تعاطف فكري مع ضحايا الهولوكوست والنكبة

نقاش في منتدى آينشتاين الفكري بألمانيا مع مديرة المنتدى الأمريكية اليهودية سوزان نايمان والكاتبة الألمانية البارزة شارلوته فيدِمان والمؤرِّخ الإسرائيلي عاموس غولدبيرغ والباحث السياسي الفلسطيني الحامل للجواز الإسرائيلي بشير بشير.
نقاش في منتدى آينشتاين الفكري بألمانيا مع مديرة المنتدى الأمريكية اليهودية سوزان نايمان والكاتبة الألمانية البارزة شارلوته فيدِمان والمؤرِّخ الإسرائيلي عاموس غولدبيرغ والباحث السياسي الفلسطيني الحامل للجواز الإسرائيلي بشير بشير.

لماذا مُنِع في إسرائيل نقاشٌ حول التذكير بضحايا حدثين معاً: إبادة اليهود وتشريد الفلسطينيين؟ وهذا النقاش نفسه كيف أقامه لاحقاً منتدى آينشتاين في ألمانيا؟ الصحفية إنغه غونتر توضح الخلفيات لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: إنجي غونتر

رب ضارة نافعة: أليس من شأن مردود الفضائح أن يكون إيجابيا؟ نحن نتحدث في حالتنا هذه عن حدث في إسرائيل يعود له الفضل في ازدحام منتدى آينشتاين الفكري بالمشاركين في ألمانيا، وهو "فضيحة من العيار الصغير جداً" بحسب وصف ساخر لسوزان نايمان مديرة المنتدى حين قالت ذلك بذكاء مرحِّبة بضيوف المنتدى الكثيرين بمدينة بوتسدام الألمانية.

حملة اتهام كان وقف وراءها في إسرائيل يمينيون وعلى رأسهم السيِّد داني دايان -الذي كان في السابق زعيمًا للمستوطنين الإسرائيليين وهو اليوم مدير ياد فاشيم (مؤسَّسة لأبحاث المحرقة وتخليد ذكرى ضحاياها)- أرادوا بها إلغاء فعالية نقاشية في تل أبيب حول التذكير بـ "ضحايا النكبة والهولوكوست" قائلين إنه لا يجوز الجمع بين هذين الحدثين في عبارة واحدة لأن الهولوكوست أكثر هولاً بكثير من النكبة. صحيح أن حملتهم تلك أدَّت إلى إلغاء تلك الفعالية في إسرائيل لكنها أدت في المقابل إلى تمكين مشاركين كثيرين لاحقا من أن يخوضوا في مدينة بوتسدام الألمانية مساء يوم الخميس (الثاني من شباط/فبراير 2023) هذا النقاش نفسه الذي أدانه داني دايان ومن معه.

لقد أعرب جمهور المنتدى الحاضرون عن تقديره لإشارة سوزان نايمان هذه بحكم معرفتهم للخلفيات ولكن قرَّاء هذا المقال قد يحتاجون إلى بعض الشرح ولذلك دعونا نلقي نظرة قصيرة على خلفية هذا الحدث: هذه الضجة التي أُثيرت -ليس فقط في إسرائيل ولكن أيضًا من قِبَل وسائل الإعلام الألمانية التابعة لعائلة شبرينغر- نتجت عن فعالية تم التخطيط لإقامتها أصلًا في معهد غوته في تل أبيب وبرعاية مؤسَّسة روزا لوكسمبورغ الألمانية حول الهولوكوست والنكبة وثقافة التذكير الألمانية بالضحايا.

تم في البداية اتهام المشاركين بنسيان التاريخ مع الإشارة إلى الموعد المحدَّد يوم التاسع من تشرين الثاني/نوفمبر (2022)، أي الذكرى السنوية لليلة الكريستال (أو ليلة البلور التي أجرم فيها النازيون بحق اليهود قتلاً واعتقالاً وملاحقةً بألمانيا وكثُر فيها تكسير زجاج متاجرهم وكُنُسهم) وبعد تغيير تاريخ الموعد، أعرب المعنيون على الفور عن غضبهم من أنَّ الهولوكوست والنكبة، أي كارثة تشريد الفلسطينيين وطردهم من ديارهم، لا يمكن جمعهما في جملة واحدة. وتراكم الضغط السياسي في القدس وبرلين مما أدَّى في النهاية إلى إلغاء الفعالية من دون تحديد بديل لها.

 

نقاش في منتدى آينشتاين الفكري بألمانيا مع (من اليسار إلى اليمين) مديرة المنتدى الأمريكية اليهودية سوزان نايمان والكاتبة الألمانية البارزة شارلوته فيدِمان والمؤرِّخ الإسرائيلي عاموس غولدبيرغ والباحث السياسي الفلسطيني الحامل للجواز الإسرائيلي بشير بشير.  Susan Neiman, Charlotte Wiedemann, Amos Goldberg und Bashir Bashir im Einsteinforum 02.02.2023; Foto: Inge Günther
نقاش في منتدى آينشتاين الفكري بألمانيا مع (من اليسار إلى اليمين) مديرة المنتدى الأمريكية اليهودية سوزان نايمان والكاتبة الألمانية البارزة شارلوته فيدِمان والمؤرِّخ الإسرائيلي عاموس غولدبيرغ والباحث السياسي الفلسطيني الحامل للجواز الإسرائيلي بشير بشير. قالت سوزان نايمان: "هذا لا يتعلق بالمساواة بين الهولوكوست والنكبة - بل يتعلق بكيف كان أحدهما سببًا في نشأة الآخر". وأكَّدت شارلوته فيدِمان على أنَّها لا تقلل من ذكرى الهولوكوست لصالح مجموعات أخرى من الضحايا، وأضافت أنَّ "إسرائيل تتمتَّع وعن حقّ بمكانة خاصة بالنسبة لألمانيا، ولكن هذه العلاقة فيها شيء مأساوي ما دامت إسرائيل تواصل انتهاكها المتكرِّر للقانون الدولي. أمَّا الافتراض بأنَّ لإسرائيل حقًا منفردًا في إعفائها من العقاب بسبب المحرقة فهذا سوء فهم فظيع".

 

وعندئذ قرَّرت سوزان نيمان، مديرة منتدى آينشتاين، أن تدعو إلى بوتسدام المشاركين في النقاش الممنوعين من المشاركة في النقاش الذي كان من المخطط إقامته أصلًا في تل أبيب - وهم الكاتبة الألمانية شارلوته فيدِمان (مؤلفة كتاب "فهم آلام الآخرين") بالإضافة إلى عاموس غولدبيرغ، وهو مؤرِّخ إسرائيلي في الجامعة العبرية في القدس وكذلك الباحث السياسي في الجامعة المفتوحة في إسرائيل بشير بشير. وذكرت سوزان نايمان أنَّها تفهم هذا على أنَّه "اختبار لحرية التعبير" بما ينسجم مع الثِّقَل المعرفي للعالِم الأسطوري الألماني اليهودي آينشتاين الذي تحمل مؤسستها اسمَه.

لا مساواة بين الهولوكوست والنكبة

ولكن سوزان نايمان، وهي أمريكية يهودية، فضَّلت توضيح مسألة باللغة الألمانية قبل بدء المناظرة، التي جرت باللغة الإنكليزية، بقولها: "هذا لا يتعلق بالمساواة بين الهولوكوست والنكبة" - بل يتعلق بكيف كان أحدهما سببًا في نشأة الآخر.

وأضافت أنَّ هذا الموضوع زَلِقٌ مثل الجليد والبعض يتربَّصون لمَنْ ينزلق ويخطئ فيه. وذلك لأنَّ كلا الحدثين يتعلقان بكارثتين تشكَّلان جوهر الرواية الوطنية لكلّ منهما، ولكنهما يتجاهلان بعضهما إلى حدّ كبير. وعلى الرغم من اختلاف أبعادهما، فهنا: الإبادة الجماعية لستة ملايين يهودي، وهناك: التطهير العرقي العنيف أحيانًا لأكثر من سبعمائة ألف فلسطيني من السكَّان الأصليين.

بدأت شارلوته فيدِمان برسم قوس عريض وقارنت مع فترة ما بعد الاستعمار وتساءلت - ودائمًا بنقد ذاتي: لماذا تعتبر مثلًا المقاومة اليهودية في غيتو وارسو قريبة إلينا نحن الألمان أكثر بكثير من ثورة الأفارقة الماجي ماجي ضدَّ الاضطهاد الاستعماري الألماني في شرق إفريقيا قبل أربعين عامًا (من أحداث غيتو وارسو)، والتي قُتل فيها نحو مائتي ألف أفريقي بعنف؟ وأضافت متسائلة: ما مدى أهمية لون البشرة بحيث أنَّنا نتماهى بسهولة مع طرف أكثر من تماهينا مع الطرف الآخر؟

وهي تقول إنها هنا لا تقلل من شأن ذكرى الهولوكوست لصالح مجموعات أخرى من الضحايا، مؤكدةً أيضًا أنَّ إسرائيل تتمتَّع وعن حقّ بمكانة خاصة بالنسبة لألمانيا، ولكن هذه العلاقة فيها شيء مأساوي ما دامت إسرائيل تواصل انتهاكها المتكرِّر للقانون الدولي، أمَّا الافتراض بأنَّ لإسرائيل حقًا منفردًا في إعفائها من العقاب بسبب المحرقة "فهذا سوء فهم فظيع" بحسب شارلوته فيدِمان.

وتشدد شارلوته فيدِمان على أن التاريخ في العادة معقَّد، قائلةً إنه لا يمكن اعتبار النكبة أضرارًا جانبية نتجت عن تأسيس الدولة اليهودية وكذلك لا يمكن اختزال الصهيونية في الاستعمار الاستيطاني - لأنَّها كانت أيضًا حركة تحرّر.

الربط بين كارثتين

وقد شارك كلّ من عاموس غولدبيرغ وبشير بشير دعوة شارلوته فيدِمان إلى التعاطف باعتباره ممارسة فكرية: "يضع فيها المرء نفسه في مكان الآخر للحظة". وقال عاموس غولدبيرغ إنَّ الأمر لا يتعلق فقط بفهم آلام الآخرين، بل يتعلق تمامًا بحقوق ومسؤولية. أو مثلما عبَّر عن ذلك بشير بشير، وهو فلسطيني يحمل جواز سفر إسرائيليًا، بقوله إنه عند النظر إلى الأمام من المهم إيجاد حلّ ثنائي القومية يقوم على مبادئ المساواة والحرية والعدالة الاجتماعية.

غير أنَّ إسرائيل -المحتفلة بالذكرى الخامسة والسبعين لتأسيسها- وكذلك فلسطين -التي تربط هذه الذكرى السنوية بتاريخ النكبة- بعيدتان عن هذا الحل الثنائي أكثر بكثير من أي وقت مضى، وهذا على الرغم من أنَّ الرابط بين الحدثين كان يعتبر في غاية الوضوح في سنواتهما الأولى.

 

 Susan Neiman Direktorin des Einsteinforums; Foto: Karlheinz Schindler/dpa/picture-allianceالأمريكية اليهودية سوزان نايمان، وهي مديرة منتدى آينشتاين.
اختبار لحرية التعبير: دعت الأمريكية اليهودية سوزان نايمان، وهي مديرة منتدى آينشتاين، إلى ألمانيا المشاركين في النقاش، الذي كان من المخطط إقامته أصلًا في معهد غوته في تل أبيب ثم تم إلغاؤه. وأقيمت هذه الفعالية في الثاني من شباط/فبراير 2023 في منتدى آينشتاين مع الكاتبة الألمانية شارلوته فيدِمان (مؤلفة كتاب "فهم آلام الآخرين") والمؤرِّخ الإسرائيلي عاموس غولدبيرغ من الجامعة العبرية في القدس وكذلك أستاذ العلوم السياسية الفلسطيني الحامل لجواز إسرائيلي بشير بشير من الجامعة المفتوحة في إسرائيل. وقالت سوزان نايمان إنَّها تفهم هذا على أنَّه "اختبار لحرية التعبير" بما ينسجم مع الثِّقَل المعرفي للعالِم الأسطوري الألماني اليهودي آينشتاين الذي تحمل مؤسستها اسمَه.

 

فقد تحدَّث عاموس غولدبيرغ عن يهود ناجين من الهولوكوست خُصِّصت لهم عند وصولهم إلى إسرائيل منازل عربية كان فيها الطعام لا يزال موضوعًا على المائدة. وبعضهم فهموا الأمر على الفور ورفضوا الانتقال إلى هذه المنازل. بينما تتعرَّض اليوم في إسرائيل المنظماتُ غير الحكومية، التي تُذَكِّر فقط بالنكبة، للتهديد بعواقب مالية.

وحتى الألمان المؤيِّدون لإسرائيل يتجنَّبون هذا الموضوع. وهذا سبب آخر -بحسب تعبير شارلوته فيدِمان- من أجل منح المائتي ألف فلسطيني المقيمين هنا في ألمانيا الفرصة لرواية القصة من وجهة نظرهم. فقد حان الوقت لذلك.

 

 

إنغه غونتر

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: موقع قنطرة 2023

ar.Qantara.de