لاعبُ النرد ... مُستقبلاً صادق جلال العظم
كأنما نرد العظم ظل يجرب حظه مع الحياة والموت والمنفى والأمل والثورة والإحباط، سارداً سيرة ثرية لابن الارستقراطية السورية الذي قرر الانحياز لماركسية تنتصر للفقراء منذ يفاعة شبابه.
عندما ساقني لاعب نردي لأكون محظوظاً بسماع درويش في رثائه المتعالي لذاته في الصيف الرامالاوي وقبل رحلته النهائية لإجراء الجراحة القاتلة، توافقت وأصدقاء كُثراً على نفس الحزن المنتشر: درويش يودع الناس والحياة.
"لاعب النرد" هي نصه الفخم والمُلتبس الأخير، الفائض بالأسئلة والغموض: "من أنا لأقول لكم ما أقول لكم؟ وأنا لم أكن حجراً صقلته المياه فأصبح وجهاً، ولا قصباً ثقبته الرياح فأصبح ناياً ... أنا لاعب النرد، أربح حيناً وأخسر حيناً".
بعد موت الشاعر صار للقصيدة حيوات أخرى تتطاول باستمرار واعتداد لافت.
في كل مرة أقرأُ فيها قصيدة الفلسفة والحياة والأمل والموت والنصر والهزيمة هذه، تُروى لي القصة بشكل جديد وبأحداث طازجة.
حياة الشاعر لم تنته مع الموت، بل هربت منه وتسللت إلى "لاعب النرد" وظلت تفور وتقامر كأنما إلى الأبد.
لئن كانت "لاعب النرد" إعلان استسلام الحياة العادية لبطش الموت المحتم، فهي أيضا إعلان انتصار الحياة بغرورها الجميل وديمومتها في الشعر على الضد من الموت والهباء.
تُرى أين حلق بها صادق جلال العظم وحلقت به حتى ينص في وصيته على قراءتها يوم يموت؟ وماذا أريد أنا من الزهر أكثر من بذخ أقدار النرد لي: رمية في الرمل، فيتقلب وجه النردين في السماء ستة وستة، دوش كامل، لأكون من يقرأها ويتلوها على روح العظم في برلين وفي مجلس عزائه المُتواضع؟
قبل عام وأزيد قليلاً كانت فيمار، مدينة الشاعر والمفكر الألماني الكبير، تحتفي بصادق جلال العظم، وكأنها وشاعرها يودعانه قبل أن يرحل.
كنا مجموعة قليلة من العرب الذين جاؤوا لمشاركة العظم حصوله على جائزة "ميدالية غوته" السنوية، وهي الأعرق والأكثر رصانة في هذا البلد.
في ذات التاريخ المُحدد لمنحه الجائزة كنت مدعواً إلى ندوة مهمة في مكان آخر مؤكداً للداعين حضوري.
ألغيت ذلك فور انتباهي لتضارب الموعدين، وهمست يومها لخلود، رفيقتي في الحياة وفي رحلتي إلى فيمار، بأننا نسابق الزمن في هذا اللقاء مع صادق، مشاركينه وزوجته ورفيقته إيمان هذا الاحتفاء الأخير، وهذا الآن أهم من كل الأشياء الأخرى.
كنا مجموعة قليلة من عائلته وأصدقائه العرب وسط جمهور ألماني عريض.
لا بأس من الإقرار بأن ثمة مرارة مزدوجة تحلبت في فرح ذلك اليوم المشمس: لأننا قلة أولاً، ولأن هذا التكريم، ثانياً، لم يكن له شقيق في بلاد العرب للمفكر الكبير.
يومها كتبت جزءاً من المرارة: "غوته مُحتفياً بصادق جلال العظم".
اليوم روحا شاعرين كبيرين، لاعب نرد فلسطين، وفارس لغة ألمانيا، ترحبان بروح المفكر الكبير.
اليوم (السبت 17 كانون الأول) هنا في برلين، خلود وأنا مرة أخرى، إلى جانب إيمان وقد غاب صادق.
ومرة أخرى تتحلب ذات المرارة المزدوجة لكن من دون الفرح الذي عشناه في فايمار العام الماضي: لأننا قلة أيضاً في أيام العزاء هذه، قلة لا تتناسب وعلو كعب صديقنا الراحل، ولأن هذا العزاء يُقام بعيداً عن دمشق التي حلم صادق وأوصى بأن يُدفن في ترابها ما تبقى من جسده ... إن أمكن!
وفاءً لروح فتى دمشق التي بقيت وثّابة حتى الابتسامة الأخيرة نواصل لعبة النرد مُبتسمين. روحه لا تحتمل المديح الزائد، بل تتوق لتقليب الأفكار التي حارب من أجلها.
أهمية العظم تكمن في مواقفه الشجاعة وأفكاره السجالية التي تستثير التفكير والنقد والاتفاق والاختلاف.
ولأنه لم يكن "مثقف القطيع" بل "المثقف الناقد" و"المثقف القلق" فقد ظل حراً من قيود الأدلجة ومن الاندراج في أي قطيع.
في لحظات شديدة الاختبار على كل مثقف ومفكر وقف العظم مع ضميره الفكري، وصرح عنه دون مواربة، ولم يجامل السائد والمُستقر من أفكار وتوجهات.
في نقده للهزيمة نفض الكسل التحليلي التآمري الذي كان (وما زال) يلقي باللائمة على الغرب والآخرين ويعلق على مشجب الخارج كل الهزائم والتخلف الذي نرتع فيه.
في نقده لسيطرة الدين على الفضاء العام وتفشي ذهنية التحريم كسر الخطوط الحمر وقدم نقداً من داخل منظومة العقل الديني.
وفي نقده لنمط آخر من الكسل الفكري أنتجته مقولات "الاستشراق" الإدوارد سعيدية، قال إن شطب عمل الاستشراق والمستشرقين دفعة واحدة، وهو النتيجة التي لم يردها أو يدعو إليها سعيد، يعني تعزيز فكر المؤامرة، وتوفير عتاد رخيص وكسول للفكر الرجعي والظلامي كي يتمترس وراءه في نقد كل شيء له علاقة بالغرب.
إنه "استشراق معكوس" بحسب عنوان مقاربته في نقد "الاستشراق" لسعيد.
وعندما يتعلق الأمر بحرية الفكر والتفكير والنقد ينطلق العظم ليقف في النقطة القصوى من الحريات، وليكون ذا تاريخ واحد من الأسماء العربية النادرة التي وقعت بياناً أدان فتوى الخميني الداعية لقتل الكاتب الهندي البريطاني سلمان رشدي.
لم تتكلس ثقافته حول القناعات اليسارية التي ظلت تشكل الدافعية الأخلاقية والإنسانوية في مقارباته، ولم يقع أسيرا لأيديولوجيا تتجمد عند مقولاتها أو حتمياتها ولا تعترف بحركة التاريخ.
انتقد التكلس والرجعية الأيديولوجية عند الماركسيين العرب كما عند الإسلاميين العرب، ولم يجامل هنا أيضا.
فرح العظم بالربيع العربي واحتفى به فكرياً ووجدانياً وسياسياً، ورأى فيه عودة السياسة إلى الناس وعودة الناس إلى السياسة بعد عقود طويلة من الجمود والاستبداد.
رفض الاستقرار الظاهري الذي يتفاخر بإحلاله الاستبداد وسماه "استقرار القبور".
رأى العظم في لحظة "ميدان التحرير" عودة التاريخ إلى المنطقة، وظل متفائلاً حتى اللحظة الأخيرة، رغم كل السوداوية التي هبطت على الثورة الأقسى في سورية.
وعن سورية نفسها نطق بأجرأ ما قد ينطق به مثقف في موقعه، وكتب عما كان يجول في عقول الكثيرين لكن الخشية من الاتهام بالطائفية أسكتتهم.
انتقد العظم التوجهات الغربية التي تصاعدت بعد الثورة السورية بزعم الدفاع عن الأقليات في سورية، وقال إن سورية وتاريخها لم يشهدا أي حروب أهلية إثنية أو طائفية تستدعي هذا النفير المزيف للدفاع عن الأقليات، وكأن الأكثرية هناك تنتظر اللحظة السانحة لتبطش بالجميع.
أخجلني بشكره الراقي سنة 2012 عندما سطرت له إهداء كتابي "في مديح الثورة: النهر ضد المُستنقع"، وكتبت فيه: "إلى صادق جلال العظم: أخيرا دقوا جدران الخزان ... انتهى استقرار القبور".
ظل العظم "لاعب نرد" مُحترفاً مع الأفكار والسياسة والانخراط المطلق في صناعة التاريخ.
لم يكن عاجياً يتكسل على أرائك اليقين والتنظير المُنفصل عن الواقع.
ظل يلعب النرد، نشطاً وقلقاً. رحل العظم، لاجئاً ومُتعالياً عن قبول أية مساعدة مالية من الدولة التي استضافته، فيما ظل الدق على الجدران متواصلاً، وواعداً بأن استقرار القبور سوف ينتهي مهما تمادى النردُ في خداعه للأموات وللأحياء.
خالد الحروب
قنطرة 2016