القدس بين الحكومات والشعوب العربية - شعرة لم تقصم ظهر البعير
لا يخفى على أحد أن المظاهرات الغاضبة التي شهدتها عواصم الدول العربية اعتراضا علي قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، والاعتراف بها عاصمة لإسرائيل، هو في الحقيقة غضب موجه لموقف الحكومات العربية من الموضوع.
فهذا الغضب المستتر يعكس توازنا دقيقا بين غضب الشباب العربي تجاه حكوماتهم غير القادرة على -أو غير الراغبة في- الدفاع عن الحقوق العربية، وموقف الزعماء العرب الذين تدفعهم غريزة البقاء إلى المحافظة على سياسات فاشلة.
إن هذا الغضب مدفوع بعدم قدرة العرب على تغيير واقع احتلال إسرائيل لأراضٍ عربية منذ عام 1967، واستعداد بعض الأنظمة العربية للتعاون مع إسرائيل في العلن أو في السر في غياب اتفاق سلام إسرائيلي-فلسطيني. وما زاد الأمر سوءاً هو التقارير التي تتحدث عن دعم بعض الدول الخليجية لخطة أمريكية لتسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فيما أصبح يعرف بصفقة القرن والتي فشلت في تحقيق الحد الأدنى من المتطلبات الفلسطينية بإقامة دولة فلسطينية مستقلة.
يأتي غضب الشارع بعد أكثر من ست سنوات من فشل الأنظمة العربية في تحقيق المطالب الاقتصادية والاجتماعية، وفي خضم دعم السعودية والإمارات لقوى الثورة المضادة التي نجحت في إجهاض إنجازات الثوارات العربية في كل مكان ما عدا تونس.
هذا المزيج المتفجر يظهر بوضوح في ضعف الرد العربي والإسلامي على ما أعلنه ترامب، حيث أن ردود الفعل الرسمية لم تخرج عن كونها مجرد كلمات في غياب أي إجراءات دبلوماسية واضحة. عملياً لم تقم أي حكومة عربية باستدعاء السفير الأمريكي أو القائم بالأعمال للاعتراض على هذا القرار، ولم يحاول أي من الزعماء العرب حتى تحذير ترامب من خطورة ما يتضمنه إعلانه على مستقبل عملية السلام في الشرق الأوسط.
ويبدو أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس هو الوحيد الذي اعتبر هذا القرار تجاوزاً للخطوط الحمراء حين أعلن رفضة لقاء نائب الرئيس الأمريكي مايكل بينس خلال زيارته للشرق الأوسط.
يبدو من ذلك أن استراتيجية الزعماء العرب هي الشجب والإدانة في العلن لقرار ترامب وانتظار انتهاء المظاهرات. يعتقد القادة العرب أن ديمومة الحراك الشعبي في شوارع القدس وفلسطين والمدن العربية سوف يكون أمراً صعباً. إن سياستهم القمعية وحالة الفوضى التي تعيشها المنطقة نتيجة الثورات المضادة، جعلت أي حركة احتجاجية جديدة مناهضة للحكومة غير مرغوب فيها، بالرغم من دعوات حماس وحزب الله، الميلشيا المدعومة ايرانياً، لانتفاضة ثالثة قد تكون مغامرة غير محسوية العواقب على المدى المتوسط أكثر من المدى القصير.
وإن كانت الثورات العربية الثورات العربية -وانتشار الحركات الإسلاموية المتطرفة- قد أثبتت أمراً فهو أن الزعماء العرب يتجاهلون الغضب والإحباط الشعبي. حيث إن الانفجارات الشعبية عادةً ما تكون عشوائية غير مخطط لها.
يعي القادة الخليجيون أنهم ليسوا بمنأى عن خطر المظاهرات، حيث دفعهم انخفاض أسعار النفط إلى الإعلان عن خطط إصلاحية لتغيير وتنويع مصادر الدخل في اقتصادياتهم الريعية، وتخفيف القيود الاجتماعية وإعادة كتابة العقد الاجتماعي مقابل التخلي عن الحقوق السياسية. في الوقت ذاته، يعد بعض القادة الخليجين مثل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بإيجاد مزيد من الوظائف وفرص العمل للشباب السعودي.
على الجانب الآخر، ما زال السؤال الذي يطرح نفسه هو ما إذا كان القادة الخليجيون يصغون فعلاً للشارع العربي. حيث أن البحرين، الحليفة السعودية التي نادراً ما تتحرك دون إذن سعودي، قد سمحت لوفد مكون من 25 شخصا -يدعو إلى التسامح بين الأديان- بزيارة نادرة لإسرائيل، على الرغم من اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل.
توقيت القرار البحريني لخرق قرار المبادرة العربية للسلام لعام 2002، والتي تبنتها منظمة التعاون الإسلامي، وتنص على تطبيع العلاقات مع إسرائيل إذا وافقت على الانسحاب الكامل من الأراضي العربية المحتلة عام 1967، وهو الأسوأ على الإطلاق.
فهذه الزيارة تعزز إيمان الشعوب العربية بأن القادة العرب يعزون أهمية أكبر لعلاقاتهم غير الرسمية مع إسرائيل والتي يعتبرونها حليفاً محتملاً في صراعهم مع إيران، أكثر من اهتمامهم بحماية الحقوق العربية. وبينما هم غير راغبين في تعريض علاقتهم مع واشنطن للخطر -بالرغم من القرار المثير للجدل حول القدس ثالث أكثر الأماكن قدسية في الإسلام- فشل القادة العرب حتى الآن في استغلال المساحة المتاحة للمناورة في بيان ترامب.
فالقراءة الدقيقة لبيان ترامب قد تترك بعض المساحة للتأويل -حتى من دون وجود أدنى شك- أن الرئيس الأمريكي أراد دعم موقف إسرائيل.
لقد حاول المسؤولون الأمريكيون، -ومن بينهم مندوبة الولايات المتحدة في مجلس الأمن نايكي هايلي- شرح أن البيان يدعم عملية السلام بدون عزل القاعدة الشعبية لترامب التي تدعم أحقية إسرائيل في كامل القدس. فقد لبى ترامب مطالب قاعدتة الشعبية بالامتناع عن أي إشارة لأحقية الفلسطينيين في القدس، ومع ذلك فقد أكد أن قراره لا يغير الترتيبات المتعلقة بعملية السلام.
"ترامب: الحدود متعلقة بالمفاوضات"
لقد أصر ترامب أن الولايات المتحدة لا تتخذ موقفاً حول قضايا الوضع النهائي، وأن مسألة الحدود لسيادة إسرائيل في القدس تتوقف على مفاوضات الحل النهائي بين الطرفين، وأن الولايات المتحدة لا تتخذ أي موقف حول الحدود المتنازع عليها.
بإمكان القادة العرب أن ينتهزوا الفرصة بطلب إيضاح من ترامب حول ما يعنيه اعترافه بسيادة إسرائيل علي القدس بالنسبة لوضع السكان الفلسطينيين في المدينة والنشاط الاستيطاني في القدس الشرقية. وقد لمّح مدير المخابرات السعودي السابق والسفير السابق في لندن، الأمير تركي الفيصل، إلى ذلك عندما حذر في رسالة للسيد ترامب: "قرارك قد شجع أقصى القوى تطرفاً في المجتمع الإسرائيلي… إنهم يأخذون قرارك رخصة لطرد كل الفلسطينيين من أراضيهم وفرض نظام دولة عبودية عليهم".
في خضم هذه العواطف، يسير كل من القادة العرب والمتظاهرين على خط رفيع لا يعرف متى يصل لمفترق طرق. غضب المتظاهرين هو أكثر من مجرد حنق على السيد ترامب. هذا الغضب الشعبي هو غضبة ضد العديد من السياسات الفاشلة لقادتهم. على القادة العرب أن يأيدوا الرأي العام مع عدم تهديد الوضع القائم.
وإذا ما كان هناك من جانب إيجابي في الموقف المتوتر الحالي بين الحكام وشعوبهم، فربما قد يكون حاجتهم لتقليل الفجوة بين التصور العام حول قضية القدس وغريزتهم للبقاء. إن الضغط على الرئيس الأمريكي لتوضيح ما يعنيه بيانه، هو فرصة أضاع القادة العرب استغلالها حتى الآن.
جيمس إم. دورسي
ترجمة: زياد الشريف
حقوق النشر: مشرق بوليتكس / إم پي سي جورنال 2018
جيمس إم. دورسي هو زميل محاضر بارز في مدرسة راجاراتنام للدراسات الدولية في جامعة نانيانغ التكنولوجية في سنغافورة، والمدير المشارك لمعهد ثقافة المشاهير من جامعة فورتسبورغ ومؤلف مدونةِ: "العالم المضطرب لكرة القدم في الشرق الأوسط"، وكتابٍ حامل لنفس العنوان.