العائلات المسلمة في ألمانيا بين ''عين القرية'' وقبضة الشرف
عائلة مسلمة في مكان ما في برلين. الأب يلتقي بابنه. لم يلتقيا منذ فترة طويلة. اللقاء بينهما حار. يقول الابن للأب إنه يريد الزواج. يسعد الأب بالخبر إلى أن يسمع اسم المرأة التي قرّر ابنه زواجها. المرأة التي اختارها سويدية تدعى أنّا شميدت والأهم من ذلك كله أنها ليست مُسلمة. ما أن أخبر الابن والده بالأمر حتى ثارت حفيظته، وصرخ "لا يمكنني أن أصدق أنك تقول شيئًا من هذا القبيل". إذ لا يمكنه تصوّر أن تكون زوجة ابنه غير مسلمة. يتوسّل الابن بصوت مضطرب: "أرجوك أن لا تجبرني على الاختيار بينكَ وبينها". بيد أن هذا لا يزيد إلا من غضب والده الذي يصرخ في وجهه: "أنا جعلت منك ما أنت عليه الآن. أعطيتك كل شيء. وأنت لا تخشى من أن تكلمني عن الاختيار"؟
هذا القصة من نسج الخيال، لكن من شأن شجارٍ كهذا أنْ يجري بالفعل بهذا الأسلوب. كتب هذا الحوار شبانٌ مسلمون ضمن مشروع "هيروس" أي أبطال http://www.heroes-net.de في منطقة نويكولن في برلين، وهي منطقة يسكنها عدد كبير من المهاجرين المسلمين. وضمن مشروع "هيروس" الذي تقوم عليه جمعية "شتروهالم" يسعى شبانٌ مسلمون ذكورٌ إلى تحقيق المساواة بين الجنسين وإلى امتلاك حق تقرير الحياة الجنسية. ويؤلف الشبان لهذا الغرض أدوارًا تمثيلية ويعرضونها أمام تلامذة المدارس ومجموعات من الناشئين، أي أمام جمهور يعرف هذه الأدوار معرفة جيدة من حياته اليومية.
نزاعات كلاسيكية
يبيّن الخلاف بين الابن والأب نزاعًا نموذجيًا في عائلةٍ مسلمةٍ ذات معايير وقيم تقليدية ومحافظة. لا يمتلك الأبناء ولا البنات حرية اختيار شريك الحياة. ويعيشون في أغلب الأحيان ضمن بنى خاضعة للسلطة الذكورية الأبوية تحكمها أدوارٌ ثابتةٌ للنساء والرجال. ويقول عالم النفس أحمد المنصور المولود في فلسطين والذي يرعى مجموعة في مشروع "هيروس" بهذا الصدد: "لا يُقبلُ اختلاف الفرد ولا رغبته في أنْ يعيش حياته الجنسية بشكل مختلف". وتضطر البنات على وجه الخصوص للتقيّد بقواعد صارمةٍ في مثل هذه العائلات المسلمة. وهناك تحريمٌ مطلقٌ للعلاقات بين الجنسين قبل الزواج، ناهيك عن الحديث عن العلاقات الجنسية. وتعتبر عذرية النساء العازبات في هذه الأوساط من أسمى الأمور، وعلى الرجال وخاصة الآباء ولكن أيضًا على الأبناء واجب الدفاع عن ذلك.
لا يكمن وراء هذه القواعد المتصلبة إيمانٌ دينيٌ عميقٌ بقدر ما تكمن رؤية متشددة لمفهوم الشرف الذي يرجع إلى عصر ما قبل الإسلام. وقد وضَّح أحمد توبراك الباحث في علوم التربية والبروفسور في جامعة دورتموند هذا الشأن بتفصيلٍ شديدٍ في كتابه "شرفنا مقدّسٌ بالنسبة لنا" الذي نُشِر مؤخرًا، حيث عالج فيه مفهوم الشرف لدى العائلات المسلمة في ألمانيا. ويشرح توبراك أنَّ غاية مفهوم الشرف في الماضي كانت تتمثّل في حماية النساء من الاغتصاب، وأنَّ مفهوم الشرف الصارم قد استمر لسببٍ واحدٍ على الأخص، هو كونه يعطي الرجال سلطة التحكُّم بالنساء.
يضع الآباء القواعد في العائلة ويفرضون تنفيذها كما يفرضون على أبنائهم الاحتراس ورعاية الأخوات. ولكننا نبسط الأمر كثيرًا إنْ وجّهنا أصابع الاتهام إلى الرجال فقط، إذ إنهم مرتبطون أيضًا بتقاليد اجتماعيةٍ صارمةٍ تحت رقابة "عين القرية" كما يسميها أحمد المنصور من مشروع "هيروس" والذي يقول إنَّ "الفعل في حد ذاته ليس مهمًا إنما ما يقوله الناس عني". لا يتلطخ شرف العائلة فعليًا إذا ما فقدت الابنة عذريتها، إلا عندما تتناقل الألسن الفضيحة في البيئة المحيطة.
المثلية الجنسية
"
عين القرية" موجودة في كلِّ مكانٍ وتمارس ضغوطًا اجتماعيةً هائلة. ويقول أحمد المنصور إنَّ "هوية الإنسان مرتبطة بالمجموعة. وعندما ترفضني المجموعة، أشعر بأنّ وجودي في خطر". ويرى عالم النفس أنَّ هذا الأمر يوضح أيضًا سبب ردة الفعل العدوانية الشديدة لدى الكثير من الرجال، عندما يرون أنَّ شرف العائلة قد تلطخ. وهكذا يبقى التطوّر الجنسي لدى الفرد من المحرمات. وتثير المثلية الجنسية الاحتقار في الأوساط التقليدية المسلمة. وتشير العديد من الدراسات إلى أنَّ رهاب وكراهية المثليَّة منتشران بين المسلمين المتدينين المحافظين، حتى في ظلِّ غياب إحصائيات تعكس حقيقة الواقع. المثليَّة الجنسية تعتبر شذوذًا، أو حتى مرضًا يحاول بعض الآباء والأمهات علاجه بمساعدة من يزعمون أنهم طاردي الشياطين والأرواح الشريرة. وهؤلاء يكونون أئمة تتمثّل كفاءتهم الوحيدة في أغلب الأحيان في أنهم قد تعلموا القرآن عن ظهر قلب. يلعب الإيمان دورًا كبيرًا في رفض المثليَّة. ويقول أندرياس إسماعيل موهر وهو مسلمٌ وخبيرٌ بالقرآن من الجامعة الحرة في برلين إنَّ من يفهم القرآن وفق التفسير التقليدي لا بدَّ له من رفض المثلية. ويرى أنَّ هناك إجماعًا بين الفقهاء المسلمين على أنَّ الممارسات المثليَّة محرمة دينيًا. حيث يستند فقهاء الدين في هذا على وجه الخصوص على الأحاديث النبوية، وهي ما تم تناقله من عبارات وأفعال عن النبي محمد.
يروي القرآن علاوة على ذلك قصة لوط التي تتوافق مع ما يرويه الانجيل عن سدوم وعمورة. وفي السورة السابعة من القرآن يحذِّر لوط رجال شعبه من اتيان الذكور من دون النساء. رجال الفقه التقليديون يقرأون في هذه الفقرة تحريمًا للمثليَّة. بيد أن اندرياس إسماعيل مور يفسّر هذه الفقرة بشكل مختلف، إذ يرى أنَّ القرآن لا يتحدث صراحة عن الجنس في هذا الموضع، ناهيك عن المثليَّة الجنسية، لذلك يعتقد مور بأنَّ هناك مجالاً لتفسيرات تترك للمسلمين الحرية في القول: "أعيش بالطريقة التي أجدها صحيحة". كما أنَّ القصص عن المثليَّة في الأدب العربي والفارسي ليست من الأمور النادرة وهذا يتلاءم مع وجهة النظر الأكثر مرونة.
مفهوم الشرف
على أية حال هناك مسألتان: مسألة ما يحرِّمه القرآن، ومسألة أخرى ترتبط بكيفية تعامل المسلمين مع ذلك في الواقع العملي. فعلى الرغم من رفض المنظمات المسلمة في ألمانيا للمثليَّة الجنسية، إلا أنها لا تدين المثليين والمثليات، حيث أعلن العديد من الاتحادات الإسلامية المحافظة في برلين في عام 2008 التالي: "نحن مقتنعون بأن التوجُّه الجنسي (...) مسألة خاصة. إنَّ حيثية تقبّلنا شيئًا ما أو رفضنا له لن يحدَّ ولا يمكنه أنْ يحدَّ من حرية الفرد بأيِّ شكلٍ من الأشكال. وبالنسبة لنا كلُّ إنسانٍ مسئولٌ عن تصرفاته وسوف يُحاسب في الحياة الآخرة (...) على كل أفعاله أمام خالقه".
إنَّ مفهوم الشرف ليس معقدًا وحسب، وإنما يتغيَّر أيضًا. ويلاحظ البروفسور أحمد توبراك من مدينة دورتموند أنَّ تعامل جيل الشباب مع هذا المفهوم ليس أكثر مرونة بالضرورة، وأنَّ الجيل الأول الذي أتى إلى ألمانيا حاملاً متطلباتٍ قليلة كان الأكثر تسامحًا. ويلاحظ توبراك أنَّ الأخلاق الجنسية الأكثر صرامة لدى الجيل الذي ولد ونشأ هنا، وخاصة عند من تنقصهم الرغبة بالتحصيل العلمي أو لدى الفاشلين في المدارس من الشابات والشبان. يتكشف هنا مفهوم الشرف الصارم على أنه مشكلة اجتماعية.
ينطلق مشروع "هيروس" البرليني في عمله من هذه النقطة. الشرف وحق تقرير الحياة الجنسية وأيضًا المثليَّة مواضيعُ يتحدث عنها الناشئون المسلمون المشاركون في مشروع "هيروس" مع ناشئين آخرين. ولا يريدون في ورش العمل تحديد الصحيح أو الخاطئ، بل دفع الناشئين إلى التفكير. بالإضافة إلى ذلك ينبغي أن يتعلموا أساليب حل النزاعات، لكي تنتهي الخلافات في المنزل بشكل يختلف قدر الإمكان عن تمثيلية الأدوار، ففي التمثيلية يصرخ في النهاية الأب في وجه الابن عاليًا "أغرب عن وجهي! لن أرضى عن هذا الزواج ما حييت!".
يان كولمان
ترجمة: يوسف حجازي
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2012