سوريا...المشهد ما قبل الأخير... هل بدأت وليمة الذئاب؟
بعد نحو ما يقارب العام والنصف، أي منذ بدء الاحتجاجات وحتى الآن، شهدت سورية تقلبات متدرجة وانعطافات مفاجئة على الأرض وفي كواليس الدبلوماسية العربية والدولية، لم تثمر أي حل سياسي، ضيّع المجتمع الدولي خلالها الكثير من الوقت والفرص من دون إيجاد مخرج للأزمة السورية.
الانتفاضة التي بدأت سلمية، على الرغم من الإحباط والخيبة وانحسار الآمال، لم تتراجع عن سلميتها، المظاهرات اليومية مستمرة، تبلغ الذروة في أيام الجمع في تسجيل عدد النقاط الملتهبة، وتتجدد مع مواكب تشييع الشهداء، ترافقها عراضات واحتفالات وأناشيد وغناء وهتافات تطالب بإسقاط النظام.
من الجانب الآخر، أخفقت محاولات السلطة في سحق الحراك السلمي بالقوة سواء بالاعتقالات أو برصاص القناصة، الذي حصد يومياً عشرات وأحياناً مئات الضحايا بينهم أطفال ونساء. ما أدى إلى نشوء ما دعي بعسكرة الانتفاضة حماية للمتظاهرين المدنيين، مهدت لها انشقاقات متفرقة في الجيش النظامي، ما لبثت أن تزايدت وأصبحت ظاهرة شملت الضباط بمختلف الرتب مع أعداد كبيرة من الجنود. أعلنت عن تشكيل كتائب وسرايا تحت تسمية الجيش الحر، خاضت معاركها في الرستن وحمص وتلبيسة والقصير وادلب ودرعا ودوما والزبداني وحماة ودير الزور، ومؤخراً حلب ودمشق، تمكنت من احتلال مواقع، والسيطرة على مدن وقرى، والاستيلاء على كميات كبيرة من الأسلحة.
حلب تقرر مصير دمشق في سورية
في رأي الكثيرين؛ المعارك الدائرة في أرجاء سورية، لن يُحسم فصلها الأخير إلا في دمشق. وإن كان في منتهى الصعوبة، فهي واقعة تحت القبضة الغليظة والمباشرة للنظام، إضافة إلى تمركز الترسانة الصلبة لأجهزة الأمن في داخلها. لكنه ليس مستحيلاً بالنظر إلى أن الجيش الحر تمكن من التسلل إليها أكثر من مرة وبقوات محدودة، واصطدمت مع قوات الجيش، معتمدة على حاضنة لا يستهان بها في الريف الدمشقي الذي كان في مقدمة الانتفاضة وساعد ضباطاً وجنوداً على الانشقاق.
دمشق أسوة بالمدن السورية الأخرى حسمت موقفها ضد النظام، باتخاذ موقف مبكر منه، ولم تتأخر عن المشاركة بالاحتجاجات الشعبية، وإن ليس بما يناسب حجمها، بالتحاق شبانها بمظاهرات الأرياف القريبة منها، ومساهمتهم بتشييع شهداء دوما والقابون والقدم وحرستا وجوبر... وابتكار شابات وشبان صغار في السن مواقف استعراضية رمزية شعارها: "أوقفوا القتل، نريد أن نبني وطناً للجميع" على الرغم من خطر الاعتقال. كذلك حملات البخاخين على الجدران، عدا المظاهرات الطيارة التي غدت مشهداً مألوفاً في شوارعها وحاراتها، ومثلها الخارجة من المساجد، خاصة في أيام الجمع رغم الحصار المضروب حولها، والصدامات التي تتلوها، وما يدور من اشتباكات في أحيائها الشعبية كركن الدين والشيخ محي الدين والميدان وقبر عاتكة وباب سريجة والمزة وكفرسوسة.
ولقد كان وما زال أي احتجاج ضد السلطة يُعرّض المحتجين للتنكيل، وأحياناً للموت في أقبية التعذيب، عدا عن مداهمة منازل النشطاء ومراكز عملهم وتفتيشها ونهبها، واعتقالات لم توفر مئات الطلاب الجامعيين من قسوة عصابات الشبيحة ذوي السمعة السيئة في الممارسات الوحشية، والاحتجاز لأسابيع وأشهر، بعضهم خرج من المعتقل إلى القبر، حتى بات لكل مدينة وبلدة وقرية وحي شهداؤه وتنسيقياته وتاريخه المجيد في الثورة.
في الفترة الأخيرة، بلغ التركيز على العاصمة أوجه، واتخذت الاشتباكات بين الجيش والمعارضة المسلحة تصعيداً خطيراً في بلدة دوما القريبة من دمشق التي اشتهرت كأحد أهم مراكز الاحتجاج الشعبي، بقصف البلدة من قبل القوات النظامية، وتكبيدها مئات الشهداء، تلاها حركة نزوح طالت معظم الأهالي، وأخلفتها أنموذجاً مصغراً للخراب الذي حاق بمدينة حمص. هذه الإجراءات الدموية طالت على التوالي معظم الريف الدمشقي مثل عربين وزملكا والمعضمية وداريا والكسوة والزبداني وبرزة ...الخ.
دمشق الهادئة... بؤرة الصراع
قبل حلول شهر رمضان اخترقت كتائب من الجيش الحر دمشق بأعداد كبيرة، وقرعت أبوابها من عدة جهات، وحققت تواجداً ملموساً في كفرسوسة وبساتين المزة والميدان، مؤسسة فيها عدة بؤر لتكون منصات انطلاق نحو استهداف مراكز القرار ومكاتب حزب البعث ومراكز قوات الأمن والمخابرات. انجلت عن اشتباكات خاطفة في منطقة العدوي والتجارة، امتدت إلى محيط مستشفى ابن النفيس. وتمركزت في الميدان القاعة باتجاه أبو حبل، حيث جرت الاصطدامات الأكثر دموية والتي سقط فيها نحو عشرين شهيداً. وفي شارع بغداد، انتهاء بساحة السبع بحرات، استهدفت بناية لحزب البعث.
دمشق الهادئة التي تبدو من بعيد للمراقب الغريب عنها أن حركة الحياة فيها لم تتأثر بما يجري خارجها، وأن سكانها ينعمون بالأمان والحياة العادية، أصبحت بؤرة الصراع، وتحولت مع احتدام العمليات العسكرية إلى ساحات قتال اتخذت مواقعها في الميدان وبساتين المزة والحجر الأسود والتضامن...
شكل وجود الجيش الحر في قلب دمشق على مقربة من ساحات الأمويين والعباسيين، خطراً على مقرات النظام التي أمست بمرمى نيرانه. ترافق هذا الاختراق مع اختراق آخر، بتفجير مبنى الأمن القومي ومقتل أربعة ضباط كبار من المسؤولين الأمنيين في "خلية الأزمة"، مما أضاف إرباكاً آخر على أجهزة الأمن والإعلام.
بدا والذعر ينتشر في أرجاء دمشق وكأن هناك ما سوف ينهار بين لحظة وأخرى على وقع أخبار توالي اندلاع الاشتباكات في العدوي وساحة السبع بحرات. وسماع أصوات رشقات الرصاص قادمة من السبع بحرات والحميدية وشارع النصر والعباسيين، مع أنباء مؤكدة عن هجمات الجيش الحر على عدة مواقع في العاصمة، وتدمير العديد من الدبابات والعربات وإسقاط طائرة هليوكوبتر في القابون. في حين أخذت قوات الجيش تقصف عشوائياً أطراف دمشق وخارجها. أعقبها حركة نزوح هائلة للأهالي من مدن الريف وأحياء دمشق كالميدان والتضامن وبساتين المزة... باتجاه الأحياء الأكثر أمناً كحي التجارة والقصور والقصاع والعباسيين.
المعركة الأخيرة تلوح في الأفق المنظور
الضربة التي أصابت النظام، جعلته أكثر عناداً وتصميماً على القضاء على أية معارضة مسلحة في دمشق. وإذا كان الجيش الحر أخفق في الاحتفاظ بمواقعه، ولم يحقق تقدماً، وبرر تراجعه على أنه انسحاب تكتيكي، فقد سجل بدايات لمعركة أخيرة، لم يتورع فيها النظام عن استعمال القوة المفرطة دون أية محاذير أو مراعاة للمدنيين، حرب إبادة لأية مقاومة. معركة ستكون طويلة، يخشى أن تتطور إلى حرب أهلية، لوح بها النظام من قبل عدة مرات وشجع عليها في الحولة والقبير والتريمسة، هي الخطر الحقيقي، لا سيما وأن دمشق تتعايش فيها الطوائف كافة بأمان.
لم تكن ساعة الصفر تلك التي حلت، لكنها كانت الشاهد على تداعي الأمن الهش والأمان المخادع. المعالجات الخاطئة للنظام، انعكست على الناس بالشك والخوف والفزع والتحفز. ولاح الاحتمال المرعب المفتوح على القصف العشوائي للأحياء القديمة، الاحتمال الأكثر وروداً إلى الأذهان، بعد تهديدات الشبيحة بتدمير دمشق.
المعركة الأخيرة سواء بدأت، أو لم تبدأ، تلوح في الأفق المنظور. قد تتأخر، لكنها قادمة لا محالة. يراهن النظام ومعه المجتمع الدولي على الوقت. والوقت حان، النظام يعرف ما سوف يفعله. لكن المجتمع الدولي هل يعرف ما الذي يجب فعله؟
الأهالي في سورية يعرفون، سيدفنون شهداءهم. والمقاومون، لن يوفروا دماءهم، حتى في زمن، الضحايا فيه، مجرد أرقام.
فواز حداد
حقوق النشر: موقع قنطرة 2012
تحرير: لؤي المدهون
فواز حداد كاتب وروائي سوري معروف.