''باب الشمس''.. الرواية أم القرية الفلسطينية الافتراضية
يقول الشاعر والروائي البريطاني أوسكار وايلد إن "الحياة هي التي تقلّد الفن، وليس العكس". إن القوّة والحيوية وطاقة الحدس الكامنة التي تمتلكها الآداب والفنون تقربّها أحيانا من حدود التنبؤ بما يمكن أن يصير إليه الواقع، أو أنها تدفع الحياة اليومية إلى محاكاة الفن الذي يزوّدها، بما يمتلكه من فعّاليّة الخيال وطاقته الاستثنائية، بالمثال الذي يمكن أن نشكّل الواقع وفْقاً له.
وهذا ما فعلته رواية إلياس خوري "باب الشمس" في تحفيز عدد من النشطاء الفلسطينيين السلميين، الآتين من بقاع عديدة في الأرض فلسطين التاريخية، وعددٍ من الناشطين الأجانب، الذين يناضلون معهم جنباً إلى جنب للانتصار على معركة الاستيطان الإسرائيلي الفالت من عقاله هذه الأيام، ليبنوا قرية فلسطينية افتراضية مكوّنة من خمسين خيمة على أرضٍ فلسطينية مصادرة ويطلقوا عليها اسم "باب الشمس". بهذا المعنى قام الواقع الفلسطيني، المهدد بالمحو واقتلاع الذاكرة، خصوصا في مدينة القدس، بمحاكاة العمل الروائي لإلياس خوري الذي اهتم بجمع شظايا الذاكرة الفلسطينية وحَقَنها بمادة الخيال.
الحكاية جوهر الصراع في الشرق الاوسط
في روايته الملحميّة الكبيرة "باب الشمس" استعاد إلياس خوري فلسطين في الحكاية. كان يونس، الذي تبدأ منه أو تنتهي إليه القصص في "باب الشمس"، راقداً بلا حراك يستمع إلى ما يرويه صديقه وابنه الروحي د. خليل، الذي يحاول استعادته ببلسم السرد. كأنما الراوي هو شهرزاد في ألف ليلة وليلة تحاول تأخير سيف شهريار الزاحف في ليل أعمى إلى نحرها ونحور بنات جلدتها من النساء.
هكذا ينسج إلياس خوري من كِسَر الحكايات الشخصية للفلسطينيين مادة روايته، مقيما معمارا تتداخل فيه القصص والحكايات، ويضيء بعضها بعضا ويوضّح البقعَ الغامضة في بعضها الآخر. وإذا كانت الحكاية المركزية في الرواية هي حكاية يونس الأسدي فإن حكاية الراوي نفسه، أو حكايات أم حسن وعدنان أبو عودة ودنيا وأهالي مخيم شاتيلا، لا تقل مركزية عن تلك الحكاية الأساسية التي تشد الحكايات الأخرى إلى بعضها، والتي يقوم الكاتب بتضمينها في جسد حكاية يونس الأسدي، وتوزيعها على مدار النص، للوصول في النهاية إلى لحظة الموت وصعود الحكاية إلى أعلى، إلى سُدّة التاريخ المخادع الذي يهزم الكائنات.
تقوم "باب الشمس" على واحدة من حكايات المتسللين الفلسطينيين، الذين كانوا يحاولون العودة إلى فلسطين بعد ضياعها عام 1948، حيث شاعت في بداية الخمسينيات ظاهرة العائدين خفية إلى وطنهم بعد الطرد الأول. أعدادٌ كبيرة ممن سئموا أيام المنفى الأولى كانوا يتسللون عبر الحدود والأسلاك الشائكة وخطر الموت لكي يعودوا إلى قراهم المهدّمة وبيوتهم التي سكنها آخرون ليعودوا ويُطردوا مرة أخرى أو يُقتلوا على الحدود بين إسرائيل والدول العربية المحيطة.
لكن حكاية رجل المقاومة المتسلل يونس الأسدي تتحول في الرواية إلى حكاية عشق ورمز صمود، وشكلٍ من أشكال المقاومة الديموغرافية. فهو على مدار ثلاثين عاما، وأكثر، يذرع الجبال والوديان بين لبنان والجليل الفلسطيني ليلتقيَ زوجته نبيلة في مغارة سماها "باب الشمس"، وينجبَ منها عددا كبيرا من الأولاد والبنات، مبقياً صلة الوصل بين الفلسطيني اللاجئ والباقين على أرضهم.
وإذ يحوّل الياس خوري حكاية المتسلل إلى نموذج تاريخي، ثمّ يقوم بتصعيد هذه الحكاية لتكون مثالا ورمزا، تحضر الحكايات الأخرى التي يرويها الراوي (د. خليل) عن جدته وأبيه وأمه وعشيقته شمس، أو يرويها على لسان الآخرين ممن صادفهم أو سمع عنهم من الفلسطينيين، لتعود الحكاية الرمزية من ثمّ إلى أرضها الواقعية وزمانها الراهن.
الحكاية هي جوهر الصراع في الشرق الاوسط
لربما أراد إلياس خوري أن يقول في "باب الشمس" إن الحكايات الكثيرة التي رواها الطبيب الفلسطيني، الذي لم يكن طبيبا حقيقيا، ولم يكن في الوقت نفسه ابنا للرجل الراقد في غيببوته، إننا إن تمسكنا بحكاية فلسطين قد نستعيدها، فالصراع بين الفلسطينيين والعرب من جهة والإسرائيليين من جهة أخرى هو في بعض وجوهه صراع حكايات وليس مجرد التحام في معركة تُحسم فيها المصائر كما قال غسان كنفاني في روايته "ما تبقى لكم".
لقد وعى إلياس خوري، كما وعى مفكرٌ وناقدٌ كبير مثل إدوارد سعيد وشاعرٌ عظيم مثل محمود درويش، أن الحكاية هي جوهر هذا الصراع المرير القائم بين الفلسطيني والإسرائيلي.
المدهش هو تحوّل رواية إلياس خوري إلى واقع من لحم ودم وتراب يرتفع إلى مصاف الرمز والأمثولة. لقد تجسدت الرواية، أو المغارة التي كان الزوجان بطلا الرواية يلتقيان فيها ليصنعا استمرارية الحكاية الفلسطينية، إلى قرية فلسطينية تتحدى واقع الاستيطان عير الشرعي الذي قضم القدس من كل الجهات.
أقيمت القرية على عَجَل في ساعات الفجر الأولى من نهايات الأسبوع الثاني من شهر كانون ثاني (يناير) على واحدة من التلال الممتدة شرق القدس والتي استولت عليها إسرائيل لإقامة مستوطنة جديدة عليها تسمى "إي 1"، لتجيء القوات الإسرائيلية في اليوم التالي لتهدم الخيام وتطارد الناشطين الذين أصروا على إقامة قرى أخرى يطلقون عليها اسم "باب الشمس"، لتتطابق الحكاية الرمزية الخيالية مع الجغرافيا المقاومة للاحتلال والاستيطان سلميا.
فخري صالح
تحرير: لؤي المدهون
حقوق النشر: قنطرة 2013