولمجرَّد أنَّني أعيش تحت الاحتلال فهذا لا يمنحني الحقّ في قمع جاري لأنَّه أسود أو لأنَّه امرأة.
أليس الاثنان مترابطين؟ الضغط من الخارج يزيد من حدة العنف داخل الأسرة.
أسماء العطاونة: بالضبط، ولهذا السبب فأنا لا أصدر أية أحكام في روايتي. وربَّما هذه هي المسافة بيني وبين النصّ. أنا أكتب حول الحيّ، الذي نشأت فيه في غزة.
وغزة منطقة من أفقر مناطق العالم، محاصرة بالجيش الإسرائيلي وسكَّانها ليس لديهم عمل ولا مال ولا يمكنهم الخروج منها. ولذلك ما الذي يمكنهم فعله؟ ينشغل الناس فيها كثيرًا بالنميمية والقيل والقال والنظر إلى ما يفعله جيرانهم. وهكذا تنتقل تجارب العنف والصدمات من جيل إلى جيل.
لقد فقدَتْ جدَّتي عقلها عندما طردها الإسرائيليون من بيتها في النقب وهربت مع جدي إلى غزة من أجل البقاء على قيد الحياة. وأنا أيضًا عشت صدمتها هذه.
"رجاءً لا تقوموا بتصنيفي"
تنتشر في الغرب صورة نمطية مفادها أنَّ "المرأة العربية تحرِّر نفسها من ثقافتها القمعية". فكيف يمكنك الكتابة حول التمييز مع تجنُّب هذه الكليشيهات في الوقت نفسه؟
أسماء العطاونة: أنا لا أريد أن أخدم هذه الكليشيهات. كثيرًا ما أشاهد أثناء قراءاتي أنَّ النساء -وحتى هنا في ألمانيا أيضًا- يجدن أنفسهن في تجربتي. النساء يعانين من الاضطهاد في كلِّ مكان، سواء في غزة أو في ألمانيا أو في فرنسا. نحن جميعنا نكافح.
أنا لا أريد خدمة هذه الصورة النمطية عن المرأة العربية المحجَّبة المضطهدة. هذا ما يحبّ الغرب أن يراه فينا، لكننا لسنا كذلك. هذا الشكل من الاستشراق هو خيال غربي لا يتوافق مع الواقع. أمي مثلًا لا تستطيع القراءة والكتابة، فقد ذهبت إلى المدرسة لفترة قصيرة فقط ثم اضطرت إلى مغادرتها للمساعدة في البيت، ولكنها قوية جدًا.
توجد في أوروبا نساء عربيات يخدمن هذه الصور النمطية ويروِّجن لها عن قصد في مجال الفنّ والثقافة من أجل بناء حياتهن المهنية هنا. ويقمن بتغذية هذا الخيال وأنا لا أعتقد أن هذا جيِّد. النساء يتعرَّضن للقمع والاضطهاد في جميع أنحاء العالم، وليس فقط في ثقافتنا العربية والإسلامية. رجاءً لا تقوموا بتصنيفي. انظروا إلى هنا بدقة: أنا أريد أن أفتح النقاش ولا أريد إغلاقه.
والدتك في تناقضها هي الشخصية الأكثر إثارة للاهتمام في الرواية. وهي من ناحية تضرب أطفالها وتتحمَّل فوق طاقتها، ولكنها تعرف من ناحية أخرى ماذا تريد بالضبط.
أسماء العطاونة: نعم بالطبع أُمّي امرأة قوية. لقد رأيتها عندما كان عمري أحد عشر عامًا تلاحقُ رجلًا وتعضه من أذنه (تضحك) لأنَّه كان يزعج والدي باستمرار في العمل. لم يكن والدي يريد فعل أي شيء، ولكن أمي فعلت ذلك. بينما كنا نجلس خارج البيت، مرَّ الرجل من أمامنا فركضت أمي خلفه وعضَّته وصرخت في وجهه قائلةً له يجب أن يترك زوجها بسلام. أنا ما أزال أتذكَّر ذلك حتى اليوم.
ومع ذلك، يوجد فرق شاسع بين جيل النساء العربيات الأصغر سنًا والأكبر سنًا. النساء الأصغر سنًا أكثر راديكالية. يمكننا ملاحظة ذلك في الأدب أيضًا.
أسماء العطاونة: نعم، اليوم يرفع جيل الشباب صوته في الأدب والموسيقى والسينما بطريقة مختلفة تمامًا عن الجيل الأكبر سنًا. الأمر يتعلق بأشياء كثيرة بالنسبة لنا. توجد نساء يخاطرن بحياتهم من أجل الذهاب إلى المدرسة.
توجد في أوروبا نسويات يناقشن إن كان يجب علينا إزالة الشعر عن أجسامنا أم لا. وهذا النوع من النسوية لا يهمني؛ بل يجب علينا أن نتطرَّق إلى القضايا المهمة حقًا - هنا وفي العالم العربي، حيث تخشى الكثير من النساء من عواقب حديثهن حول أحوالهن السيِّئة. يجب علينا أن نكون أقوى من أُمَّهاتنا وإِلَّا فلن تكون لدينا أية فرصة.
تجاهل من الإعلام العربي
صدرت روايتك أوَّلًا باللغة العربية لدى دار الساقي وبدعم من الصندوق العربي للثقافة والفنون (آفاق) في بيروت. فكيف كان صداها في العالم العربي؟
أسماء العطاونة: لقد شاركتُ في مسابقة وفزتُ فيها بمنحة من آفاق تتضمَّن تحرير الكتاب ونشره. لكن بعد نشر روايتي، التي تصف أيضًا ما هو الخطأ في مجتمعاتنا، تم تجاهلها إلى حدّ كبير من قِبَل وسائل الإعلام العربية.
وفقط صحيفة "لوريان لوجور" اللبنانية هي التي نشرت مراجعة نقدية للرواية. وقد جعلني ذلك أشعر كثيرًا بالحزن، ولكنني فكَّرت بطريقة ما أنَّ هذا الكتاب سيشُق طريقه. وهذا ما حدث أيضًا.
ومع ذلك فقد تلقَّيت على موقع فيسبوك الكثير من التعليقات الإيجابية من نساء عربيات - وهذا مهم جدًا بالنسبة لي. أنا أريد أن أُشجِّع النساء الأخريات خاصةً داخل الحركة الثقافية العربية، فَهُنَّ يجب عليهن أن يغلقن أفواههن وخاصة عندما ينتقدن مجتمعاتنا. وعندما ينشرن شيئًا يُصدَم المجتمع ويتم رفضهن، والجميع يُوَجِهُّون أصابع الاتهام إليهن. ولكن يجب علينا أن نتجاوز ذلك، وإِلَّا فلن يتغيَّر أي شيء على الإطلاق وسنظل خائفات من أن نكون نحن أنفسنا.
أنتِ تصفين العنف القاسي داخل أُسرتك. ولكن مع ذلك فإنَّ روايتك سهلة القراءة. فهل تستخدمين السخرية عن وعي من أجل تخفيف الأمور الصعبة على القارئ؟
أسماء العطاونة: أنظري إلى تشارلي شابلن وباستر كيتون، لقد استخدما أيضًا الضحك الساخر. أنا أردت أن أبيِّن كيف يمكن تحويل المأساة إلى كوميديا والتعبير عن سخافتها. وهذا أسلوب فلسطيني جدًا. نحن نضحك كثيرًا في غزة وهذا جزء من مقاومتنا الوضع. ونحن نسخر من كلِّ شيء - من الإسرائيليين ومن حماس ومن أنفسنا. وأحيانًا يكون هذا كلُّه مبالغًا فيه، ولكننا نعود بعد ذلك إلى قول النكات. نحن يمكننا التواصل من خلال الضحك أفضل من التواصل من خلال الدموع. تبًا - نحن لا نريد إلَّا أن نعيش.
حاورتها: كلاوديا مينده
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2023
رواية أسماء العطاونة "صورة مفقودة"، صدرت باللغة العربية عن دار الساقي، وبترجمة ألمانية تحت عنوان "لا هواء للتنفس - طريقي إلى الحرِّية"، عن دار لينوس، سنة 2021.