قصر نظر السياسة الخارجية الألمانية والأوروبية
ومرة أخرى يسافر رئيس حكومة ألماني إلى دولة يتم حكمها من قِبَل طاغية. تأمل الحكومة الألمانية الاتِّحادية من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي دعمها في عملية التصدي لموجات اللاجئين، وإجراء صفقات مربحة للاقتصاد الألماني والتعاون البنَّاء في محاولات حلِّ الأزمات الكثيرة في شمال أفريقيا والشرق الأدنى والأوسط.
لقد وافق في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2016 مجلس إدارة صندوق النقد الدولي على منح مصر قروض، هي في أمسّ الحاجة إليها بقيمة اثني عشر مليار دولار أمريكي. وفي الحقيقة، إنَّ احتياجات مصر التمويلية المحددَّة في الواقع من قبل صندوق النقد الدولي للأعوام الثلاثة المقبلة تصل حتى إلى نحو خمسة وثلاثين مليار دولار أمريكي.
ومن بين شروط منح مصر القروض بقيمة اثني عشر مليار دولار كان أيضًا دعم مصر ماليًا من قبل عدد آخر من الجهات المانحة المتعدِّدة الأطراف والثنائية (بما في ذلك ألمانيا)، من أجل سد هذا النقص في التمويل. وصندوق النقد الدولي، الذي تمارس فيه كلّ من ألمانيا والقوى الاقتصادية الأوروبية الأخرى واليابان والولايات المتَّحدة الأمريكية تأثيرًا كبيرًا، ساهم إلى حدِّ كبير في جعل هذه الأطراف المانحة تشارك في تمويل مصر.
أمَّا السبب الرئيسي لتوجُّه مصر إلى صندوق النقد الدولي فقد تمثَّل في تناقص رغبة المملكة العربية السعودية خاصةً ودولة الإمارات العربية المتَّحدة في مواصلة دعم إدارة عبد الفتاح السيسي بالمليارات لإبقائها على قيد الحياة. فبعد سقوط الرئيس محمد مرسي في شهر تموز/يوليو 2013، قدَّمت الدولتان الخليجيتان للقاهرة حتى اليوم قروضًا ومنحًا مالية بقيمة ثلاثين مليار دولار أمريكي على الأقل.
تعود الأسباب التي أدَّت إلى جعل الدول الخليجية تُعيد تفكيرها بشأن مصر قبل كلِّ شيء إلى الاختلافات الجيوسياسية الدائرة أخيرًا حول إيران مع مصر، وانخفاض سعر النفط، وكذلك إلى الاستياء من غياب النجاح الاقتصادي في أداء الحكومة المصرية برئاسة عبد الفتاح السيسي، على الرغم من هذه المساعدات المالية الضخمة.
وبهذا فقد أتيحت الفرصة لكلّ من ألمانيا والدول الأوروبية الأخرى والولايات المتَّحدة الأمريكية للمرة الأولى منذ سقوط الرئيس محمد مرسي من أجل التأثير بشكل إيجابي على التنمية في مصر. فمن دون وجود رؤوس أموال أجنبية أخرى لم يكن بإمكان إدارة السيسي البقاء على قيد الحياة، وذلك فقط بسبب النقص الحاد في العملات الأجنبية. ولذلك لم يكن أمام الرئيس عبد الفتاح السيسي خيار آخر سوى الاضطرار إلى البحث عن مانحين جدد والخضوع لشروطهم.
شهادة فقر لاقتصاد السيسي
لا يزال الضغط قائمًا في عهد السيسي، ويتَّضح أكثر عندما ينظر المرء إلى الوضع الاقتصادي في هِبة النيل: حيث تُقدَّر نسبة البطالة لدى الشباب في مصر بأكثر من أربعين في المائة، وأكثر من نصف الشباب المصريين عامةً يعيشون تحت أو أعلى بقليل من خط الفقر الوطني. كما أنَّ نصيب الفرد من معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي يبلغ اثنين في المائة فقط، في حين أنَّ ديون الدولة قد ارتفعت بسرعة في الأعوام الأخيرة.
وهذه المشكلات الاقتصادية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالسياسة القمعية التي يتَّبعها عبد الفتاح السيسي في الداخل: حيث تقوم الحكومة بقمع جميع أشكال التعبير والانتقادات تقريبًا. وكذلك تمتلئ السجون في مصر بعشرات الآلاف من السجناء السياسيين، حيث بات التعذيب واختفاء الناقدين والمعارضين جزءًا من الحياة اليومية.
وهذا النهج القمعي أدَّى على أبعد تقدير منذ الرابع عشر من آب/أغسطس 2013 - عندما قتلت السلطات الأمنية تحت قيادة وزير الدفاع في تلك الفترة عبد الفتاح السيسي في يوم واحد فقط حوالي ألف شخص من أنصار جماعة الإخوان المسلمين في مذبحة رابعة - إلى دوامة من التطرُّف والعنيف، لا تزال مستمرة حتى اليوم وتزعزع استقرار مصر. وتزداد حالة الاضطراب في مصر أكثر من خلال خلط هذا الصراع مع نشاطات الفرع المحلي لتنظيم "الدولة الإسلامية" وغيره من الجماعات الإرهابية الأخرى.
حرب السيسي ضدَّ المجتمع المدني المصري
وفي الوقت نفسه يخوض السيسي حربًا ضدَّ جميع أشكال المجتمع المدني المستقل. حيث يتم إغلاق فروع منظمات حقوق الإنسان، ويتم تلفيق القضايا لموظفيها. ويعش الصحفيون بشقاء في حبس احتياطي لا نهاية له، وينتهي أيضًا الأشخاص الذين يشيرون بأصابعهم إلى الفساد المستشري في كلِّ مكان والمحسوبية إلى قبضة القضاء. وكلُّ هذا لا يخلق فقط خليطًا قابلاً للانفجار ومكوَّنًا من الفقر واليأس والعنف وانعدام الأمن، يمكن أن يشتعل في أي وقت؛ بل يعتبر أيضًا وقبل كلِّ شيء بمثابة السم للاقتصاد.
من أجل التخفيف من حدة الوضع في مصر لم يكن كافيًا فقط فرض الإصلاحات في الاقتصاد الكلي المنصوص عليها من قِبَل صندوق النقد الدولي. وذلك لأنَّ هذه الإصلاحات يمكن أن تُظهر تأثيرها في أحسن الأحوال عندما تتحقَّق الشروط السياسية العامة. وهذا يشمل قبل كلِّ شيء ضمان القانون ومكافحة المحسوبية والفساد، من أجل ضمان وجود منافسة عادلة، وبصفة خاصة كبح الأجهزة الأمنية المشاركة في جميع القرارات الإدارية.
وهذه الأخيرة تعتبر من أهم الأطراف الاقتصادية الفاعلة في مصر. ومن النادر أن يتمكَّن رجل أعمال من منافستها. وبالتالي يجب أن يرافق ذلك أخيرًا تراجع القمع في البلاد والبدء بعملية مصالحة، من أجل إيقاف دوَّامة التطرُّف والعنف في البلاد.
انعدام الشروط السياسية
لقد كان من الممكن جدًا أن يتم ربط هذه القروض المقدَّمة من صندوق النقد الدولي مع هذا الاتِّجاه من الظروف السياسية السائدة. لأنَّ إجراءات تحسين أداء الحكم منصوص عليها في لوائح وتعليمات صندوق النقد الدولي. وكان من الممكن أيضًا أن يتم وفقًا لذلك تكييف الأموال الممنوحة من قبل مانحين من خارج صندوق النقد الدولي.
ولكن على الرغم من أنَّ عدم استعداد دول الخليج لتمويل مصر قد اتَّضح بالفعل في بداية عام 2016، غير أنَّ ألمانيا وشركاءها الغربيين ردّوا بشكل غير كافٍ وضيَّعوا فرصة فريدة من نوعها، وذلك من خلال وضعهم برنامج في صندوق النقد الدولي، تم ربطه بإصلاحات صندوق النقد الدولي التقليدية، ولكن ليس بإجراءات من أجل محاربة أسباب البؤس المصري الموصوفة هنا.
ولكن بدلاً من استغلال مثل هذه الفرص والعمل أخيرًا على معالجة مشكلات مصر العميقة، ليساعدوا بذلك سكَّان مصر، فإنَّ السياسيين الأوروبيين يسافرون الآن إلى هبة النيل من جديد ويتعاملون بنفاق غير ضروري مع رئيس مستبد. ونتيجة لذلك يبدو من غير المعقول في الواقع أن يرى المرء في عبد الفتاح السيسي بالذات طرفًا فاعلًا، من المفترض أنَّه يضمن الاستقرار ومحاربة الإرهاب. خاصة وأنَّ سياسته القمعية تمثِّل واحدًا من الأسباب الرئيسية لعدم الاستقرار وانعدام الأمن في مصر.
مكافحة أسباب اللجوء مجرَّد بلاغة لفظية
في الواقع لو تم ربط بعض من هذه الجوانب المذكوة هنا بالمليارات الممنوحة لمصر، لكان بإمكان السياسيين الغربيين أن يسافروا اليوم إلى مصر بضمير مرتاح وألاَّ يجعلوا أنفسهم عرضة للانتقادات بسبب تعاونهم مع الطغاة على حساب حقوق الإنسان، من أجل فرض مصالحهم الخاصة.
لقد حانت الفرصة المواتية، وتمت الإشارة لها في الوقت المناسب، مع العلم أيضًا بعدم وجود نقص في التحليلات الجيِّدة لأسباب المشكلات القائمة في مصر. ولكن بدلاً من الإسراع في انتهاز هذه الفرصة وحمل القيادة المصرية على الشروع بإصلاحات واعدة بالنجاح وتنسيقها من خلال برناج قروض شامل، فإنَّ الدول الغربية تعود مرة أخرى من دون وجود أية ضرورة إلى الأنماط القديمة من السياسة الخارجية اليائسة.
وهكذا فإنَّ مكافحة أسباب اللجوء تبقى - مثلما كانت في العقود السابقة - مجرَّد بلاغة لفظية. وبالتالي فإنَّ السياسيين الغربيين لا يضرون فقط الناس في مصر، بل يضرون أنفسهم أيضًا، وذلك من خلال جعلهم أنفسهم غير مستقلين ومعرَّضين للابتزاز من قِبَل حكَّام مثل السيسي وإردوغان وشركاؤهما.
ماتياس زايلَر
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2017
ماتياس زايلَر باحث دكتوراه في مجموعة بحث الشرق الأدنى والأوسط وأفريقيا في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية SWP.