هل يرسل الاتحاد الأوروبي قوات عسكرية إلى شمال سوريا؟
بالتزامن مع إطلاق العملية العسكرية التركية في الجزيرة السورية (نبع السلام) هدد الرئيس التركي إردوغان الأوروبيين بفتح حدود بلاده مع الاتحاد الأوروبي أمام اللاجئين، وأوحى بإغراق أوروبا بأكثر من ثلاثة ملايين وستمائة ألف لاجئ في تركيا، مستعدون للعبور براً وبحراً.
وجه إردوغان تهديداته هذه بصورة خاصة للأحزاب الأوروبية الحاكمة، إذ أن فتح أبواب تركيا أمام اللاجئين على أوروبا يعني حدوث موجة لجوء جديدة أكبر من تلك أواخر العام 2015، ما يعني ضمن حسابات الساسة الأوروبيين إتاحة فرصة جديدة للأحزاب اليمينية الصاعدة في أوروبا لكسب مزيد من أصوات الانتخابية وتحقيق مزيد من التقدم على حسابهم في السلطة.
رضوخ الاتحاد الأوروبي
ومما لا شك فيه أن عدم إيجاد حل للأزمة السورية ساهم في تحويل ملف اللاجئين السوريين إلى مجموعة أزمات تختلف شدتها وتفاعلاتها بحسب البلد المضيف. ويتعاطى الرئيس التركي مع هذا الملف على أنه ورقة قوية رابحة في سياق التفاوض مع الاتحاد الأوروبي، وفي ابتزازه، وكذلك الأمر مع أطراف الحرب في سوريا.
وقد بدت فعالية ورقة الضغط هذه جليةً من خلال رضوخ الاتحاد الأوروبي الواضح أمام تهديدات رجب طيب إردوغان عبر الاقتصار على إدانة "العدوان" التركي، ومحاولة خجولة لفتح ملف حظر توريد السلاح الأوروبي لتركيا، بإضافة إلى انتقاد هذه الحملة العسكرية في وسائل الإعلام، والسماح لمعارضي الحملة العسكرية بنظم وقفات احتجاجية أمام السفارات والقنصليات التركية في أوروبا.
تهجير جديد لمهجري إدلب المدنيين؟
وبحسب المعطيات على الأرض السورية، تبدو المنطقة الآمنة المزعومة مخصصةً فعلاً لاستقبال لاجئين سوريين. ولكن مهلاً! ليس أولئك المتواجدون حالياً في تركيا، وإنما لتهجير جديد قد يطال المدنيين في إدلب، لاسيما أولئك المهجرون أصلاً من مناطق سورية أخرى إلى إدلب، وذلك عبر إعادة تهجيرهم مجدداً من إدلب، وتوطينهم على الطرف السوري من الحدود التركية-السورية، ضمن صفقة محتملة في مسلسل الصفقات التي تشرف عليها روسيا في سوريا. بموجب هذه الصفقات تخرج معظم أطراف الحرب السورية رابحةً على حساب الشعب السوري نفسه.
وواقعيا تمس المسألة أمن تركيا الاستراتيجي بشكل مباشر، إذ قد تسهم مثل هذه الصفقة في تحقيق إنجاز ذي "طبيعة مستدامة" فيما يخص سياسة حظر صعود كيان كردي على حدودها الجنوبية الغربية، وذلك عبر تغيير ديموغرافي قسري يزيد من نسبة السكان العرب السنة في هذه المنطقة الحساسة بعد تهجيرهم من إدلب.
كما يستغل إردوغان هذه الورقة إلى آخر حد، فيوحي في نفس الوقت لمعارضيه في الداخل التركي أن المنطقة الآمنة في شمال سوريا ستسهم في إعادة اللاجئين السوريين في تركيا إلى بلدهم، أو بالأحرى إعادة توطينهم في منطقة ما خارج تركيا.
وفيما يتصل بالموقف في موسكو، تعني السيطرة على إدلب، أو القسم الجنوبي منها على الأقل، التحكم بعقدة المواصلات الأهم في سوريا: طريق M5 الرابط بين حلب ودمشق، وطريق M4 الرابط بين حلب واللاذقية، وهما، إن جاز التعبير، بمثابة الشريان الأبهر الصاعد (Ascending aorta) والشريان الأبهر النازل (Descending aorta) بالنسبة لخريطة المواصلات في "سوريا المفيدة".
"مخططات بعثية قومجية قديمة"
أما بما يرتبط بالموقف في دمشق، يعني الأمر انتصار جديد مزعوم في إدلب، ونفض الغبار عن مخططات بعثية قومجية قديمة حول الحزام العربي المفترض إقامته منذ ستينيات القرن العشرين على الضفة السورية من الحدود السورية-التركية.
وفيما يتعلق بموقف قوات سوريا الديمقراطية، تعني وصول قوات أوروبية تجديد الثقة بأوروبا، والاعتماد على طرف ضامن أكثر نزاهة من أمريكا وروسيا وتركيا والنظام السوري مجتمعين.
"حد أدنى من تحمل أوروبا للمسؤولية"
وفيما يخص الاتحاد الأوروبي، يعني الأمر تحقيق الحد الأدنى من تحمل مسؤولياته السياسية والأخلاقية، والإسهام في تحقيق سلام يسهم في إنهاء الأزمة السورية التي طالت وأثقلت كاهل الحكومات الأوروبية. كما يعني ذلك الحد من وصول اللاجئين إلى أوروبا، وإمكانية إبقاء السوريين في بلدهم، أو في الحد الأدنى قصر إمكانية لجوئهم على مناطق أخرى داخل الجغرافيا السورية نفسها.
ضمن هذه الحسابات يتضح للمراقب أن الخطأ الاستراتيجي الأكبر، الذي ارتكبه الاتحاد الأوربي فيما يخص القضية السورية، كان الاعتماد على الحليف الأمريكي بصورة شبه كاملة في مسألة التواجد العسكري الغربي في سوريا.
فمقارنةً مع الولايات المتحدة، يبدو الاتحاد الأوروبي معني بصورة مباشرة بتطورات الحرب في سوريا وبانعكاساتها على دول الجوار السوري، ومن ثم بعلاقات هذا الجوار مع أوروبا نفسها. وبالتالي، توجب على حكومات الاتحاد الأوروبي أن تكون منخرطة بصورة أكبر في المسألة السورية، وليس الاتكال على الحليف الأمريكي الذي يمر بمرحلة تقلب سياساته الخارجية.
إرسال قوات أوروبية إلى شمال سوريا يعني حصول الأوروبيين على موطئ قدم قوية في المنطقة، وإمكانية إحياء الثقة مع فرقاء سوريين، أكراد وعرب وغيرهم، كما سينغص على إردوغان خططه المستقبلية، وسيضعف من موقفه الابتزازي ومن استخدامه المتكررة لورقة اللاجئين السوريين.
إن حدث، واقتنع الاتحاد الأوروبي بإرسال قوات عسكرية أوروبية إلى الجزيرة السورية، فقد يعني ذلك بالنسبة لأنقرة الخوض في حسابات استراتيجية جديدة، إذ لا بد من الشروع في مفاوضات على اتفاقية لتحديد عدد هذه القوات، ومدة بقاءها، ونوعية السلاح الذي ستحمله، وكمياته، وغيرها من بنود، ما قد يكفل عدم تحويل هذه المنطقة الآمنة إلى منطقة انتداب أوروبية شبيهة بما حصل عقب نهاية الحرب العالمية الأولى في الولايات العثمانية العربية، لاسيما في فلسطين، التي لم تخرج القوات البريطانية منها في عام 1948 إلا بعد أن ضمنت لمليشيات الهاغانا ما يكفل لها من قوة عسكرية قادرة على إلحاق الهزيمة بالجيوش العربية المصرية والأردنية والسورية واللبنانية والعراقية والسعودية مجتمعةً، وتحقيق وعد بلفور واقعاً على الأرض.
وأخيراً لا بد من الإشارة إلى أن استقرار اللاجئين السوريين في تركيا، أو عودتهم إلى وطنهم، لا يصب أبداً في مصلحة الرئيس التركي، لاسيما ضمن الظروف الراهنة. الأمر يشبه إلى حد بعيد الطريقة التي استخدمتها بعض الأنظمة العربية مع اللاجئين الفلسطينيين: لا استقرار، ولا عودة. فالرقم الذي وظفه إردوغان في تهديده الأخير لأوروبا (ثلاثة ملايين وستمائة ألف لاجئ) هو نفسه عدد اللاجئين السوريين في تركيا دون غيرهم بحسب إحصاءات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR).
أي أن استقرار السوريين في تركيا، أو عودتهم إلى وطنهم، لا يعني فقط ضمن هذا المنظور انتهاء مفعول ورقة الضغط التركية، بل انقلاب الطاولة على إردوغان نفسه، إذ سيتلو ذلك إحياء ملفات دعم المعارضات التركية، والمفاوضات المتعلقة بها، والتي سيغدو فيها الطرف الأضعف، لاسيما مع استمرار تناقص شعبية حزب العدالة والتنمية وتصاعد شعبية معارضيه.
حسام الحسون
حقوق النشر: موقع قنطرة 2019