المرأة العربية في ظل الربيع العربي
برلين في 10 مايو 2012
عزيزتي منصورة،
لفترة من الوقت سوف نتحدث هنا على صفحات موقع قنطرة للحوار مع العالم الاسلامي معاً – ما أجمل ذلك!
ولكن ما المقصود بـ"نحن"؟ امرأتان، نعم بالتأكيد، ولكن ليس هذا كل شيء. لقد درس كلانا في الجامعة (أنت الإعلام وأنا التربية الاجتماعية وعلم الاجتماع)، وكلانا يكتب – غير أنك تكتبين بالطبع أجمل مني. كما أن اللغة بالنسبة لكل منا وسيلة للتعرف على العالم وفهمه.
والآن إلى نقاط الاختلاف. النقطة الأولى واضحة وضوح الشمس: نحن من ثقافتين مختلفتين. النقطة الثانية تنكشف عندما يتأمل المرء صورتينا: نحن من جيلين مختلفين، فأنا أكبرك باثنتين وعشرين سنة (ولكن من فضلك لا تبوحي لأحد بهذا!).
هل يلعب العمر دوراً؟ أعتقد ذلك، ولكن ليس بالضرورة بمعنى أنه يفصل بيننا. إن سني يسمح لي بأن ألقي نظرة على فترة أطول من فترات كفاح المرأة، لا سيما كفاح المرأة في الغرب؛ كما أن عمري يحفظني أحياناً من النفاق والتعالي في التعامل مع المجتمعات غير الغربية.
حتى تفهمين ما أعني، أود أن أحكي لك حكاية شخصية صغيرة: لقد كنتُ في مدرستي أول بنت ترتدي سروالاً في الفصل. كنت تلميذة في مدرسة للبنات، وكل البنات كن يرتدين التنورات، وكذلك المعلمات بالطبع. عندما بلغت الحادية عشرة ظللتُ ألح على أمي إلى أن اشترت لي سروالاً. كان سروالاً فضفاضاً من قماش سميك بني اللون، ذا ثنية قوية في المنتصف؛ كان يشبه سراويل الرجال. لا أنسى أبداً ذلك الصباح الذي ارتديت فيه السروال وذهبت به إلى المدرسة. ولأن قماش السروال كان متصلباً فقد كنت أسير كجندي صغير في عرض عسكري، كما كنت أشعر بزهو لا يوصف.
كان ذلك خلال ستينات في القرن العشرين. كثيرون لم يعودوا اليوم يستطيعون أن يتخيلوا إلى أي حد كانت الأخلاقيات في "الغرب الليبرالي" محافظة. ليس معنى كلامي أن ارتداء السروال كان ثورياً إلى هذا الحد، ولكن فتيات المدن الصغيرة لم يعتدن آنذاك أن يُظهرن ما يُطلق عليه بخجل "الحِجِر".
لم يمض وقت طويل إذاً على وجود نظام للملابس عندنا، كان الخروج عليه يعد انتهاكاً للمحرمات. نظام الملابس هذا لم يكن له علاقة بالدين، بل بالتصورات المجتمعية حول ما هو مسموح للمرأة.
إعذريني من فضلك إذا كانت هذه الرحلة القصيرة إلى الماضي قد طالت بعض الشيء، وإذا كنت سببت لك الملل. ما أود أن أضيفه حتى تتكون لديك صورة عن شخصي هو أنني عشت بضعة سنوات في ماليزيا ثم زرت خلال عملي الصحفي عدداً من الدول ذات الطابع الإسلامي، من إيران إلى مالي. بالإضافة إلى ذلك نشرت كتابين، كما أنني أكتب الآن كتابي الثالث الذي يحمل عنوان "محاولة لتجنب الكتابة البيضاء"، وهو مقاربة للنظرة المركزية الأوروبية للعالم انطلاقاً من خبراتي في مختلف الثقافات. وما يثير اهتمامي للغاية هنا هو الجانب النفسي: إلى أي حد يمكننا أن نتحرر من الرؤى التي تشكل وجداننا وعقولنا. ولكن – كفى كلاماً عن نفسي!
أما أنت، عزيزتي منصورة، فبالتأكيد لا وقت لديك الآن لكتابة الكتب، فالحوادث في مصر تتطور على نحو دراماتيكي. إنني أتتبع الأخبار حابسةً أنفاسي. ولأن رسالتي الأولى ستصلك – على ما آمل – قبل الانتخابات الرئاسية فإني أود أن أسألك: أين النساء؟ أين المرشحات اللائي كثُر الحديث عنهن في الشهور الأخيرة؟ إنني، مثلك تماماً، لست واهمة لأتخيل أن امرأة ستصبح رئيسة لمصر. ولكن الإعلان عن الترشيح في حد ذاته كان إشارة مثيرة للانتباه – إشارة تبين أن نساء عديدات بدأن يضعن ما يُطلق عليه "البديهيات" موضع تساؤل. ما رأيك؟
مع تحياتي الحارة من برلين
شارلوته فيديمان
***
القاهرة في 20 مايو 2012
العزيزة شارلوته،
أود أولاً أن أعرب عن سعادتي ببدء الحوار بيننا!
ذكرتِ في رسالتك الأولى نقاط التشابه والاختلاف بيننا، أو على الأقل الظاهر منها. وهو ما أتفق معه، وأزيد عليه أن نقاط الاختلاف قد تهب حوارنا معنى مضاعفاً وتكسبه حيوية مرغوبة.
معايشتك لأحوال المرأة في ثقافات أخرى، ودرايتك بها عن قرب، سيجنبنا، كما آمل، الكثير من سوء الفهم، وسيضمن رؤيتك لها بعيداً عن الصور النمطية أو الاختزال تحت تصنيفات ولافتات ثابتة. فالمعايشة عن قرب، مثلها مثل العمر، تحفظ أيضاً من "النفاق والتعالي في التعامل مع المجتمعات غير الغربية".
شخصيا لم يُتَح لي أن أعيش في دولة أخرى غير مصر، وإن كنت زرت أكثر من عشر دول غربية للمشاركة في ندوات ومهرجانات أدبية، مما منحني الفرصة لأحاديث موسعة مع نماذج ثرية من نساء منتميات لأجيال وأنماط تفكير مختلفة.
لكن، في ما يخص مصر، أظنني محظوظة كوني انتقلت من بيئة لأخرى. فقد وُلِدت في قرية صغيرة جداً ومعزولة عن العمران، ثم انتقلت إلى القاهرة في سن الثامنة عشرة للدراسة والعيش وحدي، وهو ما مكنني من مراقبة الأحوال المتعددة للنساء في الريف والمدينة، والمقارنة بينها على أكثر من صعيد.
في سنواتي الأولى في القاهرة انتميت إلى قاهرة الغرباء والمهمشين، ممن يقطنون غرفاً مؤجرة، ولا يجدون أنفسهم إلاّ على الأرصفة وبين أمثالهم في الشوارع، وبالتدريج، بعد التخرج في الجامعة والعمل بالصحافة وبدء رحلتي ككاتبة، صرت من "أهل المدينة"، أو بالأحرى صار لي فيها بيت وعمل، ثم أسرة صغيرة.
أذكر هذا فقط، كنوع من التعريف بنفسي، تماماً كما قدمتِ لي صورة عن شخصك، عبر الإشارة إلى أسفارك وكتبك، وعبر حكايتك اللافتة عن ارتدائك السروال لأول مرة في ألمانيا الستينيات.
أختلف معك في اعتبارك هذه التفصيلة المهمة مجرد حكاية شخصية، لأنها تتجاوز كونها كذلك لتقدم لمحة سريعة عن التاريخ الاجتماعي لمدينة أوروبية صغيرة في الستينيات، ووضع النساء فيها. لن أستسلم للتبسيط لأقول إنها تحكي كل شيء أو تقدم صورة كاملة، لكنها بالتأكيد تدلنا على شذرة ذات دلالة.
في النهاية أسأل معك: أين النساء من انتخابات الرئاسة في مصر؟
وأجيب، كمن يفكر بصوت عالٍ: هل ينحصر الرهان فقط على النساء المنتميات لدوائر صنع القرار السياسي؟ بالطبع وجود نساء في هذه الدوائر أمر مهم، وكفيل بتحسين أوضاع المرأة على المدى الطويل، وإن ليس في كل الأحوال.
ربما يكون الرهان الآن على النساء العاديات. أؤمن بدور الإنسان العادي والمهمش في صناعة التاريخ. الثورات العربية الحالية، يمكن وصفها بأنها ثورات العاديين، رغم مشاركة المثقفين فيها بدرجات تختلف من بلد لآخر.
في مصر، سنجد أن معظم من وضعن ما يُطلق عليه "البديهيات" موضع التساؤل هن من النساء اللاتي عادة ما يتم وصفهن بـ"العاديات". لعل أبرزهن سميرة إبراهيم التي تحدت التقاليد البالية والنفاق المجتمعي، ولا تزال تخوض معركة صعبة ضد العسكر الذين أجبروها مع معتقلات أخريات على الخضوع لاختبار كشف عذرية.
مثلك كنت أتمنى وجود امرأة بين المرشحين في انتخابات الرئاسة، ومثلك لم أكن أتوقع لها الفوز، فالطريق لا يزال طويلاً وشاقاً حتى الوصول إلى هذه النقطة. لكن وجود هذه المرأة كان سيعني الكثير ولو رمزياً.
في بدايات السباق كانت المرأة ممثلة، كمرشحة محتملة للرئاسة، عبر بثينة كامل التي أخفقت في جمع 30 ألف توكيل من المواطنين أو في الحصول على دعم 30 عضواً من أعضاء البرلمان، وبالتالي خرجت من ساحة التنافس.
قد يعود هذا الاخفاق إلى كونها امرأة، أو إلى أنها، هي تحديداً، لا تتمتع بقاعدة جماهيرية واسعة، أو حتى للأمرين معاً، إضافة إلى عوامل أخرى خاصة بالسياق المعقد الذي تجري فيه الانتخابات، لكن هذا أمر شرحه يطول .
تحياتي الحارة من القاهرة،
منصورة عز الدين
***
برلين في 16 يونيو 2012
عزيزتي منصورة،
أوافقك في أننا لا يجب أن نصرّ بشدة على المطالبة بمناصب قيادية للنساء، فهذا أمر يستحيل تحقيقه حالياً في الدول العربية. وأوافقك أيضاً أن "المواطنين العاديين والمهمشين يكتبون التاريخ".
لكن رغم ذلك يجب علينا ألا نتجاهل نقطة مهمة، وهي أننا بحاجة إلى نساء في مناصب عليا كقدوة، حتى وإن لم تستطع تلك النساء تغيير واقع بقية النساء، أو وضع سياسات بشكل أفضل من الرجال. لكنهن قادرات على تغيير شيء في العقول وفي وعي النساء، فكثير من النساء لا يثقن بما فيه الكفاية بأقرانهن، وهذه نتيجة قرون من الأنظمة الأبوية.
لنأخذ أنجيلا ميركل، المستشارة الألمانية، على سبيل المثال. أنا لست من مؤيدي سياساتها، إلا أن شخصية ميركل جعلت مشاهدة المرأة في المجال السياسي على مدى سنوات أمراً طبيعياً، فهي متواجدة باستمرار على كل قنوات التلفزيون، ولا يعتقد أحد الآن بأنها غير قادرة على القيام بذلك. وبالمناسبة، فإن السيدة ميركل لم تستفد على الإطلاق من تمكين الحركات النسوية، بل تمكنت من صعود السلم السياسي من خلال التغيرات التاريخية، والتقلبات التي رافقت عملية توحيد شطري ألمانيا، وسلسلة من الصدف، وعندها أصبحت واعية بحجم سلطتها ونجحت في التغلب على جميع منافسيها من الرجال.
لقد قابلتها قبل أكثر من عشرين عاماً، عندما كانت وزيرة شابة غير متمرسة. آنذاك قالت لي أنها تشعر وكأنها تسافر في سيارة سريعة للغاية، وروحها تواجه مشاكل في اللحاق بالسيارة. يا ترى، هل تتذكر ميركل ذلك الآن؟
يجب على النساء إبداء الثقة بالنساء الأخريات، وهذا في اعتقادي سيكون مفتاح حل الكثير من المسائل. في عدد من الدول العربية التي تحكمها أنظمة استبدادية، ومن ضمنها مصر إبان حكم مبارك، تم إدخال الكوتة النسائية. والآن يجلس عدد أقل من النساء في البرلمان المصري المنتخب بشكل حر من عددهم في البرلمان غير المنتخب بحرية (ولن أتحدث هنا عن قرار المحكمة الدستورية بحل البرلمان، فهذه قصة أخرى).
علينا ألا نلقي باللائمة في ضعف النساء هذا على الرجال وحدهم، فأنا أعرف من بلدان أخرى أن النساء تفضل انتخاب الرجال. علينا ألا نغمض أعيننا عن هذه الحقيقة، وهي أن العمل الشعبي مقصور على الرجال فقط، فهذا الاعتقاد موروث أبوي يعتبر جزءاً من الثقافة العربية، وهو موجود في ثقافات أخرى، تارة بدرجة أقل، وتارة أخرى بدرجة أكبر، ويعشّش في عقول الكثير من النساء حول العالم.
أعتقد أن الثورات العربية أظهرت أن النساء أكثر قبولاً كناشطات منهن كجزء من المؤسسة السياسية (رجاء صححيني إن كان تصوري هذا خاطئاً). ولقد استنتج الكثير من المراقبين الغربيين التالي: "أثناء الثورة لم يلعب الدين دوراً، ولهذا كانت النساء قويات. والآن بعد أن قوي الإسلاميون، بدأت النساء تخسر". أنا أعتبر هذه النظرية خاطئة، فهي أولاً مبالغة تقليدية، إذ هللت وسائل الإعلام الغربية لدور النساء العربيات في البداية، وبعد ذلك صورتهن كمسلمات يعانين من مرارة الاضطهاد، وكأننا يمكن اختزال الأمر في تصنيف مبسط أبيض أو أسود!
لكن الأمر يتعلق بشيء مختلف تماماً، فطريق النساء من الشارع إلى المؤسسات السياسية طويل، وهذا لا يقتصر على الدول العربية فقط. لماذا؟ لأن الأمر يتعلق بالسلطة والمنافسة. ففي الشارع وأثناء المظاهرات وفي العمل على المستوى الشعبي، لا تسرق النساء أي أدوار من الرجال. أما في السياسة فالصراع يدور حول المناصب والوظائف المريحة والمال والمكانة. إذاً فإن الفجوة الواسعة بين تواجد المرأة في الحركات السياسية وموقعها الضعيف في البرلمانات واللجان والحكومات ليست ظاهرة خاصة بالربيع العربي.
في ألمانيا أيضاً توجد أمثلة على ذلك، فالأحزاب السياسية قامت بإدخال كوتة نسائية، تختلف من حزب إلى آخر، كي تتم مراعاة النساء أثناء وضع القوائم الانتخابية. هذا ليس أمراً مفروغاً منه هنا، حتى في وسائل الإعلام، التي يعمل فيها كثير من النساء حالياً، والتي تناقش ضرورة إقرار كوتة نسائية للمناصب القيادية. ومؤخراً قامت مجموعة من الصحافيات المعروفات بإطلاق مبادرة تهدف إلى تمثيل النساء في مناصب رئاسة التحرير بنسبة 30 بالمائة خلال الخمس سنوات المقبلة. حالياً تبلغ هذه النسبة اثنين بالمائة فقط!
إذاً، عزيزتي منصورة، فلنضحك سوياً على هذه النكتة: الإعلام الألماني يسعى إلى تحرير المرأة العربية، إلا أن المرأة في هذا الإعلام غير قادرة على الوصول إلى مناصب قيادية!
وبينما أكتب لك هذه السطور، أنتظر نتيجة الانتخابات الرئاسية في مصر. أنا متشوقة لقراءة ما ستكتبينه لي.
تحياتي القلبية لك من برلين.
شارلوته
***
القاهرة 1 يوليو 2012
عزيزتي شارلوته،
أكتب إليكِ الآن وسط أنباء عن أن الرئيس الإخواني المنتخب محمد مرسي سوف يختار امرأة بين نوابه، وفي هذه الحالة ستكون السيدة المختارة أول امرأة تتقلد هذا المنصب في تاريخنا الحديث.
هذه بادرة طيبة بطبيعة الحال، وإن كان التغيير الحقيقي الذي أتمناه يتمثل في وصول امرأة مصرية إلى سدة الحكم يوماً ما عبر صناديق الاقتراع.
دعينا نتأمل مفارقة انتظار كل هذا الوقت من أجل خطوة مماثلة في بلد حكمته قبل آلاف السنوات ملكات قويات كحتشبسوت وكليوباترا وغيرهما من ملكات فرعونيات بارعات.
في رسالتي السابقة، لم أقصد إطلاقاً ألاّ نصر على مناصب قيادية للنساء، بل أرى أن هذا المطلب ضروري ومهم، فقط أردت القول إننا يجب ألاّ نكتفي بالرهان على النساء النخبويات أو النساء في دوائر صنع القرار، لأن هذا وحده لا يضمن تحسين أوضاع النساء المهمشات.
في مصر كانت هناك وزيرات ونساء في مناصب رفيعة منذ عقود، ووصلت المرأة إلى العمل في القضاء قبل سنوات. وآمل بعد نضالها الرائع خلال ثورة يناير أن تحصل المرأة على حقوقها غير منقوصة، وإن كنت أعرف أن الطريق لا يزال شاقاً، لكن هناك مؤشرات تدفع إلى التفاؤل، أهمها هذه الروح الجديدة التي أحسها تنتشر بين النساء المصريات على اختلاف خلفياتهن الاجتماعية والثقافية.
تكفي الإشارة في هذا الصدد إلى أن المشاركة النسائية في التصويت خلال الانتخابات الرئاسية كانت لافتة جداً حتى في الريف. خرجت ملايين النساء للتصويت، وكثيرات منهن كن معترضات على تعديلات مقترحة، من نواب اسلاميين بمجلس الشعب قبل حله، على قانون الأحوال الشخصية من ضمنها مشروع قانون لتخفيض سن زواج الفتيات إلى 14 عاماً!
وعندما لاحظ حزب "الحرية والعدالة" التابع للإخوان المسلمين النسبة التصويتية العالية للنساء في الدورة الأولى من انتخابات الرئاسة، نفى أثناء الدورة الثانية صلته بأي مشروع قانون يخص المرأة.
لقد تحدثت مع عدد من النساء الأميات المعترضات على خفض سن زواج الفتيات، ولمست مدى حرصهن على تعليم بناتهن كأنما سيكون ذلك تعويضاً عمّا افتقدنه هن. احداهن أخبرتني أنها لو تعلمت لأصبحت وزيرة، لا أقل من هذا، وأنها تحلم باليوم الذي ترى فيه ابنتها وقد صارت في وظيفة مرموقة بدلاً من أن تُساق للزواج في سن صغيرة كما حدث معها هي.
أوافقك في أن وجود نساء في مواقع القيادة في بلدانهن يمثل إضافة مهمة للنساء جميعاً. قد نتفق أو نختلف مع سياسات أنجيلا ميركل، أو مارجريت تاتشر، أو بينظير بوتو، لكن وجودهن مثّل ولا يزال إلهاماً للنساء في بلدان العالم المختلفة، إذ أقنع كثيرات أن هذا الحلم ليس مستحيلاً. وربما كانت إحداهن ماثلة في ذهن المرأة البسيطة التي تحدثت معي بأسى عن حلمها الضائع في أن تكون وزيرة.
من بين هؤلاء السياسيات ربما تحظى الراحلة بينظير بوتو بأهمية خاصة كونها ابنة لمجتمع إسلامي محافظ. لقد كان وصولها إلى رئاسة وزراء باكستان في أواخر الثمانينيات وردود الأفعال المعترضة عليه بحجة مخالفته للشريعة الإسلامية من الأسباب التي دفعت الكاتبة المغربية فاطمة المرنيسي للغوص في التاريخ الإسلامي بحثاً عن حاكمات تم شطبهن عن عمد من التاريخ الرسمي.
وهكذا سلطت المرنيسي في كتابها "السلطانات المنسيات" الضوء على تاريخ مهمّش ومنسي لحكم النساء في مجتمعات إسلامية قديمة من دلهي إلى القاهرة ومن اليمن إلى الأندلس وشمال إفريقيا.
كما أعتقد أنه من الأهمية بمكان التمحيص في التاريخ الإسلامي، واعادة كتابته لابراز دور المرأة فيه واستعادة إرث النساء القويات الذي يتم تغييبه كأنه لم يكن قط.
وبعيداً هذه النقطة أرى أن ملاحظتك حول أن النساء أكثر قبولاً كناشطات أكثر منهن كجزء من المؤسسة السياسية ملاحظة ثاقبة للغاية. لكن في الحالة المصرية ثمة بعد آخر هو أن الثورة لم يُتح لها أن تُستكمَل، ولم يصل الثوّار إلى السلطة بعد تنحي مبارك، إنما استحوذ عليها العسكر. وقد أظهر هؤلاء كراهية شديدة للثوّار رجالاً ونساءً على مدى المرحلة الانتقالية، وإن كان تجاهلن للنساء الناشطات أكثر وضوحاً. أعتقد أن وضع الناشطات كان ليكون أفضل في حال استكملت الثورة أهدافها بسرعة ووصلت إلى السلطة.
والنقطة السابقة توضح أيضاً أن الإسلاميين المتشددين ليسوا مسؤولين وحدهم عن تهميش النساء عقب الثورة، صحيح أنهم أظهروا عداوة واضحة لها وللحريات بشكل عام، لكنّ التهميش الحقيقي والإيذاء الأقوى جاء من الحكم العسكري.
جميل أننا متفقتان حول أن مشاكل النساء قد تنبع أحياناً من نساء أخريات، فظاهرة "نساء ضد النساء" منتشرة بدرجة كبيرة، وفي رأييّ أن نجاح نضال المرأة يبدأ بالحد من هذه الظاهرة. النساء هنا في مصر، كما في كل مكان آخر، يلعبن دوراً كبيراً في تشكيل قناعات وسلوكيات أطفالهن، ويمكنهن، إن أردن، غرس قيم المساواة الجندرية واحترام حقوق المرأة على المدى الطويل.
تحضرني هنا مقولة طريفة شاعت خلال التظاهرات عن الأمهات المصريات: "الثائر المصري لا يخاف الموت، ويواجه الرصاص الحي والمطاطي والمدرعات ببسالة، لكنه لا يجرؤ على مصارحة أمه بأنه ذاهب للتظاهر"!
لدي ما أحكيه لكِ عن بعض وسائل الإعلام الغربية، لكن لنؤجل ذلك إلى رسالتي القادمة، لأنني ثرثرت في هذه الرسالة أكثر مما يجب.
في انتظار ردك ومتشوقة جداً للإطلاع على المزيد من أفكارك.
محبتي وتقديري،
منصورة
***
برلين، في 8 أغسطس/ آب 2012
عزيزتي منصورة،
في رسالتك السابقة، ذكَرتِ المغربية المتخصصة في علم الاجتماع فاطمة المرنيسي. وبالأمس، التقيت بها هنا في برلين! إذ نظّم صديق ألماني قديم للسيدة المرنيسي مائدة عشاء خاصة، وكان لطفاً منه أن يدعوني إليها. كان مظهرها يليق بها كامرأة نصيرة للمرأة، عمرها أكثر من 70 عاما، بشعرها القصير المصبوغ باللون الأحمر، وأحمر الشفاه الشديد الاحمرار، بالإضافة إلى كل ملابسها الحمراء المتنوعة، التي ذكّرتني قليلاً بالريف المغربي. (عبارتي الأخيرة هي مجرد افتراض ينطوي على بعض المجازفة أو التجرُّؤ مني، لأنني في الحقيقة لا أعرف إلا المدن في المغرب فقط).
وكانت فاطمة المرنيسي مفعمة بالحيوية كما كانت دائماً؛ وفي حين كان مُضيّفنا يقطّع شرائح السمك، قامت هي بتضييف مائدتنا ببعض الطروحات. وكان أحدها هو أن العرَب أصبحوا لا يتطلعون إلى الغرْب، وتركت الغرب يسقط من أناملها إلى الأرض بجانب كرسيها كمنديل قذِر.
المرنيسي تدرُس منذ عشر سنوات التأثير الاجتماعي للقنوات الفضائية العربية، وهي تفسِّر قيام الثورات العربية بوجود هذا التأثير: فهي ترى أنه بظهور مساحة واسعة أتاحَت التعبير بحرية والاختلاف في الرأي، تغيّر سلوك التواصل داخل الأُسَر والعائلات وتغيرت صورة المرأة فيها أيضاً. وفي المغرب، نشَرَت المرنيسي مؤخراً كتاباً تحت عنوان "جيل الحوار"، وفيه تصف سبعُ صحفيّات ناجحات، بناءً على اقتراح من المرنيسي، سِيَرهن الذاتية وحياتهنّ المهنية، بشكل منفصل تماما عن الماضي، الذي كان يهيمن على حواراته الذكور من طرف واحد.
عزيزتي منصورة، أودّ أن اتخذ علاقة كل مِنّا الروحية الوثيقة بالمرنيسي كفرصة لبدء النقاش حول قضايا الجنس والمراقبة الجنسية والتحرش الجنسي. تعتقد المرنيسي أن المرأة في فترة ما قبل الإسلام كانت عدوانية جنسياً، فقد كانت تنام مع الكثير من الرجال - وبهذا فإن المرأة في ذلك الوقت "اختزلت هؤلاء الرجال إلى سلعة جنسية مجهولة، وحرَمتهم بذلك من حق الأبُوّة". ولهذا السبب، فقد كان في النظام الاجتماعي المُسْلِم لا بد من وجود قوانين كثيرة من أجل الحد من خطورة النساء القويات والنشيطات جنسياً ومن أجل احتوائهن؛ لأنه عندئذٍ فقط يمكن أن تنشأ أسرة صغيرة ومستقرة حول الأب، كأساس للمجتمع المسلم.
في حين أنه من المعروف أن الغرب يُنظَر دائماً إلى المرأة المسلمة على أنها ضحية، أي كامرأة ضعيفة، كما تصف ذلك المرنيسي بقوة وبحماس. الإسلام يُقرّ صراحةً بحق المرأة في المتعة الجنسية، ويمكن فهم ذلك تماماً على أنه عرْض سلام مع المرأة: ولجعل ذلك يبدوا حلواً في عينها فقد سُمِحَ لها بأن يكون لها شريك جنسي، يبذل جهده لإرضائها. وبحسب ما أعرف، فمن أسباب الطلاق، بموجب القانون الإسلامي، هو عدم إشباع المرأة جنسياً بشكل دائم. ولكن ذلك يُقاس بمدى الصعوبة التي تواجهها النساء عموماً إذا أردْنَ إنهاء الزواج من طرف واحد، مع العلم بأن الإهمال الجنسي هو سبب وجيه للغاية للانفصال. وبالمناسبة، ما أوردتُه في الفقرة السابقة يسلّط الضوء على شيء آخر أيضاً، غير مفهوم في كثير من الأحيان لدى الغرب، وهو: أن الزواج الديني لدى المسلمين هو عمل من صُنْع البشر وليس "طقساً دينياً مقدساً"، كما يسمّيه الكاثوليكيون. وإلاّ، فما هي المساعدة التي يمكن أن يقدّمها الرّب إذا كان الزوج فاشلاً على سرير الزوجية؟
لكنني أتساءل هنا: كم هو عدد النساء المسلمات اليوم اللواتي يتحلَّينَ بالشجاعة في طلب الطلاق بسبب الإحباط الجنسي؟! وبذلك نكون قد وصلنا إلى الواقع الاجتماعي لحاضرنا، في سياق الربيع العربي ومسألة مدى ارتباط الثورة بالجنس والمراقبة الجنسية.
عزيزتي منصورة، لقد كتبتِ عمّا يُسمّى بِـ "فحوصات البكارة" التي ينبغي بالأحرى أن يتم تسميتها بـ"أعمال الاغتصاب الرسمية". لقد تم استحداث هذه الاعتداءات، كما كتبتِ أنتِ، "لِمعاقبة المرأة على حضورها في الأماكن العامة، التي لا يزال الرجال يعتبرونها مجالات خاصة بهم". ما رأيكِ الآن بالاعتداءات العنيفة على النساء بأيدي مجموعة من الرجال الغوغائيين قُرْب ميدان التحرير؟ في البداية لم أُبالِ بالأمر حين وصفَت التقارير الأولى تمزيق ملابس النساء هناك على أيدي رجال غوغائيين بأنها مجرد: حالة فردية تبعث على الاشمئزاز.
ولكن الآن لم يعُد ربما ممكناً الحديث عن قضية فردية واحدة. فقد قرأتُ تقريراً للصحفية البريطانية ناتاشا سميث يبعث على الصدمة، وجعلني أشعر بالبؤْس حقا. النساء المصريات يتعرضن بالتأكيد لمثل هذه الاعتداءات التي ورَدت في هذا التقرير؛ الفرق هو أن الأجنبيات أقل خوفاً حين يتحدثنَ في العلَن عمّا جرى لهن.
تحدّثتُ مؤخراً مع صحفي ألماني شاب يعمل حالياً في القاهرة. وقال إنه شهِدَ بنفسه شيئاً من ذلك عندما كان في ميدان التحرير مع زميلة له، تعمل في حقل التصوير. فقد تعرّضَتْ زميلته لاعتداء مجموعة من الرجال الغوغائيين، ولم تُفلِح في انتزاع نفسها من بين أيديهم - هكذا قال الزميل - إلا بشق الأنفُس وبتضافر جهديهما معاً لإيصالها إلى بَرّ الأمان. فسألتُ الزميل عن انطباعه حول ما إذا كان هؤلاء الرجال هم من البلطجية المأجورين من قِبَل النظام القديم. لكنه أجاب بالنفي: وقال إنهم من "الرجال العاديين". ثم وصَف لي نظرات الشهوة والعنف في أعينهم، التي لا يستطيع نسيانها إطلاقاً.
وقرأتُ عن مثل ذلك في مقال نُشِرَ في النسخة الإنكليزية لصحيفة الأهرام على شبكة الانترنت، وجاء فيه أن: جميع الشهادات ذكَرَت أن الناس الذين كانوا موجودين وشاهدوا النساء في تلك الحال، إما أنّهم شجّعوا على أعمال العنف ضد النساء بتهليلاتهم، أو أنهم بقوا متفرجين ولم يفعلوا شيئا لمنع ذلك. هذه الملاحظات تُقلقني كثيراً. لأن سلوك المتفرجين يُعبّر دائماً عن حالة المجتمع أكثر مما تعبّر عنه الجرائم الفردية.
أرجو منكِ مساعدتي على فهم هذه الظاهرة! بِمَ يتعلق الأمر هنا؟ هل لذلك صِلة بالرغبة الجنسية على الإطلاق؟ أَمْ أن ذلك عقاب نموذجي للنساء، نظراً لخوض مثيلاتهن في الجنس مضمار الرجال في الأماكن العامة وهيمنتهن عليها؟ هل المُعتَدون من أنصار الثورة أم أنهم من المناهضين للثورة؟ أم أنهم بلطجية مأجورون، تسللوا إلى صفوف "الرجال العاديين"؟
في الماضي بألمانيا، كان يتم إلقاء اللوم في كثير من الأحيان على النساء حين يتم اغتصابهن، فكان يُقال إن السبب وراء الاغتصاب هو: ارتداء المرأة للتنّورة القصيرة جدا، لأنها تقوم من خلال ذلك بِـ"استفزاز" مشاعر الرجال. وحتئ القُضاة أنفسهم كانوا كانوا يتلفظّون بمثل هذه الأحكام! وانطلاقاً من هذا التفكير، كانت المرأة المغتصَبة في موقع الجاني والرجُل في موقِع الضحية. ومن خلال الحركة النسائية تغيَّر وعي الناس تدريجياً. وبعبارة أخرى، ربما بقي بعض الناس في ألمانيا محتفظين بطريقة تفكيرهم السابقة، لكنهم لم يعودوا يتجرؤون على المجادلة في العلَن بالشكل نفسه الذي كانوا عليه في الماضي.
وهل ينبغي علينا أن ننظر إلى التحرُّش الجنسي على أنه خطوة تمهيدية (محتملة) للعنف الجنسي؟ إذ أن التحرش الجنسي ليس له أية علاقة بطريقة ارتداء النساء للملابس على الإطلاق، وليس أدَلّ على ذلك مما هو عليه الوضع في اليمن. فجميع النساء هناك تقريباً متنقبات حتى إلى أجفان أعينهنّ- وتشكو نساء كثيرات من التحرش الجنسي. في البداية، اعتقدتُ أن هؤلاء النساء شديدات الحساسية. قبل بضع سنوات، كُنتُ هناك بصحبة إحدى المترجِمات، وقد أجبرَتنا المترجمة في كل مرة على مغادرة سيارة الأجرة، إذا سمِعَت من السائق أو استشفَّت لديه أدنى صوت يدل على عدم التهذيب. هذا الشعور قد يتعاظم ويزداد إلى درجة كبيرة لدى النساء أحياناً، كما كُنتِ أنتِ أيضاً كتبتِ عن ذلك من قبل. ولكن خلال زيارتي الأخيرة إلى اليمن، راقبتُ كذلك كيف كان حضور اليمنيّات في الأماكن العامة، في خِضمّ الثورة، وكانت ترافقني حينها مترجمة قوية جداً وشديدة الثقة بالنفس. وكانت تتفاوض على الدوام بصلابة مع سائقي سيارات الأجرة حول الأسعار - وكان يردّ عليها بعض السائقين بأسوأ أنواع الشتائم الجنسية.
فما الذي يحدث هنا؟
هل هذه معركة بائسة بين الجنسين؟ أم أنها مجرد تجاوزات، في حقبة تشهد تغييرات كثيرة؟ أتطلّع بشوق كبير إلى معرفة ردودكِ على ذلك.
مع أطيب التمنيات
شارلوته
***
القاهرة، في 1 أكتوبر/ تشرين أول 2012
العزيزة شارلوته،
حملت رسالتك الأخيرة نقاطاً عديدة تستحق التوقف عندها وتحتمل نقاشات مطولة.
دعيني أبدأ من فاطمة المرنيسي، التي تعرفت على أعمالها خلال دراستي الجامعية وأُعجبت بقراءتها لقضايا المرأة العربية والمسلمة في سياق التاريخ الإسلامي، وتفكيكها لمنظومة الأفكار المعادية لها في هذا السياق، مع تفكيك كثير من الصورة النمطية الشائعة، في الغرب، عن النساء المسلمات في الوقت ذاته.
لكن في ما يخص قولها إن "العرب أصبحوا لا يتطلعون للغرب"، أخشى أنه حكم متسرع وتعميمي بعض الشيء. عن أي عرب وأي غرب نتحدث حين نقول شيئاً مماثلاً؟!
ينتشر بين الإسلاميين الراديكاليين وخارج صفوفهم من ينادون بهوية نقية منغلقة على ذاتها، ويهاجمون غرباً يصفونه بالكفر أو التآمر والاستغلال، لكن حتى هؤلاء يدركون استحالة العزلة التامة في عالم اليوم.
وفي المقابل نجد أجيالاً جديدة ترى نفسها أبناءً للعالم الواسع بغض النظر عن التقسيمات القديمة إلى شرق وغرب، من بين هؤلاء من شكلوا خطاب الثورة المصرية على سبيل المثال في أيامها الأولى.
وهناك من ينظرون إلى الغرب كمفهوم ثقافي لا جغرافي محاولين الاستفادة من نقاط تفوقه مع رؤية نقدية واعية لمشكلاته وسلبياته. يفرق هؤلاء بين غرب الحريات وحقوق الإنسان والثقافة والفلسفة والأدب، وبين غرب الحروب والاستعمار والتعالي على الشعوب الأخرى.
من ناحية أخرى أتفق مع السيدة المرنيسي بخصوص أن الخوف من العدوانية الجنسية للمرأة قبل الإسلام كان دافعاً لمحاولة الحد من خطورة النساء النشيطات والقويات جنسياً واحتوائهن. وأعتقد أن الأديان السماوية اشتركت كلها، بشكل أو بآخر، في أفعال مشابهة.
يكفل الإسلام بالفعل حق المتعة الجنسية للنساء، ويجعل من انعدام هذه المتعة سبباً للطلاق، لكنّ قليلات هنّ النساء اللاتي يجرؤن على التصريح بهذا حالياً، ناهيك عن طلب الطلاق من أجله.
النصوص الدينية، كما تعرفين، حمّالة أوجه ونعتمد على التأويل لفهمها، وما يشيع حالياً للأسف هو أكثر التأويلات تشدداً وسطحية للإسلام. تأويلات لا تتعامل مع روح النص الديني وجوهره إنما مع قشوره. هذه التأويلات الحَرفية المتشددة تنطلق من زاوية بالغة الذكورية والبطريركية، وتنظر، في معظمها، للمرأة نظرة عدائية كارهة، محاولةً تغليف هذه النظرة وتبريرها بغلاف ديني يبدو كأنه من صميم الإسلام.
ويحضرني هنا تفسير للمفكر التونسي العفيف الأخضر يرى فيه أن كثيراً من الأفكار المعادية للمرأة لدي الإسلاميين المتشددين جاءت كثأر من أمهاتهم اللواتي وجدوا لهن تجسيداً في شخصية أم المؤمنين السيد عائشة انتقاماً منها لمشاركتها الفعالة في الفتنة الكبرى، التي أعقبت وفاة النبي محمد، إذ بتحريضها على قتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وبمشاركتها في قتال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب تمثلها الوعي الجمعي كـ"أم مفترسة".
لقد حفل التاريخ الإسلامي بنساء قويات منهن من وصلن إلى سدة الحكم ولعبن أدواراً لا يمكن إنكارها، ولا تزال المجتمعات العربية والإسلامية تمتلئ بنساء قويات مقاتلات من أجل حقوقهن وحقوق الإنسان بشكل عام، ومع هذا يتم اختزالهن في صورة الضعيفات المقهورات وحصرهن في صور نمطية بائسة.
المشكلة في ما يخص الصور النمطية لا تتمثل في أنها خاطئة بالضرورة، إنما في أنها تختزل مشهداً مركباً وحيوياً إلى بعد واحد من أبعاده، ويتم الإلحاح عليه بإعتباره الحقيقة الوحيدة.
صورة المرأة العربية كضحية ولا شيء آخر سوى الضحية هي للأسف صورة منتشرة في الإعلام الغربي، وكانت جاهزة قبل بداية الثورات الحالية، ولم تظهر فقط بعد تنامي دور الإسلاميين في الربيع العربي كما يتصور البعض.
أتذكر أنه في الأيام الأولى للثورة المصرية، وفي الوقت الذي كانت فيه النساء المصريات تتقدمن الصفوف الأمامية للتظاهرات، وصلتني رسالة من مجلة إيطالية شهيرة تدعوني للكتابة عن خطر الإسلاميين و"ثورتهم" على المرأة المصرية، وحين رددت بأن المصريين، رجالاً ونساءً، يُقتَلون في الشوارع والميادين على يد أجهزة الأمن التابعة لنظام مبارك لا على يد الإسلاميين وأن هذا هو الشيء الوحيد الذي يمكنني أن أكتب عنه الآن، فقد المسؤولون عن المجلة اهتمامهم تماماً.
كان هذا في أوائل فبراير 2011 ولم يكن هناك أي دور بارز للإسلاميين في ثورة يناير وقتها، كما لم يكونوا قد شكلوا تهديداً للمرأة المصرية بعد، لكنّ التهمة كانت جاهزة سلفاً، وبالتالي حين بدأت الأصوات الإسلامية الراديكالية تتعالى ضد النساء، وتتالت الهجمات على حقوقهن ووجودهن، كانت هناك أذهان في الغرب مجهزة سلفاً للتعامل مع النساء هنا كمحض ضحايا سلبيات مع إغفال الحيوية التي تضفيها مقاومتهن لهذه الهجمات الرجعية على مشهد الثورة ككل.
بالعودة إلى نقطة انتشار مظاهر كراهية النساء والعمل على ترويضهن جنسياً وفكرياً، أرغب في إضافة أن من يعملون على هذا لا يرون المرأة إلاّ في صورة الغاوية المحرِضة على الخطيئة. هي من وجهة نظرهم "ناقصة عقل ودين"، "صوتها عورة"، ووجودها خارج البيت غير مرحب به.
تصير كل امرأة وفق هذا التصور "حواء" جديدة لا هم لها إلا إغواء "آدم" متسببة في طرده من جنة الإيمان إلى عراء الخطيئة وصقيعها.
وهذا الأمر وثيق الصلة بالتحرش الجنسي، الذي لا يمثل فقط انتهاكاً لجسد المرأة، إنما يمثل أيضاً اعتداءً صارخاً على حريتها في الحركة وفي ارتداء ما تريده من ملابس، بل وعلى وجودها ذاته، كما يدل على رغبة عارمة في طردها من الفضاء العام وإبعادها إلى البيت والمخدع، بحيث تتحول إلى جارية تعيش في هذا العصر بشروط عصور سحيقة.
حين كتبت من قبل عن أن التحرش الجنسي كان وسيلة للانتقام من المرأة المصرية لمشاركتها الفعالة في الثورة، كنت أتحدث عن نوع معين منه، هو ذلك الذي يرتكبه أفراد ينتمون للأمن المركزي أو الشرطة العسكرية أو الجيش، ممثَلاً في سحل الناشطات السياسيات وتجريدهن من ملابسهن وإخضاعهن لكشوف فحص العذرية المهينة واللاإنسانية، أو ما يرتكبه بلطجية تابعون لأجهزة الأمن لمنع النساء من المشاركة في الاحتجاجات السياسية، وبالمناسبة هذه ظاهرة تعود لأيام حكم مبارك، حيث كان التحرش الجنسي بالمتظاهرات يتم بشكل منهجي من جانب بلطجية لإجهاض التظاهرات ضد مبارك ونظامه قبل الثورة.
لكن مشكلة التحرش بشكل عام أبعد من هذا وإن كانت تتواشج معه في الأسباب المنطلقة من نظرة تحقيرية لجسد المرأة، نظرة تلخصها في أنها مجرد جسد أو وعاء جنسي لتفريغ رغبات وشهوات الرجل.
هي مشكلة قديمة، لكنها تفاقمت خلال السنوات الأخيرة لتتحول إلى موجات من تحرش جماعي يمارسه ذكور مكبوتون وهائجون جنسياً ضد النساء، خاصة خلال الأعياد والاحتفالات وفي أماكن أكثر من غيرها، حتى صار لدينا ما يعرف بخرائط التحرش، ويُشار بها إلى المواقع التي ينتشر فيها التحرش الجماعي.
المفارقة أنه في بلد قد يُتَهم فيه حبيبان بإرتكاب فعل فاضح في الطريق العام إذا تبادلا قبلة في الشارع، نجد أن كثيراً من المتحرشين الذين ينتهكون جسد امرأة ويجوسون بأيديهم فيه قد لا يجدون من يردعهم، بل والأنكى قد يجدون متفرجين سلبيين.
ما يلفتني هو الميل الغبي للوم الضحية، سواء أكان لوماً مباشراً يحملها المسؤولية كاملة عن تعرضها للتحرش أو الإعتداء الجنسي لأنها أغوت الرجل بمجرد خروجها من بيتها، أو لوماً مستتراً يدين المتحرش مع نصح الضحية بالاحتشام وعدم ارتداء ملابس مثيرة، على الرغم من أن المحجبات والمنتقبات يتعرضن للتحرش في الشوارع.
أما أكثر ما يثير غضبي فهو ميل بعض النساء لتبني وجهات نظر ذكورية محضة في هذا الصدد. لكِ أن تتخيلي عزيزتي شارلوتة أن هناك من بين النساء من هاجمن ضحايا التحرش مؤخراً عبر تبني مقولات رجعية مهينة من قبيل: "لو تعرضتِ للتحرش، عاقبي نفسك على إيذاء عفة الشاب"! أو وصف ضحية التحرش بأنها "خرقاء كشفت اللحم للهر"!
أعتقد أن التحرش الجنسي إضافةً لكونه مرضاً بشعاً في حد ذاته، فهو أيضاً عرَض لأمراض أخطر تنخر عميقاً في بنية المجتمع، ويجب العمل على دراستها والتنقيب عنها وعلاجها من جذورها، وإلى أن يتم هذا العلاج يجب تشديد العقوبات ضد المتحرشين وكل ممارسي العنف ضد النساء.
المسألة لا تنحصر في حالات فردية، ومن يتبنى هذا الإدعاء يساعد على تفاقم هذا المرض الخطير. من الصعب أن أجيبك بدقة عن سؤالك حول انتماءات المتحرشين وهل بينهم مؤيدون للثورة أم لا، إذ لا توجد إحصاءات دقيقة في هذا الصدد، لكنهم في الغالب خليط من شرائح متنوعة، منهم بلطجية مأجورون ومنهم أناس عاديون يعانون من الكبت الجنسي، ومنهم من يستفزهم الحضور المكثف للنساء في ميادين التظاهر وساحاته. كما أن الدوافع أيضاً تتنوع بين الجوع الجنسي أو كراهية مضمرة أو معلنة للنساء، أو ربما الأمرين معاً.
لكن ما يهم أن النساء المصريات يقاومن بشجاعة ويتزايد حضورهن ونضالهن من أجل الدفاع عن حقوقهن.
صحيح أن بعضاً ممن تعرضن للتحرش الجماعي كتبن أنهن صرن يكرهن أجسادهن متسائلات عن سر هذا السلوك الهمجي ضدهن، إلاّ أن التجربة كانت دافعاً لكثيرات للمقاومة ولفضح النفاق المجتمعي السائد.
صار أمراً عادياً الآن أن تكتب فتيات ونساء تعرضن للتحرش عمّا حدث لهن، بل وهناك آخريات يتصرفن بإيجابية أكثر ويصممن على الإبلاغ عن المتحرشين وسوقهم إلى أقسام الشرطة.
ثمة أيضاً حملات متتالية ضد هذه الظاهرة على مواقع التواصل الاجتماعي وعلى أرض الواقع، وهي حملات يتم النظر إليها كجزء لا يتجزأ من الثورة. هذا غير نضال النساء المصريات المتواصل من أجل إنجاح الثورة بشكل عام وإنقاذها من براثن الفاشية الدينية.
ما زلت أؤمن أن النساء الثائرات هن الطريق والمفتاح لتحويل الثورات الحالية إلى ثورات ثقافية وإجتماعية على القديم المتوارث والراكد، إذ لا تكفي الثورة على القمع والتعذيب والطغيان، والتحدي الأكبر هو الثورة من أجل التحرر بمعناه الأوسع، ثورة الذات على نفسها وثورة الجسد على كل ما يكبله.
لقد حظي الجسد بمكانة مركزية في ثورات "الربيع العربي"، بل كان من دوافع نشوبها وتأججها بداية من جسد خالد سعيد المعذَّب إلى جسد بو عزيزي المحترق إلى أجساد المتظاهرات المنتهكة بكشوف العذرية أو السحل والتجريد من الملابس. حضر الجسد المعذَّب والمثخن بالجراح، والمتحوٍّل إلى شظايا، والمقاوِم ببسالة في كل الميادين، لكنّ السؤال الأصعب الآن هو متى تبدأ الثورة من أجل حرية الجسد بحيث يتخلص من أغلاله وقيوده؟
تحياتي الحارة من القاهرة،
منصورة عز الدين
***
برلين في 1 نوفمبر 2012
عزيزتي منصورة،
أشكرك جزيل الشكر على ردك المستفيض على سؤالي حول أسباب التحرش الجنسي والإهانات الجنسية في عصر الثورات. آمل أن ما كتبتيه عن دور الجسد في الثورات العربية يثير التأمل لدى آخرين يتناولون هذا الموضوع لاحقاً. وعموماً يمكن القول إن مراسلاتنا تثير
التفكير في موضوعات متعددة، إذ أننا نتناول قضايا إشكالية للغاية ومتنوعة كل التنوع.
أنا الآن بصدد السفر إلى دولة مالي التي تعرفت عليها دولةً سلميةً يكسنها إناس بشوشون. غير أن صراعاً معقداً للغاية ينتظرني الآن هناك، صراعاً تختلط فيه الأشياء اختلاطاً يجعل المرء عاجزاً عن التفرقة بين المصالح السياسية للغرب وبين قضايا حقوق الإنسان والرغبة في الديمقراطية وبين الإرهاب وجشع الحصول على مواد خام. لقد كان لسقوط القذافي – الذي لم يكن أبناء مالي يتمنونه – عواقب وخيمة. وهكذا أجلس الآن، عصبية بعض الشيء بسبب الرحلة الوشيكة، وأمامي اللابتوب في إحدى المقاهي البرلينية، أقرأ رسالتك وتجتاحني الأفكار. حاولي أن تتابعي لمدة دقيقة سحابة أفكاري.
ربما يكون الأمر على النحو التالي: حيثما يُزاح غطاء القمع عن الناس، وحيثما يبدأون في التحرك بطريقة جديدة، هناك تحدث أيضاً أشياء قبيحة. أمامي جريدة بها أنباء عن ميانمار، وبها تقرير عن الملاحقة التي يتعرض لها الروهينجا المسلمون والتي دخلت مرحلة جديدة. 26 ألف منهم فروا من بيوتهم. لكن أكثر ما أصابني بالذعر في هذا التقرير كان التالي: إن معارضي الديكتاتورية السابقة، النشطاء في حركة الديمقراطية الذين دافعوا طويلاً عن حقوق الإنسان، لا يقدمون أي دعم للروهينجا المسلمين، بل يحدث ما هو أسوأ: إن بعضهم يشن حملة تحريض قومية على هؤلاء الفاقدين للجنسية. هل يُعقل هذا؟
هناك جملة رائعة: حقوق الإنسان لا تتجزأ. لكن الواقع يؤكد أن حقوق الإنسان تتجزأ. إن الرجال الذين خرجوا ليكافحوا من أجل الحرية والديمقراطية، هم أنفسهم الذين يمنعون النساء من الحصول على حقوقهن في اللحظة التالية. وهم يفعلون ذلك في اللحظة التي يظنون فيها أنهم أصبحوا في وضع يسمح لهم بتقرير حقوق الآخرين – حتى وإن كان لذلك لا يعني أكثر من كونهم أغلبية في جمعية لكتابة الدستور. من يحصل على قدر بسيط من السلطة، يستطيع أن يسيء استخدامها – هذا هو واقع الأمر. في ميانمار سئُلت الناشطة السياسية أونغ سان سو كي - التي قضت فترة طويلة من حياتها رهن الإقامة الجبرية وأصبحت الآن نجماً سياسياً- السؤال التالي: هل يتوجب إعطاء الروهينجا حق الحصول على الجنسية؟ فأجابت قائلة: "لا أعرف." لا بد أن نكرر هذه العبارة بصوت عال ونتمعن في معناها جيداً. الحاصلة على جائزة نوبل للسلام لا تعرف ما إذا كان يتوجب إعطاء حقوق المواطنة الكاملة عبر الحصول على بطاقة هوية لإناس يعيشون منذ أجيال في البلاد، إناس تُحرق منازلهم وهم بداخلها. لو أجابت أونغ سان سو كي على السؤال بـ"نعم" لجعلت نفسها غير محبوبة لدى بعض من أنصارها. تماماً مثلما يصبح الثائر العربي غير محبوب لدى أصدقائه من الرجال إذا دافع عن حقوق النساء.
هل يبدو كلامي متشائماً؟ لا، لست متشائمة. لكنني ألاحظ يوماً بعد يوم كيف أن الحراك الذي يقوم به أناس كثيرون في العالم يولد قضايا معقدة للغاية؛ الناس يتحركون حركة دائبة في اتجاهات متعددة؛ أعني أنهم يكافحون من أجل الحصول على حقوقهم أو ما يعتبرونه حقوقهم. إنني أشعر بالسعادة البالغة للأنني أستطيع مراقبة هذه الحقبة وأستطيع أن أعايشها وأن أصفها.
أتعرفين، لدينا هنا في ألمانيا صحفي معروف، عجوز للغاية. هذا الصحفي فخور بأنه زار كل دولة من دول العالم. هذا الصحفي اسمه بيتر شول-لاتور، وهو يؤدي دوراً ذكورياً بامتياز، لأن امرأة عجوز مخرفة لأن تجلس أبداً في البرامج الحوارية التلفزيونية وتتحدث باعتبارها خبيرة بشؤون الشرق الأوسط. على كل حال، ما زال هذا الرجل يكتب كتباً تتصدر قوائم "البست سيلر".
عنوان أحدث كتبه هو: "العالم يفقد توازنه". ومن نص الغلاف: "... العالم يسير على طريق الكارثة ...". ولكن، هل فقد "العالم توازنه" لأن أناساً كثراً في شوارع روما وشوراع القاهرة ومناجم جنوب أفريقيا خرجوا ليكافحوا من أجل انتزاع مصالحهم؟ وهل كان العالم أكثر استقراراً ويعاني من "كوارث" أقل عندما كانت الحرب الباردة وعديد من النظم المستبدة تحفظ توزان نظامٍ واضح المعالم؟ في رأيي أن الإجابة هي لا. لكن رجل "البست سيلر" الطاعن في العمر يخاطب مخاوف شعبوية، وهي مخاوف يعيشها الناس في عالم يبدو للبعض خطيراً ومجهولاً في الوقت نفسه، وذلك لأن الغرب لم يعد يكتب سيناريو الأحداث فيه.
العزيزة منصورة. من وراء الكواليس يعطونني إشارة بأن مراسلتنا قد وصلت إلى نهايتها. ربما يلتقط آخرون خيوط حوارنا ويتطرقون في نقاشهم إلى مشاكل ومعضلات أخرى. ولأننا نعيش في عالم قد "فقد توازنه"، فإننا بكل تأكيد لن نشعر بالملل في المستقبل.
أتمنى لك، أيتها الشقيقة الصغرى العزيزة، مستقبلاً مثيراً يحقق لك الرضى. وأشكرك على ما منحتيني إياه من وقت وأفكار.
ودمتِ لي
شارلوته