اختلاف الأجيال - "إن شاء الله، إذا أحيانا ربي"
"تستيقظ أمي كلّ صباح قبلنا جميعاً، تحضّر القهوة وفي أحيانٍ كثيرة كسرة. أستيقظ متأخرة، يا لسعادتي عندما أستيقظ على روائح وحدها أمي تُحسن صنعها. أجلس إلى الطاولة شاردة الذهن، أحتسي قهوتي ببطء، كأني أريد للزمن أن يتوقف"، كما تكتب ظريفة مزنر.
أتناول الكسرة الساخنة بنهمٍ وأتأمل أمي وهي تطهو طعام الغداء في هدوء تام. أراقب يديها الجميلتين وتجاعيدها، كيف لها أن تنعم بهذا الهدوء؟
أفكر بالنهايات كثيراً. وتفكر هي بالبدايات طوال الوقت. تريدني أن أتزوج في أقرب وقت، أن تكون لدي أسرة، أن أنجب طفلاً أو اثنين لا أكثر فهي تعلم أني لستُ حِمل تربية. أسمعها تسألني في صمتها مراراً "كيف يعقل أنك لم تجدي رجلاً مناسبا؟ كيف يمكن لفتاة مثلك لا تهدأ طوال السنة أن لا تتمكن من اختلاق الفرص واغتنامها؟. تقول لي في صمتها "لو كنت مكانك لتزوجت وزيراً".
هذا ما كان ينقصني!
أتذكر أن عليّ القيام بالعديد من الأشياء اليوم. اليوم لن يكون كافياً، كان يجب أن أستيقظ باكراً. تقول أمي "من بكّر لحاجتو قضاها". أحدث نفسي أن لا بأس، سأتحلّى بالصبر، سأقوم بما أستطيع، ثم لا حاجة لتخطيطٍ دقيقٍ في ظل العبثية التي تحيط بنا من كل جانب.
أغير ملابسي، ثم أمام المرآة أضع بعض الكحل في عيني. أحب أن أمنح عينيّ بعض الاهتمام، أن أرى فيهما بريقهما الذي يجعلني أستعيد بعض الثقة. تمرّ أمي أمامي وتكرر كعادتها جملتها: لا تضعي شيئاً على وجهك يا ابنتي، أنت أجمل دون هذه الصبيغة!
أبتسم كعادتي، أجمع أغراضي الكثيرة: حاسوبي، وحقيبة اليد وأشياء أخرى. وقبل أن أصل إلى السيارة تذكرني بأن أحترس وأنا في الطريق، وبأن لا أتأخر كثيراً ككل ليلة، ثم تنهي نصائحها بالتذمر من أني أعمل كثيراً ولا أرتاح وأن الأسهل أن أجد عملاً آخر أو رجلاً يريحني من التعب. أهز رأسي بنعم، توقفت منذ زمنٍ عن إبداء رأيي واعتراضي على الطريقة التي ترى بها أمي النجاح، أسخر في أعماقي من فكرة أن الزواج سيكون أريح لي.
أركب سيارتي الحمراء الصغيرة وأسير على مهل، أفكر بكل ما علي فعله اليوم، تعكر فكرة أن علي العودة إلى البيت مع مغيب الشمس صفو تفكيري. أسير على عجل في الطريق السيّار، أقضي اليوم متنقلةً بين مشاريع لم يكتمل أحدٌ منها بعد، أُحدّث نفسي بأن عليّ ترتيب أفكاري وتوجيه طاقتي إلى مشروعٍ واحد. يُخرجني زحام الطريق من زحام أفكاري، يمر من أمامي وجه طفلةٍ مبتسمةٍ في المقعد الخلفي لسيارة، أرد عليها بابتسامة، أتذكر أني أريد إنجاب طفلة وأن أسميها لويزة مثل أختي الكبرى.
أريدها أن تكون ذكيةً كخالتها لكن أن تدرس، عكس خالتها التي لم يحالفها الحظ لا لشيء سوى أن جدتي وجدي -الله يسامحهما- استأنسا برفقتها وفضّلا أن لا تغادر إلى المدينة كسائر إخوتي وأخواتي آنذاك.
أريد أن تتعلم لويزة وتكبر في محيطٍ لا يذّكرها أنها فتاة كلما فكرت في اللعب خارجا، أو تشاجرت ودافعت عن نفسها. أريدها أن تتعلم من أخطائها وأن لا تشعر بالذنب بسبب وبدون سبب، أريدها أن تدافع عن أفكارها وأن تكون صادقة مع نفسها ومع من حولها، وأن تصنع قرارها بنفسها وتختار الحياة التي تجعلها سعيدة. أريدها أن لا تشعر بالخوف، هل سأتمكن من مساعدتها؟
انتظري حتى تجدي أباها أولاً، أضحك وأنا أحاول الخروج من كومة السيارات المتدافعة أمامي، أجد مخرجاً، وأفكر بأنّي محظوظةٌ بأمي، عدا إلحاحها عليّ بشأن الزواج. كانت ولا زالت تستمع إليّ دائماً وتُشعرني بأني مميزة. لم تحكم عليّ يوماّ؛ أستطيع أن أحدثها في الكثير من الأمور دون أن أخشى ردّة فعلها، ثقتها بي لا حدود لها، غير أن الثقة تصبح ثقلاً أحياناّ؛ ثقل التقاليد والمحظورات التي لا تنتهي.
تزوجت أمي من أبي بعد طلاقها من زوجها الأول، كان قرار طلاقها قراراً شجاعاً، ولم يكن لقب "مطلقة" يحمل ما يحمله اليوم من وصمات نبذٍ واستهجان. تزوجت من أبي الذي كان أباً لستة أبناء. لست أدري من أين استمدت القوة لتربي أبناءه جميعاً وتمنحهم رعايتها في كل وقت، ثم أن تحافظ على اهتمامها بالجميع بعد مجيء أطفالها إلى العالم. لابد أنها لم تكن تستغرق في التفكير في كل صغيرةٍ وكبيرةٍ مثلي، هي تنتمي لجيلٍ يُنجز قدر ما يستطيع في آنه، لكنها قادرةٌ أيضاً على العطاء بسخاءٍ ودون انتظار مقابل؛ دون حساب.
أنا لا أملك ربع قدرتها على الصبر والاحتمال وطول البال. الحقيقة أنّي لا أريد أن أكون صبورةً ولا أن أحتمل ما عانته على مر السنين، لأنه لم يكن عادلاً.ربما أريد أن أكون أنانيةً بالقدر الذي يؤمن لي حياة بجهدٍ أقل، ربما لا أريد أن أستنسخ نموذج الأم التي تنسى نفسها من شدة تضحيتها بكل شيء، ربما لا أريد أن تُقدّس الأم لدرجة حرمانها من أن تعتني بالمرأة بداخلها، ربما أنا من جيلٍ مستعجلٍ يريد كل شيءٍ مرةً واحدةً ويصدق الأساطير والتكنولوجيا أكثر من أمه.
أصل إلى وجهتي بعد جهد، أعمل لبضع ساعاتٍ ثم أقرر العودة إلى البيت. سأكمل العمل من هناك، مريحٌ أن تكون حراً في تسيير وقتك. تتصل أمي، تريد مني أن أحضر قائمة من الأشياء، أسجل طلبها، تطلب مني أن لا أتأخر، يزعجني الأمر لكن لا أُبدي امتعاضي وأسأل إن كان هذا كل شيء.
أعود إلى البيت محمّلةً بالأغراض، تتسلّم أمي من يدي الأكياس، تتذمر من أني أصرف نقودي دون شفقةٍ أو اعتبارٍ لتعبي، أواسيها بأني سعيدة هكذا، وأن أموري المادية ستتحسّن قريباً، لا تصدقني كالعادة، ثم أقول ممازحة: "قريباً سأنتقل للعيش وحدي وستقل مصاريفي". لا تجيبني، ربما هي لا تحب الفكرة.
أنا تعبت لكي تُنجزوا ما لم أنجزه"، تقول أمي وهي تخرج الأشياء من الأكياس البلاستيكية التي تغطي طاولة المطبخ. أحاول المساعدة، ثم الانتقال إلى موضوع آخر. أسألها إن اتصلت أختي سهيلة، تجيب بالنفي.
أسأل مجدداً، "يمّا، مازالت الكسرة؟"
تجيبني: "خلاصت، لكن يمكنك أن تطبخي لنفسك واحدةً إن أردت"
أجيبها بتعب: "لن تكون طيبة ككسرتك، غداً أطبخ!"
تجيب ساخرة متأملة: "إن شاء الله، إذا أحيانا ربي"
ظريفة مزنر
حقوق النشر: معهد غوته / رؤية 2018
درست ظريفة مزنر التصميم الفني و الأدب الإنجليزي و عملت كمصممة غرافيكس لما يزيد عن سبعة أعوام قبل أن تقرر الانتقال إلى صناعة الأفلام التسجيلية . أخرجت أول فيلم قصير لها بعنوان "سكنت الغياب مرتين" في 2011، عُرض في العديد من المهرجانات و حاز على جوائز، في 2017 أخرجت فيلما تسجيليا عن الجزائريات المنتخبات محليا. تعمل حاليا (2018) على إنهاء فيلمها الطويل الأول: "ظريفة والحوت الوحيد". تعمل ظريفة كمخرجة ومديرة ثقافية و تعيش في الجزائر العاصمة.