فيلم ''عالم ليس لنا''...لاجئون فلسطينيون بين كابوسين
قام المخرج الفلسطيني الدنماركي مهدي فليفل من أجل إخراج فيلمه الوثائقي "عالم ليس لنا" بعدة زيارات في فترة زمنية تمتد لأعوام إلى مخيم عين الحلوة في جنوب لبنان، حيث لا يزال أفراد أسرته وأصدقاؤه يعيشون.
ويعرض فليفل في فيلمه الاحباط واليأس في هذا المخيَّم الذي نشأ عام 1948 كمخيَّم مؤقت، وفي يومنا هذا بات يعيش فيه نحو 70 ألف شخص على مساحة لا تتجاوز كيلومتر مربع، محاصر من قبل الجيش اللبناني.
يتخلل هذا الفيلم كثير من الفكاهة والتفكير بالذات والموسيقى المستعارة من أفلام وودي ألِن، بالإضافة إلى حُمَّى كأس العالم التي تجتاح جميع الأطفال والشباب في المخيَّم كل أربعة أعوام. ويبيِّن كذلك أنَّ اللاجئين لا يزالون موجودين، حتى وإن كانوا قد اختفوا من العناوين الرئيسية للأخبار.
يبدأ فيلمك بلقطات فيديو صوَّرها والدك في مخيَّم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين. وأنت بدورك اقتفيت أثره وصوَّرت في المخيَّم في فترة تمتد 12 عامًا. فما هو السبب؟
مهدي فليفل: أردت توثيق هذا المكان، خاصة لأنَّ أحدًا لم يسمع عنه من قبل، وعلى الأقل لم يسمع عنه أصدقائي في الدنمارك. وبالنسبة لي كان ذلك أمرًا غريبًا لأنَّني قضيت في هذا المكان إجازات صيفية رائعة ولأنَّني عشت فيه طفولة سعيدة جدًا. ولذلك شعرت برغبة في نقل تجاربي إلى العالم وعرض حياة أسرتي وأصدقائي في مخيَّم اللاجئين.
هل كنت تشعر بتأنيب الضمير لأنَّك تستطيع بصفتك مواطنًا دنماركيًا الدخول والخروج متى شئت إلى المخيم، في حين أنَّ الآخرين عالقون في المخيَّم وخاصة صديقك أبو إياد؟
فليفل: بالتأكيد. كنت مميَّزًا ومع الامتيازات يأتي شعور بالمسؤولية أيضًا. فأنا وبالتأكيد الوحيد الذي يستطيع أن يروي هذه القصة، ومَنْ يستطيع ذلك غيري؟ ولو أنَّني أدرت ظهري للناس الموجودين هناك، لمَا استطعت أن أعيش مع نفسي في سلام. ولكنني لم أعُد أشعر بالذنب منذ أن أخرجت هذا الفيلم.
لقد عشت طفولتك في مخيَّم اللاجئين هذا، ولكن كان الدخول إليه يشكِّل لك مشكلات مستمرة. لماذا؟
فليفل: في بداية التسعينيَّات تحتَّم على جميع الفلسطينيين في المخيَّمات اللبنانية تسليم أسلحتهم إلى الجيش اللبناني الذي صار يفرض سيطرته منذ ذلك الحين على هذا المخيَّم. ونتيجة ذلك اكتشف الجيش أنَّ بإمكانه فرض طوق أمني على الفلسطينيين. وهكذا صار المرور عبر نقاط التفتيش التابعة للجيش اللبناني أمرًا فظيعًا.
وبما أنَّ تاريخ بطاقتي الشخصية الفلسطينية الوحيدة يعود إلى عام 1983، أي عندما كنت في الثالثة من عمري وقد انتهت صلاحيتها منذ مدة طويلة، فقد كان الجنود يطلبون وثائق سارية المفعول. ولأنَّني أحمل جواز سفر دنماركيًا، كانوا ينظرون لي باعتباري شخصًا غريبًا يريد دخول منطقة أمنية.
ولذلك كان يجب عليّ إقناعهم بأنَّ جدي يعيش في المخيَّم، وكذلك أصدقائي وخالاتي وعمَّاتي، وأنَّني أريد زيارتهم. وكثيرًا ما كانوا لا يفهمون ذلك، ولهذا كان يجب عليَّ أن أبرز لهم تصريحًا خاصًا.
الجنود لا يعتبرون المخيَّم جزءاً من موطنك؟
فليفل: لا. لعل هذا جزء من حياة أي شخص منفيّ.
ألا يزال المخيَّم مقسمًا حتى الآن بحسب القرى الأصلية التي جاء منها اللاجئون في عام 1948؟
فليفل: لا يزال تمامًا مثلما كان. لقد استقر الناس في مناطق في داخل المخيَّم وسُمِّيت بحسب أسماء بلداتهم ومدنهم الأصلية. وتعود أصول أهالي التجمّع الأكبر الذي تعيش فيه عائلتي أيضًا إلى مدينة صفورية. ولذلك يُطلق عليه اسم صفورية عاصمة عين الحلوة.
بعد عرض الفيلم رحّب جمهور برلين بصديقك أبو إياد. وبما أنَّه اتَّهَم قيادة حركة فتح بالفساد، فهل يمكن أن يُعرِّضه عرض الفيلم في دولة عربية للخطر؟
فليفل: بكلِّ تأكيد، لا يمكن عرض هذا الفيلم في لبنان، وذلك لأنَّه يعيش هناك أيضًا. وقد يضره ويضرني ذلك كثيرًا، رغم أنَّني أتمنى أن يتم أخيرًا خوض هذا النقاش الذي تشتد الحاجة إليه في لبنان.
ما هو أكثر شيء في تصريحاته قد يزعج الفلسطينيين في لبنان؟
فليفل: هجومه على منظمة التحرير الفلسطينية، أي على حركة فتح، وانتقاده لطريقة تعامل الحكومة اللبنانية مع الفلسطينيين. هو يقول أيضًا إنَّه لا يريد العودة، ولكن الكثيرين قد يسيؤون فهم ذلك، كما لو أنَّه يُنكر حقَّهم في العودة ولكنه لا يفعل ذلك.
ولذلك من الممكن أن يثير هذا الفيلم نقاشًا في لبنان. بيد أنَّ أبو إياد سعيد وفخور جدًا، لأنَّه أتاح للناس الوصول إلى عالمه من خلال شجاعته في الحديث.
كيف تتجلى مظاهر التمييز ضدّ اللاجئين الفلسطينيين في لبنان؟
فليفل: لا يحقّ لهم على سبيل المثال ممارسة اثنين وسبعين مهنة، مثل الطب والمحاماة أو العمل في الوظائف الرسمية. لا المسيحيون ولا الدروز يريدون منحهم الجنسية اللبنانية. فبهذا الشكل فقط يمكن إبقاء هذه الشريحة الكبيرة من السكَّان السُّنَّة خارج اللعبة السياسية في لبنان.
ولذلك يقول اللبنانيون إنَّهم يريدون مساعدتهم في الحفاظ على حقِّهم في العودة إلى وطنهم، من خلال عدم تجنيسهم، حتى لا يندمجوا في لبنان وينسوا العودة.
تعرض في أحد المشاهد زيارتك إلى إسرائيل، وحتى إلى ياد فاشيم. فكيف كان شعورك هناك؟
فليفل: لقد كان غريبًا جدًا. كان من حسن حظي أنَّني استطعت السفر مع أبناء صفي الدنماركيين في المدرسة الثانوية. تم استقبالنا من قبل مدرسة ثانوية إسرائيلية، بحيث أنَّني لم أعاني من كابوس نقاط التفتيش الإسرائيلية، لا سيما وأنَّني لم أكن قد قمتُ بأية زيارة للضفة الغربية أو لقطاع غزة.
كنت شابًا صغيراً حين زرت هذا المكان الذي كان يعدّ بالنسبة لي في طفولتي وطني الذي انحدر منه جدي وجدتي. لكنني شعرت حينها بأنَّني ضيف، غريب يتم الترحيب به من قبل الآخرين في بيته. شعور غريب لا أفهمه حتى يومنا هذا.
هل وجدت أية بقايا مما تركته أسرتك في بلدة صفورية قبل مغادرتها في عام 1948؟
فليفل: كانت "البقايا الأثرية" الوحيدة عبارة عن خرابة مُسيَّجة كان جدي يضع فيها أغنامه.
تذكر في فيلمك لمرتين ما قاله دافيد بن غوريون حول اللاجئين الفلسطينيين: "الكبار سيموتون والصغار سينسون"...
فليفل: هذه الجملة هي هراء تام. وحتى يومنا هذا لا يزال الإسرائيليون يخدعون أنفسهم بأنَّ جميع هؤلاء العرب المجانين يريدون إبادتهم وأنَّهم لا يفهمون السبب. ولكن هذا غير صحيح.
وإسرائيل نشأت نتيجة تطهير عرقي ممنهج، وطالما ظلوا لا يعترفون بذلك فلن يكون هناك أي سلام - وكلما أسرعوا في اعترافهم كان ذلك أفضل. يتحدَّث الإسرائيليون دائمًا عن أنَّهم يريدون السلام، ولكنهم لا يريدون الاعتراف بأنَّهم ظلموا السكَّان الأصليين.
تختلف آراء الفلسطينيين حول تطبيق حقِّ العودة. ما هي الآراء التي سمعتها من اللاجئين وما هو موقفك؟
فليفل: من حقِّنا أن نعود إلى هذه الأرض، وما من شكّ في ذلك. وحتى أنَّ الأمم المتَّحدة قد أصدرت قانونًا حول ذلك، لا ترفض تطبيقه إلاَّ إسرائيل وحلفاؤها (القرار رقم 194 الذي ينص على "وجوب السماح بالعودة في أقرب وقت ممكن للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم").
في الفيلم يقول أبو إياد بسبب الإرهاق والإحباط إنَّه لا يريد العودة. هو يريد أن يكون لديه مستقبل. ولكن إذا أعطاه أحد ما تذكرة سفر إلى صفورية، مثلما يهاجر اليهود إلى إسرائيل، وحصل مباشرة على مساعدة لبناء حياة جديدة، فعندئذ لن يرفض - لا هو ولا أي شخص فلسطيني آخر - العودة إلى فلسطين. ولِمَ لا ينبغي عليهم العودة؟
ربما لأنَّهم لا يريدون العيش كأقلية في دولة ذات أغلبية يهودية. فبحسب استطلاع للرأي أجراه "المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية" في عام 2003 واستُطلعت فيه آراء 4500 لاجئ من الأردن ولبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة، كانت نسبة الذين يريدون العودة إلى دولة يهودية لا تتجاوز 10 في المئة. وكان معظم اللاجئين المستطلعة آراؤهم يريدون العيش في دولة فلسطينية...
فليفل: هذا صحيح، ولكن فكرة الدولة اليهودية برمَّتها هي فكرة سخيفة. لماذا يجب أن تقوم دولة على أساس ديني؟ الله ليس سمسار عقارات يقوم بتوزع البلدان بحسب الأديان، بل إنَّ الدين أمر شخصي يمارسه المرء في بيته أو في بيوت العبادة. لا يمكن أن تقوم أمَّة على أساس الدين.
ولكن لماذا يجب ألا تصبح الدولة الفلسطينية هي وطن اللاجئين الفلسطينيين الذين سوف يعودون إلى أمَّتهم بدل العودة إلى قراهم الأصلية؟
فليفل: لا أعرف كيف يمكن إنشاء مثل هذه الدولة بمليوني نسمة في غيتو ضخم مفتوح على الهواء الطلق في غزة. زد على ذلك أنَّ معظم مصادر المياه التي تستخدمها إسرائيل موجودة في الضفة الغربية. فهل سيمنح الإسرائيليون دولة للفلسطينيين، وسيستمرون في السيطرة على المياه؟
أجرى الحوار: إيغال أفيدان
ترجمة: رائد الباش
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2013