"أنا في ألمانيا لأني لم أقبل أن أكون الضحية رقم 300 ألف"
سألني مرة فنان ألماني، لماذا يترك الناس أوطانهم فيما آخرون يموتون هناك بكل بساطة؟ كان سؤالا لطيفا و مبطنا لسؤال أكثر قساوة. و هو لماذا لم تقبل الموت هناك بكل هدوء؟ أحرقتني ألفاظه التي قادتني إلى عجز آخر فوق عجزي الذي حملني إياه وطن يحتضر، و ترددت شفتاي اللتان لا تتحدثان لغته بطلاقة لكي أجيب على سؤاله و أشرح خلجات روحي التي تتخبط بين فلسفة الحياة و الموت في آن واحد، أو بين الأسئلة التي تعبث بروحي في كل مناسبة حول المنفى و الوطن.
سأل بطل راوية غسان كنفاني زوجته في "عائد إلى حيفا "، أتعرفين ما هو الوطن يا صفية ؟ و أجاب: " الوطن هو ألا يحدث ذلك كله". أما الكاتب الأمريكي أوليفر وندل هولمز، فقد عَرّف الوطن، بالمكان الذي نحبه، فهو المكان الذي قد تغادره أقدامنا لكن قلوبنا تظل فيه. المكان الذي قد تغادره أقدامنا لكن قلوبنا تظل فيه.
ربما يعتقد البعض، أن بلادهم أجمل فأغرتني بالهجرة إليها، و أن ترك الأوطان سهلا، أو أنه قرار عبثي قد يرغم صاحبه في المستقبل لمواجهة مثل هذه الأسئلة الجافة، أو يقتضي منه تحاشي الأبصار العنيفة التي تتحرش به بشفقة واستغراب مفرط. أو ربما يتوهمون أن كونك لاجئا أمرا خفيفا على قلبك. وأحيانا يتهموني بالهروب، ربما قد يكون ذلك صحيحا، لأنني لم أقبل أن أكون الضحية رقم 300 ألف، أو قد يكون قرارا شجاعا أن أتركك وأن أحتمي بالمنفى هربا من الموت أو الجوع فيك، و لعله يأس قادني إلى المنفى لكي أنازع هنا ببطء، أو ربما مصادفة لكي أواجه كل هذه الأسئلة التي لا ترحم.
لكنهم لا يعرفون، أن بين هنا و هناك جسدا هنا و روحا ما زالت عالقة هناك، أنه بين هذا و ذاك، تطوف بذاكرتي الأحلام وملاعب الصبا، وأن الأمنيات بلقاء أهلي تعزف على أوتار قلبي، وهاتفي المحمول من هنا يرسل الأشواق إلى هناك، حيث الصامدون تحت الركام، الذين لم يسمح لهم القدر بأن يكونوا في مكاني هنا.
وبينما تنهش هذه الأسئلة والخواطر روحي، كما ينهش ضبع فريسته دون شفقة، أتقلب، و أحمل حقائبي كالغجر، و تسألني هذه الروح مرارا، كيف لوطن أن يرمي أبناءه في المنافي و على أبواب الحدود وعلى الشواطئ دون أن يعتني بأمرهم؟ و كيف لم تسعنا أرضه، لتلقي بنا في امتحان الأسئلة والمخاطر، و هو الذي أصبح مستنقعا لكل جراثيم العالم. و أقول لنفسي، ليته يسمعني، كي يكنس الأوساخ من شوارعه الحنونة، و يتقيأ كل الرجال الشهوانين للحرب و السطلة، و يتركنا بين أحضانه نربي أولادنا بهدوء.
في اسطنبول حيث يزورها أهل الأرض للبهجة، زرتها أنا قسرا، لم يكن ذلك خيارا حرا بل مجازفة و هربا من اليأس، وما قبل الهجرة الثانية نحو الابتعاد المر، تماما ما قبل موعد انطلاق الطائرة، كنت لا أريد أن يبقى ظلي الشاحب لوحده، لذلك سرت في شوارعها دون اتجاه أعرفه، و أثناء مسيري الباهت وجدت طفلا يمتلك وجها كالبدر لكنه ملطخٌ بالسواد القاتم حيث استأجره تجار البشر، سألني هل لديك مال؟ قلت لا، قال و ما لديك؟ قلت وطن قاسٍ، و حظ عاثر أوصلني وأنت حيث نحن الآن، و مشيت أجُرّ خلفي نهرا من الدمع و أشتم في داخلي هذا العالم المتوحش.
رغم أن الموت فيك أكثر رحمة و سهولة من الحياة لكنني من على ضفاف نهر "شبريه" أشتاق لك، و رغم أنك بدلت العصافير في سمائك بالطائرات ما زلت أحبك، فأنت الذي تحتضن الضحايا في ثناياك، لكنك أنت الذي قبلت أن يموت فيك الآخرون لمجرد حصار الطاغية، وتركت المساكين في الأقبية المعتمة، و لأن الوحشية باتت تسكن فيك، يفر الملايين هربا منك، فعلى ماذا يسألني الناس لماذا هجرتك و أشتاق لك!
بعيدا عنك، تجوب في ذهني الأفكار كزوابع فصل الشتاء، أتساقط من تعبي ومن قهري كورقة خريف ملَّت من الترقب والانتظار، وعجزي عن مساعدتك قادني للتضرع إلى الله، لأن أطفالك في المخيمات الباردة قد ناموا، و خوفا من البرد لعقتهم بعض الكلاب الشاردة، و نقصا في المأوى تقاسموا مع بائعات الهوى ذات الغطاء، و بحثا عن الرجاء انتحر الآخرون على شواطئهم الغريبة.
لكنه لم يكن ذنبهم، بل كان نهما لدى الدول العظمى واستمتاعا في شرب دمنا، كان خللا خارجا عن سياق المقدرة، بأن الله لم يرزقنا معارضة موحدة، أو رحمة كافية في جنود الأسد ليتركونا وشأننا، وأن هذه الثورات كانت شرسة معنا، فهي لم تتفاعل مع الحياة كما نريد، ولم تعطِنا حقنا، و لا طموحنا الذي أنشدته الجماهير لحنا بالحياة الآمنة. هذه الثورات ربما لم تكن لنا، فكنا حريقها السهل، وأكسير شهوتها القاسية. و لعل الفرنسيين والجزائريين القدامى يدركون ذلك. لكننا نحن المعاصرين نروي قساوتها بقالب الحداثة، حيث مصطلحاتها الشرسة كالميليشيات التي تجند القاصِرين لتبني دولا عقيمة، وها هنا حيث المنفى نحن قوانين الاندماج والغرباء، وبكل شغف عناوين للشفقة.
نذير حنافي العلي
حقوق النشر: نذير حنافي العلي 2016
تم نشر المقال باللغة الألمانية في مجلة ديرشبيغل الألمانية في العدد رقم 19/2016