فاتحة الصدوع في بنية نظام الحكم السعودي؟
تواجه المملكة العربية السعودية مشكلة يمكن التعبير عنها بصورة مبسطة في الفارق بين رقمين. فوفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي تحتاج المملكة إلى سعر نفط دولي يبلغ 76 دولاراً أميركياً للبرميل الواحد للحصول على ميزانية متوازنة؛ إلا أن سعر النفط الحالي يقارب 30 دولاراً للبرميل الواحد، أي أقل من نصف السعر المأمول حسب هذه التقديرات.
ولا تتوقف المشكلة عند هذا الحد فحسب. فلكبح تدني سعر البرميل وتجنب المزيد من الانهيار فيه، يتعين على المملكة العربية السعودية أن تقلل المعروض من الذهب الأسود في السوق العالمية، وبالتالي خفض إنتاجها النفطي إلى أدنى مستوى له منذ 18 عاماً؛ والنتيجة هي عجز متزايد في الميزانية بصورة كبيرة، يمكن أن يرتفع، حسب بعض التقديرات، إلى رقم قياسي جديد قد يبلغ 112 مليار دولار أميركي.
وهذا ما يفسر إجراءات شد الحزام التي شرع بتطبيقها وزير المالية السعودي محمد الجدعان هذا الأسبوع (في مايو / أيار 2020). إذ تمت مضاعفة ضريبة القيمة المضافة -التي بدأ العمل بها لأول مرة في السعودية منذ سنتين- ثلاثة أضعاف، فأصبحت تبلغ 15 بالمائة بعد أن كانت 5 بالمائة فقط. ومن المقرر أيضاً إلغاء مدفوعات الدعم الإضافي للعاملين في القطاع العسكري وللموظفين المدنيين ابتداءً من شهر حزيران/ يونيو 2020 المقبل، كما سيتم تعليق العمل في مشاريع البنية التحتية الكبرى.
الأزمة المزدوجة (المصائب لا تأتي فرادى)
وتتفاعل في المملكة العربية السعودية في هذا الوقت أزمتان في آن معاً. فقبل حدوث الأزمة الاقتصادية الناجمة عن انتشار فيروس كورونا كانت المملكة قد بدأت بالفعل حرب أسعار مع روسيا في ميدان مبيعات النفط الدولية. وقد جاءت هذه الحرب الاقتصادية في توقيت سيءٍ للغاية، إذ تواكبت مع تراجع الاستهلاك العالمي للنفط نتيجة تطبيق إجراءات الإغلاق الشامل في المستوى الدولي، ما أفضى إلى انهيار أسعار النفط بصورة تامة.
أضف إلى ذلك تداعيات إجراءات الإغلاق الشامل الخاصة بالمملكة العربية السعودية، والتي تحاول من خلالها اجتياز منعطف أزمة كورونا بسلام. فإذا ما كانت الحكومة السعودية قد طبقت حتى هذا الوقت إجراءات الإغلاق في مستوى الأقاليم فقط، إلا أنها ما لبثت أن أعلنت عن إغلاق شامل يعم سائر أنحاء البلاد، يبدأ أواخر شهر رمضان ويستمر خلال عيد الفطر.
وفي حين أن أماكن الحج في مكة المكرمة مغلقة منذ أسابيع، من المحتمل أيضاً أن يتم إلغاء موسم الحج لهذا العام 2020، حتى وإن لم يتم الإعلان عن ذلك رسميًا بعد. جدير بالذكر هنا أن عائدات المملكة من الحج والسياحة الدينية تصل إلى 20 مليار دولار أميركي سنوياً، أي ما تصل نسبته إلى 20 في المئة من عائدات البلاد خارج قطاع البترول.
وقد كان هناك خطط لتحويل موسم الحج في المملكة العربية السعودية إلى مصدر بديل عن إيرادات النفط عبر زيادة إيرادات استقبال الحجاج؛ من قبيل توفير نُزل فخمة في فنادق فاخرة للحجاج الأغنياء، يتم فيها تقديم عروض إقامة في جناح يطل على الكعبة المشرفة مباشرة، تبلغ تكلفة الليلة الواحدة فيه خمسة آلاف دولار أميركي.
وإن كانت المعطيات الاقتصادية تشير إلى أن المملكة العربية السعودية لا تزال قادرة على تخطي هذه الصعوبات، إذ لديها في نهاية المطاف صندوق ثروة سيادي تبلغ قيمته حوالي 300 مليار يورو، إلا أن هذه الأزمة الاقتصادية تضع البلاد في وضع صعب. كما يتوقع صندوق النقد الدولي أن ينخفض الأداء الاقتصادي السعودي بنسبة 2,3 بالمئة هذا العام 2020.
"مشاريع رؤية 2030 الضخمة - هل باتت سراباً في الصحراء؟"
ولا توجد طريقة للالتفاف على تدابير التقشف الجديدة التي ستؤثر بدورها على "رؤية 2030". وهو المشروع الذي وضعه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، والذي يريد به جعل بلاده منفتحةً اجتماعياً عبر مشاريع البنية التحتية الكبرى المستقلة عن صناعة النفط. وتحتل مدينة نيوم (Neom) المستقبلية الضخمة الواعدة موقع القلب ضمن هذه الرؤية، وهي مدينة من المفترض أن تنبثق من رمال الصحراء على شاطئ البحر الأحمر مقابل تكلفة 500 مليار دولار أمريكي لتكون مثاراً لجذب السياح والاستثمارات الدولية.
وقد تفضي أزمة الميزانية السعودية ليس فقط إلى تأخير في إنجاز هذه الرؤية فحسب، بل من شأنها أيضاً أن تغير حجم المشروع برمته إلى مقاسات أصغر. إذ تتفاعل الأزمة بصورة يبدو فيه الأمر وكأنه دوران في حلقة مفرغة: حين ينهار سعر النفط ولا يتبقى المزيد من المال لبناء اقتصاد مستقل عن النفط نفسه.
حرب اليمن الباهظة التكاليف المستنزفة لموارد السعودية
أضف إلى ذلك أن خطط بن سلمان في تولي المملكة العربية السعودية عملية إعادة ترتيب المنطقة بوصفها قوة إقليمية، من شأنها أن تتحجم ضمن حدود مالية. فالحرب التي بدأها بن سلمان في اليمن المجاورة قبل خمس سنوات تلقي بثقلها على ميزانية الدولة السعودية. وقد نشر معارضو التحالف العسكري السعودي في اليمن، المتمردون الحوثيون، تقديرات تشير إلى إنفاق المملكة العربية السعودية مبلغ 60 مليار دولار أميركي على هذه الحرب سنوياً.
قد يكون هذا الرقم مبالغاً فيه، إلا أن الجانب السعودي لا يفصح عن تكاليف شراء واستخدام الأسلحة اللازمة لهذه الحرب ولا عن المبالغ التي تُدفع رواتباً للمرتزقة الذين يقاتلون على الأرض هناك أو تلك التي تنفق في سبيل إبقاء حكومة عبد ربه منصور هادي المدعومة من السعودية على قيد الحياة في عدن.
وقد دعت المملكة العربية السعودية سويةً مع الأمم المتحدة إلى مؤتمر دولي مرئي عبر الإنترنت للمانحين في أوائل حزيران/ يونيو، راجيةً من انعقاده ألا تبقى لوحدها من يتحمل آثار الحرب في اليمن، وهي الحرب التي تتحمل مسؤولية اندلاعها.
والحديث هنا لا يدور حول مبلغ صغير من المال أيضًا. فقد حذر الصليب الأحمر الدولي من أن هذه الحرب قد تكلّف المجتمع الدولي مبلغ 29 مليار دولار أميركي إضافي على صورة مساعدات إنسانية، حال استمر النزاع العسكري هناك لمدة خمس سنوات أخرى.
على المحك...عقد اجتماعي سعودي غير مكتوب
وهناك أمر آخر من شأنه أن يقض مضاجع حكام المملكة العربية السعودية لليال طوال خلال هذه الأزمة الاقتصادية. فكما هو عليه الحال في دول الخليج النفطية الغنية الأخرى، يسري في المملكة العربية السعودية عقد اجتماعي غير مكتوب، ينص على: مقابل حرمان رعيتنا من حق المشاركة في الرأي السياسي، نعمل نحن الحكام، بكل ود، على تسخير خدمات الدولة بصورة شاملة لصالح الرعية؛ فيتاح للأولاد الدراسة في الخارج على نفقة الدولة، ويسمح للسعوديين بتلقي العلاج الطبي في الخارج بمساعدة الدولة، والحصول على إعانات لبناء المنازل وعلى قروض بنكية بدون فوائد.
ولطالما بقيت كلمة "ضرائب" من الناحية العملية كلمة غريبة على مسمع المواطن السعودي قبل تطبيق ضريبة القيمة المضافة بنسبة 5 بالمئة في عام 2018. وللتمتع بكل المزايا التي تقدمها الدولة لا يتعين على المواطن السعودي سوى الوفاء بواجب وحيد تجاهها: ألا يشكّك في الشرعية السياسية للحاكم وألا يطالب بحقوقه السياسية.
وقد حقق هذا العقد الاجتماعي نجاحاً على مدى عشرات السنين، وجلب الأمان للعائلة المالكة السعودية في خضم الاضطرابات التي عمت البلدان العربية خلال ثورات الربيع العربي؛ إلا أن بنية هذا العقد قد بدأت بالتصدع.
فالزيادة المعلنة لضريبة القيمة المضافة ثلاث أضعاف، والتوقف عن تقديم مدفوعات الدعم الإضافي لموظفي الخدمة المدنية، أمور من شأنها أن تمثل أولى شقوق تصدع النظام السعودي، وأن تظهر عدم قدرة الحكام السعوديين على الوفاء بالقسم المناط بهم تأديته بموجب هذا العقد الاجتماعي. وسيكون من المثير للاهتمام أن نراقب إلى أي مدى ستلتزم الرعية بتأدية القسم الخاص بها بموجب هذه الصفقة غير المكتوبة.
كريم الجوهري
ترجمة: حسام الحسون
حقوق النشر: موقع قنطرة 2020