رواية ''يالو''.....صوت الألم وصدى الحرب
يشار في الكثير من الأحيان إلى أن الرواية اللبنانية الحديثة هي وليدة الحرب الأهلية التي دارت رحاها بين عامي 1975 و 1990، فيما تمتنع الدولة اللبنانية عن أي شكل من أشكال تأريخ الحرب أو رسم الذاكرة الرسمية حتى يومنا هذا. وربما يكون هذا أحد أسباب المعالجة المتواصلة التي يقوم بها الفنانون والكتـّاب والمخرجون لهذا الموضوع.
تتراوح تقديرات أعداد قتلى هذه الحرب بين 150 ألفاً و 230 ألفاً، بالإضافة إلى حوالي 115 ألف مصابٍ ومشوّهٍ، وتشريد خـُمس السكان من منازلهم وتدمير مدينة بيروت. وقد انتهت الحرب رسميًا بعد عقد اتفاق المصالحة الوطنية في الطائف، تلاه إصدار عفو عام عن كلِّ الجرائم التي ارتـُكبت قبل سنة 1991 في سبيل إنهاء "مرحلة الحرب الأهلية". واستـُثنيت من هذا العفو الجرائم التي ارتـُكبت بحق الدبلوماسيين الأجانب فضلا عن عددٍ قليلٍ من الحالات المحددة. ولم يُحاكم سوى زعيم ميليشيا واحدٍ هو سمير جعجع، حيث تمت إدانته بسبب جرائم ارتكبها خلال الحرب الأهلية. وقد أطلق سراح جعجع في العام 2005.
في وحل الحرب
تجري أحداث رواية إلياس خوري في عام 1993 وتـُبيِّن كيف غيَّرت الحرب كل المعايير الاجتماعية. فنرى أنَّ بطل الرواية السرياني يالو (دانيال) الذي تحمِل الرواية اسمه لا يستطيع فهم وجوب تلقيه العقاب بسبب بضع جرائم اغتصابٍ وسرقةٍ قام بها، في حين جرى اغتصاب وذبح آلاف النساء والرجال من حوله. يبدو بالنسبة ليالو بطل الرواية أنَّ عدد النساء اللاتي تركهن يمضين بسلام يفوق أهمية عدد اللاتي اغتصبهن. أساء يالو تمامًا فهم ارتجاف النساء أمامه.
وحتى في ما يتعلق بالسرقة، لم يأخذ يالو إلا ما توفر له أثناء جولاته الليلية، عندما كان يُلحق الذعر بالعشّاق المتحابين في سياراتهم المركونة على أطراف الغابة. "لماذا لا يحاكمون الشعب كل اللبناني؟ يالو مقتنع بأن كل الشعب اللبناني يمارس الحب في السيارات". كيف صار من الممكن أن يقبع في أقبية مركز الشرطة وأن يتعرض للتعذيب، في حين لا يعاقب رفاقه المنخرطين في المليشيات ممن سلبوا ونهبوا؟ كيف يمكن للقانون أن يعاقب على الاتجار بالسلاح؟ لا يستطيع يالو فهم هذا المنطق. سيستغرق الأمر وقتاً حتى يستطيع يالو أنْ يفهم أفعاله في إطار السلوك الاجتماعي، وحتى يتذكر أصلاً جرائم الاغتصاب التي ارتكبها، وأنْ يقرّ بأنَّه من شأن العنف أنْ يكون قد لعب دورًا ما. الكتابة أجبرته على ذلك.
يسرد خوري من منظور يالو قصة مقنعة تمامًا عن طفولة يالو، وعن فترة ذهابه إلى المدرسة، وانضمامه إلى القوات غير النظامية، وهروبه إلى فرنسا، وعودته إلى لبنان. ويُبرز في الوقت نفسه وبشكلٍ متكررٍ أنَّ محيطه قد عايش "الأحداث" بشكل مختلف. وغالبًا ما يعيش يالو وسط فهمٍ خاطئٍ للوقائع. وما يريد التكتم عنه يجد دائمًا طريقًا للإفلات منه.
ماضي الحرب
هل يالو هو العملاق الخجول الذي كان من شأنه أنْ يبدع في زمن السلم في إنتاج لوحات جميلة من فسيفساء خشبية؟ أم هو طفلٌ نتج عن علاقةٍ محرّمةٍ، ويجري حجب ماضيه عنه، ويتعلم الآن من الحرب؟ لا يمكن لأحدٍ أنْ يعتبر نفسه آمناً في هذه الرواية، والحقيقة المحتملة تنقلب أكثر من مرةٍ إلى نقيضها، فكلما ظنَّ القارئ أنه استيقن من القصة تذوي النقاط الثابتة وتزول.
ذكريات يالو تقول له باستمرارٍ ما يخالف قول محيطه، ففي حين يتذكر زملاؤه في المدرسة انتهاكات مدير المدرسة، يدافع يالو عنه على الرغم من أنه بالذات كان محببًا بشكل خاص لمدير المدرسة. "فالمسألة لم تتعدَّ، في رأيه، الملامسات البريئة". تطفو الذكريات إلى السطح ببطءٍ وتتضح تدريجيًا ليالو. إذ يتم إجباره في السجن على كتابة قصة حياته.
وفي كل مرة تتخذ كتاباته منعطفاً مفاجئاً. فأحيانًا تدفعه الكتابة إلى الموت، وأحيانًا أخرى يكون راضيًا نتيجة معارفه الجديدة. "أؤكد لك يا سيدي القاضي أنني صرت إنسانًا آخر. أعرف قصتي لأنني كتبتها، وسوف أكتبها من جديد إذا أردتم". يعتقد يالو بأن تقريره الموجّه إلى "سيدي القاضي المحترم" سوف يمهّد له الطريق إلى الحرية. إعفاء من العقوبة بسبب الاعتراف بالذنب – إنها لجنته الخاصة لتقصي الحقيقة، تلك التي يعقدها في القبو بين الدم والبراز.
الكلمة والحرب
يسرد خوري قصة يالو بمهارة رائعة. الكلمة والحرب هما النقطتان المرجعيتان الرئيستان اللتان يعالجهما المؤلف باستمرار من خلال حبكات جديدة. ولا بدَّ للقارئ من أن يتعلم أنَّ ما يبدو مؤكدًا سيتعثر في المسار اللاحق ليتحول إلى خيالٍ أو إلى أحلام يقظةٍ أو إلى تمنياتٍ أو أكاذيب. لا تنشأ الذاكرة إلا ضمن التفاعل الاجتماعي. وما يتم تذكـُّره مرهونٌ بالطرف المقابل وبالوضع الراهن وبالتالي معرضٌ للتغيير، هذا ما نتعلّمه أيضًا من خلال يالو.
وعلى الرغم من عدم وجود ذاكرةٍ جماعيةٍ بمعنى ذاكرة مجموعات، إلا أنَّ التأريخ لا بدَّ من أنْ يكون قابلاً للتداول العام، وذلك من أجل الشروع في تكوين معنى اجتماعي، حتى وإنْ كان قابلاً للتغيير. لا يزال تاريخ لبنان المعاصر لا يشكل جزءًا من المناهج الدراسية الوطنية، على الرغم من أنَّ اتفاق الطائف كان قد نصَّ على ذلك بشكلٍ واضح. وقد عمل مؤرخون على مدى ثلاث سنواتٍ على إتمام صيغةٍ ملزمةٍ لجميع المدارس. ثم طـُبع الكتاب دون أنْ يجري توزيعه أبدًا. وبعد عشرين عامًا ما زالت المدارس تحدِّد بنفسها كتب التاريخ التي تستخدمها.
وقد تأجج النقاش مجددًا في آذار/مارس 2012. إلا أن أطراف الحرب الأهلية لا تزال عاجزةً عن الاتفاق على رواية مشتركة. لا بل وحتى من هم أصغر سناً، والذين كانوا في نهاية الحرب أطفالاً يصرون على الروايات الطائفية، فسامي الجميل مثلاً الذي ولد في عام 1980 وهو حفيد مؤسس حزب الكتائب المسيحي يطالب "بالعصيان التربوي التعليمي" في حال سعت وزارة التربية والتعليم إلى فرض مناهج تاريخ مُلزِمة. لذلك سيستمر صنّاع الثقافة من أمثال إلياس خوري بالكتابة ضد العفو وضد فقدان الذاكرة.
سونيا حجازي
ترجمة: يوسف حجازي
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2012
إلياس خوري: رواية يالو، صدرت الطبعة الألمانية في برلين عام 2011، ترجمة ليلى شمَّاع.
رابط: الذاكرة المتحولة: الإنتاج الثقافي والذاكرة الشخصية/العامة في لبنان والمغرب، مشروع بحثي في مركز الشرق الحديث في برلين ZMO.
http://www.zmo.de/forschung/projekte_2008/Transforming_Memories.html