النشطاء الألمان المناصرون للقضية الفلسطينية...ضد عقلية التصنيف السياسي الضيقة
ينبغي في الواقع ألاّ تكون قضية النضال من أجل حماية حقوق الإنسان موضعًا للنقاش. بيد أنَّ من ينشط في سبيل حقوق الفلسطينيين في ألمانيا يُفرض عليه خوضُ نقاشات واسعة جدًا في أغلب الأحيان، إذ إنّ تهمة معاداة سامية تطلق عليه بشكلٍ شبه تلقائي. لا يوجد موضوعٌ آخر في ألمانيا يطلق جدلاً حادًا كما يفعل موضوع النزاع في الشرق الأوسط أو موضوع العلاقات بين إسرائيل وفلسطين. وغالبًا ما يتم تجاهُل المعنيين بهذا الأمر من قِبَلِ من يعتبرون أنفسهم خبراء.
ما الدافع لتأييد حقوق الفلسطينيين؟
أراد ناشط السلام الألماني غونتر شينك الذي يعيش في فرنسا أنْ يغيِّر هذا الأمر من خلال إفساحه المجال لجهاتٍ فاعلةٍ لتتحدث عن نفسها. ودعا لهذه الغاية 26 شخصًا ليرووا سبب تأييدهم حقوق الإنسان الفلسطيني بالرغم من المعارضة الشديدة التي يواجهونها. ويمكن الآن قراءة نتائج أبحاث غونتر شينك الميدانية في كتابٍ أصدره الناشر الألماني – اليهودي أبراهام ميلتسر Abraham Melzer تحت العنوان "Palestine on my mind" "فلسطين في البال" الغني بتداعيات المعاني.
أجرى غونتر شينك مقابلات مع ألمان وغير ألمان ومع يهود وغير يهود. وتتراوح أطياف المواقف السياسية لهؤلاء بين المناداة بتأييد حل الدولتين وتصل في بعضٍ منها للمناهضة الجذرية للصهيونية. أكثر المشاركات جذبًا ولفتًا للنظر هي مشاركات الناشطين والناشطات من أصولٍ يهوديةٍ، ومنهم روت فروختمان، ايفيلين هيشت-غالينسكي وأبراهام ميلتسر. يتعرض اليهود المناهضون للصهيونية في ألمانيا غالبًا إلى هجمات قاسية للغاية، ولا تصدر العداءات عن النازيين الجدد وحسب، بل أيضًا عن الأوساط اليهودية اليمينية.
وتتنوع أساليب هذه الهجمات وتتراوح بين الشتائم مثل "يهودي زائف" مرورًا بحملات التشهير وصولاً إلى التهديدات بالقتل. بيد أنَّ الناشطين والناشطات من أجل حلٍ عادلٍ في الشرق الأوسط لا يستكينون لمحاولات التخويف ويعربون في مساهماتهم عن مطالب واضحة: دولة إسرائيل ديمقراطية لليهود وغير اليهود، وإنهاء الاحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة.
الناشطون اليهود ليسوا سذجًا، فهم يقاومون عقلية التصنيف السياسي الضيقة ويتحدثون بانفتاحٍ عن نقاط الضعف السياسية لدى الفلسطينيين، حيث تكتب الفرنسية كلير باك Claire Paque مثلاً: "لست مؤيدة للفلسطينيين، فهذا مصطلح خاطئ. ونحن ندافع هنا عن تطبيق القانون الدولي". تعود معظم المساهمات في الكتاب إلى ناشطين في مجال حقوق الإنسان ألمان وغير يهود، وُلِدَ جلـَّهم في الفترة الواقعة بين 1920 و 1950، ولكن على الرغم من فارق السن بينهم نجد لديهم قاسمًا مشتركًا مهمًا مفاده أنَّ جُلَّ وعيهم السياسي وقيمهم قد نمت على خلفية الانشغال بالنازية الألمانية والقتل الجماعي ليهود أوروبا. "نشاطي من أجل قضية فلسطين تأثر بشكل جوهري بانشغالي بالمرحلة النازية" كما تقول انغريد رومبف Ingrid Rumpf التي تنظم معرضًا جوالاً لافتًا على نطاق ألمانيا يتناول مسألة تشريد الفلسطينيين عام 1948 إلى جانب دعمها لاجئين فلسطينيين في لبنان أيضًا.
الطرُق إلى التضامن مع فلسطين متنوعة
توصّل معظم الناشطين الألمان غير اليهود إلى التضامن مع فلسطين عن طريق التضامن مع إسرائيل. والرّواة المتقدمون في السن تعرضوا مباشرة لوطأة الإرهاب النازي والصور البشعة في معسكرات الاعتقال بعد التحرير في عام 1945. أما الأصغر سنًا منهم فقد شهدوا كبت وتجاهُل الحقبة النازية في ألمانيا في مرحلة " المعجزة الاقتصادية الألمانية". وإزاء هذا المشهد صار التضامن مع اليهود الباقين على قيد الحياة ومع إسرائيل لدى الكثيرين منهم شكلاً من التمرّد على الوالدين وعلى المجتمع الألماني في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وصار الالتزام بإسرائيل بالنسبة لهؤلاء الشباب جزءًا من هويتهم الشخصية. وبالتالي كان الشك برواية إسرائيل الرسمية وبأسطورة تأسيسها بمثابة تهديد وجودي لمنظومة القيم الجديدة التي أقاموها بجهد شاق. وتِبعًا لهذا جرى تغييب كل شيء لا يتسق مع هذه النظرة إلى العالم: أي تغييب تشريد الفلسطينيين وسلبهم أراضيهم ومحو ثقافة امتدت قرونًا في الشرق الأوسط. وقد تعزز هذا الاتجاه عندما سعى الفلسطينيون في أواخر ستينيات القرن الماضي إلى جذب اهتمام المجتمع الدولي إلى قضيتهم من خلال هجمات إرهابية. فصار هناك خوف من الفلسطينيين. أما أن تكون الفكرة القائلة بأنَّ ألمانيا ومن خلال المحرقة وإنشاء دولة إسرائيل الذي تلاها قد شاركت في مسؤولية حدوث النكبة الفلسطينية، فلم تكن فكرة مطروحة.
نظرة أعمق إلى الصراعات الداخلية
هذا ما حدث مع أنِّه كول Anne Köhl أيضًا التي تستعيد في الكتاب ذكرى لقائها الأول مع زميل جامعي فلسطيني في عام 1970، كان قد أهداها حينذاك كتابًا عن فلسطين، راجيًا منها أن تقرأه وتناقشه معه. إلا أنها رفضت الأمر مُستاءة وحشرت الكتاب في زاوية قصيَّة على رف الكتب. بعد مضي أكثر من ثلاثين عامًا، وجدت أنِّه كول نفسها فجأة مضطرة للتخلي عن تحفظاتها والانتباه أخيرًا إلى وجود الطرف الآخر، وذلك ارتباطًا بذهاب ابنها إلى فلسطين وحيث لم يكُن هناك وسيلة لدفعه إلى العدول عن ذلك. فبدأت فترة مليئة بالنزاعات والكثير من المناقشات. واليوم تنشط كول من أجل إسرائيل والشعب الفلسطيني: "لأن ذلك يرتبط بي وبهويتي وبوطني بشكلٍ لا فكاك منه، تمامًا مثل المصير اليهودي" كما تقول. العديد من المساهمات في الكتاب تدور حول نزاعات كهذه. ويروي الناشر غونتر شينك أيضًا أنه عانى من تبكيت الضمير عندما اتضح له أنه ببساطة لم يصغِ لأصدقائه الفلسطينيين ولم يلحظ ببساطة معاناتهم. ومع ذلك تؤكد الناشطة انغريد رومبف من مدينة رويتلينغن على أنه لا بدَّ من تكرار السؤال عن وجود مشاعر معادية للسامية، وتقول بهذا الصدد: "لا بد من التحقق باستمرار. ومن الأفضل أن نتحقق مرة إضافية عن أن نتحقق مرةً أقل. لكني لا أدع المجال لدفعي للإذعان".
يترك كتاب "فلسطين في البال" العديد من القضايا التي من شأن المرء الرغبة في معرفة المزيد عنها مفتوحة، على سبيل المثال المراجعة والتفكـُّر بالمعاداة اليسارية للسامية أو التفجيرات الانتحارية في تسعينيات القرن الماضي. إلا أنَّ الرسالة الأهم للكتاب، تكمن في أنَّ المرء يستطيع أنْ يناضل من أجل حقوق الفلسطينيين، لا بل وأنْ يرفض الصهيونية، دون أن يعني هذا أنه معادٍ للسامية. الشخصيات التي تتحدث هنا ليست شخصيات عنصرية ولا غبية، بل شخصيات ذكيّة وواضحة الرؤية ونزيهة. وجميعها يتبنى موقفًا يقول إنَّ حقوق الإنسان لا تتجزأ ولا بد من تـُقاس إسرائيل بنفس المعايير تمامًا كما تـُقاس جميع الدول الأخرى في العالم.
وبهذا يختلفون بشكلٍ مريحٍ عن أولئك الذين نصَّبوا أنفسهم "أصدقاءً لإسرائيل" و"معادين للألمان"، أي عن أولئك الذين ما زالوا يمارسون تأثيرًا قويًا على النقاشات العامة في ألمانيا من خلال وجهات نظرهم المشوّشة وحججهم المسطحة.
مارتينا صبرا
ترجمة: يوسف حجازي
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2011
الكتاب: "فلسطين في البال. غونتر شينك يعرض 26 شاهدًا على العصر"، عن دار ميلتسر للنشر، نوي إيزينبورغ 2010، 232 صفحة.