خبراء ألمان: تداعيات كارثية لسياسة أوروبا تجاه مصر
تم العثور في الثالث من شهر شباط/فبراير 2016 على جثة الباحث الإيطالي جوليو ريجيني المُشوَّهة على مشارف القاهرة. كان ريجيني يجري أبحاثًا في مصر حول تطوُّر النقابات المهنية المستقلة. وهذا جعله مُستهدفًا من قِبَل السلطات الأمنية المصرية، التي تخشى من أن يكون أي شكل من أشكال منظمات المجتمع المدني غير الخاضعة للرقابة في مصر معارضةً محتملة وتحاربه.
لقد ضاع أثر ريجيني مساء يوم الخامس والعشرين من كانون الثاني/يناير 2016، في الذكرى الخامسة لبدء ثورة يناير الشعبية ضدَّ نظام حسني مبارك، في يوم كانت فيه القاهرة تعجُّ بقوَّات الأمن. تشير العديد من إفادات الشهود والدلائل إلى أنَّ ريجيني قد تعرَّض طيلة أيَّام لتعذيب غير إنساني على أيدي قوَّات الأمن المصرية.
وعلى الرغم من أنَّ الادِّعاء العام الإيطالي استطاع من خلال تحرِّيات دقيقة أن يُحدِّد هوية أربعة موظفين رفيعي المستوى في جهاز الأمن المصري كمسؤولين رئيسيين عن هذا الحادث، إلَّا أنَّ السلطات في القاهرة ترفض بشدة الشروع في إجراءات جنائية.
مراهنة الأوروبيين على تعزيز مكانة مصر أكثر من توضيح ملابَسات القضية
ونتيجة لقتل ريجيني فقد طالبت الحكومات والبرلمانات الأوروبية مرارًا وتكرارًا بتوضيح ملابسات القضية. وحتى الحكومة الألمانية الاتِّحادية، التي تتوفَّر لديها بالذات معلومات استخباراتية حول هذه القضية، تناولت مصير ريجيني في كثير من المحادثات الثنائية. غير أنَّ هذه الجريمة لم تكن لها أية عواقب حقيقية على علاقات الأوروبيين السياسية والاقتصادية مع هذا البلد الأكثر اكتظاظًا بالسكَّان في جوارهم الجنوبي.
ومع ذلك فإنَّ جريمة قتل جوليو ريجيني نتيجة تعرُّضه للتعذيب ليست حالة منفردة. فقد تدهور وضع المجتمع المدني المصري بشكل مثير منذ قيام الجيش المصري بانقلاب عسكري في عام 2013 بقيادة وزير الدفاع في ذلك الوقت عبد الفتاح السيسي.
يتحدَّث المراقبون الدوليون عن وجود ما يصل إلى نحو ستين ألف معتقل سياسي في السجون المصرية المكتظة تمامًا. ويقول ناشطون حقوقيون محليون إنَّ استخدام التعذيب منشرٌ على نطاق واسع ومنهجي في أقسام الشرطة المصرية.
وبحسب منظمة هيومن رايتس ووتش فإنَّ مصر تُعَدُّ من بين أكثر عشر دول في العالم يتم فيها فرض وتنفيذ عقوبة الإعدام. ووفقًا لمنظمة مراسلون بلا حدود فإنَّ مصر في عهد الرئيس السيسي باتت واحدة من الدول التي يوجد فيها أكبر عدد من الصحفيين المعتقلين.
ولكن بدلًا من تحميل القيادة المصرية المسؤولية السياسية عن ذلك، عمل الأوروبيون على تعزيز مكانتها مرارًا وتكرارًا في الأعوام الماضية. فمنذ موت ريجيني، قام الأوروبيون بالعديد من الزيارات الرسمية الرفيعة المستوى لمصر. وتم منح مصر قروضًا للتنمية الثنائية لم يكن آخرها الدعم السخي لاتِّفاقية شاملة مع صندوق النقد الدولي ومن دون شروط سياسية. ومن الجدير بالملاحظة على نحو خاص أنَّ صادرات الأسلحة إلى مصر مستمرة أيضًا وعلى نطاق واسع. ومصر من أهم الدول المُتلقِّية ليس فقط بالنسبة لألمانيا وفرنسا، بل وحتى إيطاليا تواصل تزويد هذا البلد بالأسلحة.
سياسة بعواقب لا يمكن توقعها
يُبرِّر الأوروبيون هذه السياسة بضرورة استقرار هذا البلد. لأنَّهم يخشون من حدوث تطوُّرات مثلما حدث في ليبيا وسوريا قد تصاحبها أعمال عنف وإرهاب وهجرة غير نظامية واسعة النطاق. إذا نظرنا إلى الأمر بشكل سطحي، يبدو أنَّ حسابهم هذا ناجح: فقد أحكمت مصر إغلاق حدودها البحرية ومنعت بالتالي النزوح إلى أوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط.
وتستفيد كذلك الشركات الأوروبية -مثل شركة سيمِنْس [زيمِنْس، سيمِنْز] الألمانية- من الصفقات التجارية المربحة الخاصة بمشاريع البنية التحتية الواسعة النطاق. كما أنَّ تسليح نظام السيسي العسكري يُمثِّل بالنسبة لمصنِّعي الأسلحة الأوروبيين حوافزَ اقتصادية مرغوبة.
لقد أثبتت في الماضي فكرةُ أنَّ انتهاكات حقوق الإنسان هي ثمن دكتاتورية تنموية تسمح باستقرار مصر وازدهارها أنَّها فكرة خاطئة. فقبل عشرة أعوام، أدَّت الاحتجاجات الجماهيرية في ميدان التحرير بقلب القاهرة إلى انهيار نظام مبارك السلطوي. وتعيَّن على الأوروبيين الداعمين للرئيس في ذلك الوقت أن يدركوا أنَّ استقرار مصر المفترض كان هشًا للغاية. فهل سيتكرَّر هذا الخطأ اليوم؟
لا يظهر من الخارج إن كان سيتم اتِّخاذ إجراءات حاسمة في هذه الفترة من أجل الحدّ من المشكلات المستوطنة، التي تعاني منها مصر منذ فترة طويلة - مثل سوء الإدارة والفساد وانعدام سيادة القانون والحكومة السيِّئة. بل إنَّ التقارير القليلة المتوفِّرة من المراقبين المستقلين تتحدَّث حول زيادة سوء إدارة الاقتصاد من قِبَل الجيش وزيادة الفقر وعدم المساواة الاجتماعية. وتُضاف إلى ذلك جائحةُ الكورونا، التي يبدو أنَّ النظام يُخْفي حجمها الحقيقي.
لم يعد من السهل الحصولُ على صورة يمكن الاعتماد عليها حول الوضع في مصر، إذ يكاد يكون من المستحيل حاليًا تقديم تقارير مستقلة حول مصر أو إجراء أبحاث ميدانية على أرض الواقع. فقد شكَّل مقتل ريجيني سابقةً تمنع الكثير من الباحثين والصحفيين ومنظمات المجتمع المدني والمؤسَّسات السياسية من القيام بذلك.
تمثِّل السيطرة الواسعة على المعلومات بالنسبة لنظام السيسي مصدرًا مركزيًا من أجل متابعة مصالحه الخاصة: يُبرِّر النظام للمؤسَّسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي حاجته إلى قروض جديدة بأنَّ استقرار مصر من دون هذه القروض معرض للخطر. وعلى العكس من ذلك، يؤكِّد للحكومات الأوروبية على استقرار بلده كشريك تعاون إقليمي، من أجل تبرير طلبات تزويده بالأسلحة.
وبهذا فإنَّ السياسة الواقعية في الظاهر، والتي تشكِّل ضمنيًا الإطار المنهجي لاستمرار تعاون الحكومات الأوروبية مع النظام المصري، تصبح وبشكل ملحوظ "سياسةً غير واقعية" - سياسة تستند إلى تصريحات نادرًا ما يمكن التحقُّق منها، يُقدِّمها نظام يلعب مؤقتًا وهدفه هو مضاعفة فرص بقائه الخاصة. ومن أجل هذا الهدف يبدو أنَّه على استعداد للقيام بأي شيء - وحتى قتل طالب دكتوراه شاب في الثامنة والعشرين من عمره.
لارس بروزوس وشتيفان رول
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2021
نُشر هذا المقال أوَّلًا على موقع المعهد الألماني للدراسات الدولية والأمنية (SWP) تحت عمود "باختصار".
....................................................
طالع أيضا
الخطايا السبع للمعارضة المصرية منذ ثورة يناير
مصر - سلاح التشويه لاأخلاقي ويؤذي المعارضة "أكثر من غيره"
الحكم الرشيد وليس الاستبداد هو المفتاح إلى الاستقرار في الأمد البعيد
"قانون الإرهاب يطيح بحرية الصحافة في مصر ولا يعاديها فقط"
عصف ممنهج بمعايير المحاكمة العادلة في مصر
تحية لذاكرة الألم المصري وللكاتب الشجاع علاء الأسواني
الدولة التسلطية تفرز مجتمعا تسلطيا تعزز به سلطتها
....................................................
[embed:render:embedded:node:42972]
[embed:render:embedded:node:42545]