إيران - من "رِقة" أوباما إلى رعب ترامب
لا تنتهج إيران منذ حلول الألفية الثالثة سياسة حافة الهاوية كما حاول أن يفعل صدام حسين مطلع تسعينيات القرن العشرين حين اشتد الحصار الدولي على بلده، لكنّ انهيار العملة الإيرانية في عام 2018، والتغيرات المتسارعة في قيمة العملة المتداولة ستجبرها على أن تمشي بهذا الاتجاه. ورغم أنّها حققت نصراً عسكرياً وسياسياً في سوريا، وتقترب منه في اليمن، إلا أنّ أنبوب النفط الذي يدعم مبدأ "تصدير الثورة" في طريقه إلى الاختناق.
ترامب..."ضربة قاصمة للمشروع الإيراني"
كان انتصار ترامب -الذي يراه البعض مفاجئاً- في السباق إلى رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية ضربة قاصمة للمشروع الإيراني في المنطقة وفي العالم. فترامب يعلن ويكرر اعتراضه على الاتفاق النووي، وما فتئ أن أعلن انسحاب بلاده من هذا الاتفاق في الثامن من أيار/ مايو 2018.
تهديدات ترامب ثم انسحابه من الاتفاق وجهت للاقتصاد الإيراني ضربة قاصمة. لكنّ هذا الانهيار السريع للريال وتحوله إلى "التومان" والتي طالما بقيت عملة غير مكتوبة على مدى قرون من الزمن سابقة في تاريخ إيران، يثير أسئلة، أهمها: كانت إيران من عام 2009 وحتى 2015 خاضعة لعقوبات دولية، لكنّ التومان لم يتأثر بهذا الشكل، بل بقيت قوته وظل السوق الإيراني يعتمد عليه، وانتعشت صناعات السيارات الإيرانية وقد باعت خلال خمس سنوات ما قيمته 3 مليار دولار سيارات بحسب الاحصاءات الرسمية، ومثلها ارتفعت أسعار العقارات، ولم تتأثر بشكل كبير إلا المشتقات النفطية، والصناعات البتروكيماوية. فيما أدت 4 أشهر من المقاطعة في زمن ترامب إلى انهيار التومان واختفاء الريال من التداول.
من أجل تفسير ذلك علينا أن ننظر إلى أنّ الرئيس الأمريكي السابق وحلفاءه الغربيين، فرضوا على إيران حصارا شكلياً، لذا لم يتأثر الاقتصاد الإيراني بسنوات الحصار. أما دونالد ترامب فقد فرض حصارا حقيقيا، وحذر الشركات من التعامل مع إيران، فخاف الجميع ورفعوا أيديهم عن دولة المعممين، وسرعان ما حلّت الكارثة. خلاصة ما جرى، لم تكن إيران محاصرة بل كانت تحت حصار شكلي، وما إن بدأ الحصار الحقيقي في أيار / مايو 2018 حتى انهار التومان.
نظرية المؤامرة الأمريكية الصهيونية؟...قراءة تبسيطية
الساسة الإيرانيون يقولون إنه لا يوجد سبب موضوعي لانهيار التومان، وكأنّ الاقتصاد في واد والسياسة في وادٍ آخر، لكنّ وجهة النظر الرسمية تحمل جانباً من الصواب من حيث أنّ الناس وقبل القرار الأمريكي بالانسحاب من الاتفاق النووي بدأوا يفقدون ثقتهم بالعملة، وهذا متناقض بحد ذاته، فمجرد فوز ترامب بالسلطة أصاب الاقتصاد الإيراني في الصميم، هل هو خوف الناس، أم أن يدا خفية في عالم المال الدولي ضربت التومان؟
وهنا يعود الساسة الإيرانيون إلى نظرية المؤامرة، فهم يقولون إنّ الشعب يفقد ثقته بالعملة وبالنظام السياسي نتيجة مؤامرة أمريكية صهيونية؟ وهذه قراءة تبسيطية، فإيران تهتف في المساجد والمعابد والمدارس منذ 40 سنة " الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل"، فلماذا لا يتآمر العدوان اللذان صنعتهما فعلا عليها؟
"لا لا لغزة، لا لا للبنان، سأبذل حياتي لإيران"
الهتافات التي يرددها المحتجون على نظام إيران في الجنوب والشمال والمدن الكبرى، والاحتجاجات دائما في المدن وليس في الأرياف لأسباب لا مجال لذكرها هنا، هذه الهتافات تنصب اليوم في عهد ترامب على اعتراض الشعب على مشاريع تصدير الثورة الإسلامية إلى اليمن وسوريا والعراق والبحرين، والناس يتحدثون هناك عن مليارات التومانات، التي تذهب لدعم التمرد الحوثي ودعم نظام بشار الأسد في سوريا ودعم الأحزاب الشيعية في العراق وحزب الله في لبنان، وكل التكاليف تجري على حساب الشعب الإيراني الذي يعاني نسبة عالية من البطالة وتدني الأجور.
ترسانة السلاح الإيراني التي هي مطوّرة عن صناعات أسلحة شرقية قديمة، توزع في الغالب مجاناً على المتعاونين مع مشروع ولاية الفقيه بصراحة. والإيرانيون يهتفون بأعلى أصواتهم اليوم في المدن الإيرانية، "لا لا لغزة، لا لا للبنان، سأبذل حياتي لإيران" وأقوى هتافاتهم يتردد في كل مكان اليوم" الموت للدكتاتور" دون أن يشير علناً إلى خامنئي وهذا يعني أنّهم يراعون خطاً أحمر من نوع ما، وربما هم من شريحة المؤمنين بالإسلام السياسي لكنهم ملّوا من حكومة ولي الفقيه أزلية السلطة حتى مماته.
وفي هذا السياق كتب بهرنغ تاجدين على موقع "بي بي فارسي" مقالاً يشرح فيها انهيار العملة واختفاء البضائع، وأهم ما يربك السوق الإيراني اليوم هو اختفاء العملات الصعبة وتناقص المعروض من السلع خاصة السلع الإنتاجية.
ويشتري جيران إيران وخاصة أهل العراق المواد المنزلية والصناعية بالتومان ويسوقونها في بلدهم لفروق السعر، وهذا يفيد التجار الإيرانيين على المدى القصير، لكنّه يمتص الدعم الحكومي والمصرفي والحمائي الذي توفره الدولة للصناعات المحلية، وبالتالي فهذا يقضي تماماً على مشاريع الدولة في دعم ذوي الدخل المحدود، وبالتالي فإنّ الحصار والمقاطعة سيصيب الطبقات الأضعف في إيران كما هو حال كل أشكال المقاطعة الدولية.
هكذا بات آلاف التجار مَدينين للدولة
خلال شهر سبتمبر / أيلول 2018 أجازت السلطات الإيرانية لتجار العملة استيراد عملات صعبة، ما يشكل تناقضاً اقتصادياً وسياسيا كبيرا مع سياسة محمود أحمدي نجاد في منع الصرافين من التعامل بالعملات الصعبة، وهو إجراء يذكّر بقوة بقوانين صدام حسين التعسفية التي أراد بها أن يقهر قيم السوق ففشل وانتهى مهزوما في حفرة.
وعادت ظاهرة تجار الرصيف الذين يحملون رزم التومانات ويبدلون فوريا بالدولار أو اليورو بأسعار يفرضونها هم. لكنّ هؤلاء التجار الذين يمكن مقارنتهم بتجار الشنطة، يبدون وجلين وهم يتحدثون عن عملهم، فقد قال صالح دربندي (اسم مستعار) عبر الهاتف متحدثا عن موقفه في ميدان ونك، في مدخل شارع ولي عصر الطويل المزدحم بقلب طهران: "لا يوجد ثبات من أي نوع، اشتري 1000 دولار مساء بسعر 10 ملايين تومان، وفي الصباح أجد السعر قد تراجع إلى تسعة ملايين، فامتنع عن البيع، ثم يعود السعر ظهرا إلى 10 ملايين ونصف المليون، وقت المغرب يهبط مرة أخرى إلى 9 مرة أخرى، حتى إذا بعت ما عندي بعشرة ملايين ونصف، فإنّ هذه عبارة عن قروش قليلة في سوق اليوم، كل شيء بات غاليا ".
وفي منتصف شهر أيلول 2018، أعلنت سلطات مدينة ساوجبلاغ الواقعة على بعد 80 كيلومترا غربي طهران أنها قد أغارت على مخزن جُمعت فيه مليون عبوة من المناشف الصحية النسوية ومناشف الرضع، كانت قد استوردت قبل أشهر حين كان سعر الدولار ثلث ما هو عليه الآن، وقد جرى خزنها لبيعها بسعر أعلى يحقق للتاجر أرباحا فاحشة.
ولا يبدو هذا غريبا، فالاحتكار لصيق بالأزمات، وما أن تشح سلعة ما في السوق، حتى يبدأ التجار في تخزينها، وقد يسمي البعض هذا شرها وطمعا وجشعا وربحا غير مشروع، لكنها معادلات السوق ولن تغيرها المواعظ الأخلاقية.
الحكومة حال بدء الأزمة ادّعت أنها ستدعم الموردين ماليا لتتيح لهم استيراد سلع إنتاجية تساعد على رفد السوق بما يحتاجه، لكن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن، أو هكذا يبدو ظاهر الأمر على الأقل. فبدلاً عن استخدام أموال الدعم الحكومي لاستيراد البضاع والسلع الإنتاجية، لجأ كثير من التجار إلى بيع الدولار في سوق العملات بطهران، وكان الربح وفيرا والبيع سريعاً ولم يتحمل التجار أي نفقات.
"الملالي هم قدر إيران حتى آخر الزمان"؟
رد فعل البنك المركزي الإيراني كان إسراعه بقلب هذه السياسة، بإعلانه أنّ التجار يجب أن يدفعوا فروق الأسعار بالعملة الصعبة التي بذلتها لهم الدولة، قبل أن يمنحوا إجازات استيراد جديدة، وهكذا بات آلاف التجار مَدينين للدولة من حيث لم يعلموا، فالسلطات التي سعت إلى دعم الاستيراد، لن تقبل أن يذهب دعمها لجيوب التجار أرباحا صافية.
ولكن ما لا تقوله التقارير الصحفية والخبرية، هو أن المعممين، وخاصة الحيتان الكبيرة منهم، هم الذين يخربون خطط الحكومة، بتغييرهم مسارات الدعم الحكومي إلى قنوات أخرى، وإلا من يعرف في البلد كواليس السياسة؟
ويبدو الأخطر قادما في الأفق، إذ أنّ سياسة ترامب تسعى إلى منع إيران بحلول شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2018 من تصدير أي نفط، وهو ما أسماه ترامب "صفر صادرات نفطية".
مطالب اقتصادية تحولت إلى نداءات تحررية
وضمن دور المساجد في سياسة إيران، فقد وقف أهل السنة في طهران صبيحة عيد الفطر في 16 حزيران/ يوليو 2018 في ثلاثة صفوف وصولا إلى بيت كبير لأحد السنة عرض إقامة الصلاة في المدينة المليونية. يقال إن أهل السنة في طهران وحدها يعدون مليون نسمة، وهم لا يملكون حتى مسجداً واحداً يصلون فيه لذا وقفوا في صفوف طويلة انتظارا للصلاة في بيت كبير. هذا الشوق للصلاة ليس مألوفا في إيران، حيث أنّ المساجد غالبا خالية إلا من كبار السن، لكنّ أهل السنة يملكون اليوم جهات متهمة بأنها وهابية تنظم حركتهم، في عموم البلد بما يشبه اعتراضا صامتا على ممارسات الحكومة. الفيديو المرفق يعرض لقطات من الصفوف الثلاثية المتراصة صبيحة عيد الفطر للصلاة:
قبل ذلك، بدأت التظاهرات بعد أسبوع من الاحتجاجات المتقطعة عبر أرجاء البلاد في شهر كانون الثاني/ يناير 2018، وما لبثت أن امتدت التظاهرات إلى 80 مدينة بما فيها طهران، حيث نزل الناس إلى الشوارع بمطالب اقتصادية في البداية وما لبثت أن تحولت مطالبهم إلى نداءات تحررية. فقتل نحو 25 متظاهرا، واعتقل أكثر من 4 آلاف ما زالت مصائرهم مجهولة في سجون ايفين وحشمتية وكهريزك وزنجان.
الاحتجاجات بقيت طيلة الأشهر الستة الأولى من عام 2018 متفرقة ومتناثرة، ولم تصل إلى مستويات تظاهرات "الثورة الخضراء" عام 2009، والتي كان من أسوأ نتائجها خروج نخبة كبيرة من الإيرانيين الواعين والساخطين على سلطة الكهنة، وفرارهم إلى الخارج ليضافوا إلى ملايين الإيرانيين المهاجرين في أرجاء العالم والذين نسوا أنّ التغيير ممكن في بلدهم العريق، وآمنوا بأنّ "الملالي هم قدر إيران حتى آخر الزمان" كما يقول محمد عبد الله (وهو اسم مستعار) لرجل دين سني من سكنة طهران، تحدث لموقع قنطرة عبر الهاتف مشترطا عدم الكشف عن هويته.
الناشطون في التظاهرات اليوم، يبدو أغلبهم حريصين على ألا يزعجوا الكهنة، أي أن ينتقدوا ويتحركوا خارج دائرة المسجد والمعبد، فهي مقدسات لا يريدون المساس بها، في المقابل فإنّ قوات الأمن تبدو اليوم مجهزة قوية بشكل يفوق ما كانت عليه عام 2009، كما أنّ التظاهرات والاحتجاجات لا تنطلق بشكل موحد، بل بشكل عفوي عشوائي غالبا، وخلاصة الموضوع أنها بلا قيادة، وبلا منهجية واضحة، وغالبا لا تعرف ما تريد - أو لا تريد أن تعرف!
وخلال عام 2017 ، حاول محمود أحمدي نجاد أن يركب الموجة، فنشر إشاعات بأن له 9 ملايين متابع في إيران، وأن يده هي الطولى في الشارع، لكنّ التظاهرات التي تلت لم تحشد له أي دعم كما يدعي.
ويمكن للمرء أن يدرك بسهولة أنّ ملايين من أبناء الطبقة المتوسطة - أو على الأقل ما تبقى منها في إيران الإسلامية - غير راضين عن مسار بلدهم وساسته، لكنهم ما برحوا يكونون على هوامش التظاهرات والاحتجاجات ويرفضون أن يخوضوا في عمقها. وبهذا تنقل نيويورك تايمز في عددها الصادر بداية شهر أغسطس/ آب 2018 عن الناشط السياسي المعروف بهنام عموي الذي قضى فترات اعتقال طويلة بسبب نشاطه قوله "لا توجد رؤية واضحة، ولا قيادة، والاحتجاجات لن تحرك سلسلة اعتراضات تمتد إلى عموم البلد، على الأقل ليس في هذه المرحلة".
ويمضي إلى القول وهو يتأمل المدينة من خلف زجاج المطعم الذي جلس فيه: "عليّ أن أعترف أنّ الدولة وأمنها وماكنتها الدعائية تستطيع أن تهندس الرأي العام بنجاح بحسب ما تهوى، وتقنع أغلبية الناس أنّ الوضع الراهن هو الأفضل لهم، وأن التغيير، أي تغيير سيكون عليهم وبالا ويجلب لهم الويلات" والناس طبعا ترى ما جرى في سوريا وليبيا واليمن وتونس وحتى في العراق بعد عام 2003.
ولكن إيران طالما كانت واحة للهدوء والاستقرار حتى في أحلك لحظات الحروب، وهذا يعني أنّ إمكانات التغيير أو الثورة أو حتى انتفاضة من نوع ما تبقى خاضعة لجزئيات الشخصية الإيرانية التي تنبذ العنف. وبذلك فإنّ تصاعد أرقام الاحتجاجات والتظاهرات وتراكمه، قد يخلق على مدى عقود ركاماً تاريخياً يحرك الوضع نحو التغيير، فثورة الخميني سبقتها عشرات الثورات والانتفاضات منذ ثورة التنباك فصاعداً.
حقوق النشر: موقع قنطرة 2018