خروج الثقافة الكردية من الأقبية في ظل "سياسة الانفتاح" التركية
تضاء المصابيح وتبدو خشبة المسرح كتجسيد واضح لمبدأ "الحد الأدنى" وهو استخدام أقل قدر ممكن من العناصر والألوان على المسرح. تتوسط المسرح ألواح خشبية ملتوية وممتلئة بكتب من كافة الأحجام والألوان. الأدب هو محور هذه الأمسية، الأدب كما يجب أن يكون فالورق يتحمل كل شيء.
على طرف المسرح يوجد مكتب صغير أما الجدران فهي مزينة بصورتين شخصيتين إحداهما للأديب والشاعر الكردي أحمد خاني الذي عاش في القرن السابع عشر، والثانية لجلادَت علي بدرخان الكاتب والسياسي الذي عاش خلال القرن العشرين. وضع هذان الرجلان الأساس للحركة القومية الكردية وقدما الدعم لها.
المحتوى مسألة جانبية
يدخل بطلا العمل للمسرح ويتحركان بين صورتي البطلين الكرديين. البطل الأول هو دارين الذي يعيش في السويد منذ 16 عاما والبطل الثاني هو شقيقه سعدون، الذي جاء لزيارته. بعد فترة قصيرة يتكشف الهدف من الزيارة فسعدون جاء إلى شقيقه الذي يعيش في الغربة لإقناعه بأن يصبح كاتبا بعد أن سمع في بلده أن تأليف الكتب مسألة مغرية ماديا والأهم أنها تعطي الوجاهة الاجتماعية والشهرة التي تؤثر بالطبع على العائلة كلها. إصدار الكتب هو الأهم أما المحتوى فهو مسألة جانبية.
لم ينبهر دارين بالفكرة. وبعد كتابة معالجة مبدأية تنتقد بشكل ساخر النقاد الأدبيين، عاد الأخ الزائر لبلاده وهو محبط. يدوي صوت المؤلف نفسه على المسرح ويبدي إعجابه بطريقة سرد القصة على الورق إلا أن دارين يصر على كتابة القصة بلغته الأم الكردية وعدم ترجمتها.
الرواية التي تحمل اسم "آلام اللغة"، التي أداها فريق تياترا سي (بمعنى مسرح الظل) التركي والتي عُرضت هذا المساء على المسرح التركي البرليني "تياتروم"، هي في الأساس قصة قصيرة للأديب الكردي الذي يعيش في سويسرا، حسني ميتي. أعاد المخرج والممثل باران ديمير صياغة القصة وحولها لنص مسرحي يعتمد على شخصيتين.
يقول ديمير إن "المسرحية تطرح تساؤلات نقدية حول ماهية الأدب الكردي" موضحا أن هذه القضية ليست جديدة ومشيرا إلى أن مجلة هاوار (بمعنى المساعدة) التي أسسها بدرخان في دمشق في ثلاثينيات القرن الماضي طرحت أيضا هذه القضية من خلال مقالات قوميين وأدباء أكراد.
أدب لا يضيف شيئا
يقول الممثل ذو الشارب الكثيف: "عقب عام 1990 بدأ الكثير من الأكراد، الذين أخفقوا في تحقيق النجاح على المستوى السياسي، في الكتابة وبهذا خرجت للنور مئات الكتب التي لا تحمل قيمة أدبية تذكر فالهدف الأول كان نشر أي شيء". يبعث العمل الكوميدي الذي يحمل نقدا للذات رسالة مزدوجة تشدد على ضرورة الاهتمام بالثقافة الكردية مع توضيح أن أضرار مثل هذه الكتب على الأدب الكردي أكثر من فائدتها.
عرض عمل كردي في برلين على خشبة مسرح تركي بمثابة "إنجاز صغير" كما ترى منظمة العرض يليان هوبه، التي تولت التخطيط لعرض العمل في مدن أوروبية وألمانية أخرى خلال شهري تموز/يوليو وأيلول/سبتمبر 2014.
يتذكر إرهان يلديريم الذي يرافق الفرقة المسرحية، كيف كانت تعرض المسرحيات في الأقبية. وانتقل يلديريم خلال تسعينيات القرن الماضي من مالاتيا إلى اسطنبول للمشاركة في تأسيس المسرح الكردي في الوقت الذي كان فيه الحديث باللغة الكردية في الأماكن العامة من الأعمال التي تستوجب العقوبة. ويستعيد يلديريم ذكريات هذه الفترة ويقول: "كانت أسقف الأقبية التي نعرض فيها المسرحيات قصيرة للغاية لدرجة أننا كنا نصطدم فيها برؤسنا. لم يشاهدنا إلا القليل جدا من المشاهدين، في الواقع كنا نمثل لأنفسنا".
ويتذكر يلديريم ليلة اقتحمت فيها عناصر الشرطة بالملابس المدنية، المكان وطلبت الهوية الشخصية للمشاهدين ثم ألقوا بالممثلين بملابس التمثيل في الحبس لاستجوابهم لاحقا وهو أمر يرى يلديريم أن الهدف منه كان إذلالهم.
تغيير إيجابي في المناخ الثقافي
تحسن وضع المسرح الكردي منذ اعتقال عبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني عام 1999 وما عرف بسياسة "الانفتاح" التركي على الثقافة الكردية في ظل حكومة حزب العدالة والتنمية، والتي تضمنت أمورا عديدة من بينها السماح باستخدام الأسماء واللغة الكردية وتدريس وتعلم اللغة الكردية.
فرقة "تياترا سي" هي واحدة من أربع فرق مسرحية كردية في اسطنبول. تزيد عدد الفرق المسرحية التي تتكون في مدن في منطقة الأناضول الشرقية مثل ديار بكر حيث عرضت في قصر كامل باشا التاريخي مسرحية "ميم وزين" وهي رواية مشابهة لروميو وجوليت الشهيرة لشكسبير.
لكن بالرغم من هذا كله فإن المسرح الكردي يفتقر للأساس المتين ولعناصر جذب المشاهدين. وباستثناء بعض الفرق المسرحية المستقلة الصغيرة التي لا تحصل على دعم من الدولة وتمول نفسها بطرق أخرى، فإن طريق الفرق الكردية في تركيا ليس مفروشا بالورود.
يرى ديمير أن الفرق المسرحية الكردية تواجه صعوبات أكبر بسبب عدم أخذها مأخذ الجد ويقول: "عدم حضور الأتراك لأعمالنا ليس بسبب عدم فهمهم للغة منتقدا فكرة ترجمة نص المسرحيات لأن هذا الأمر من شأنه أن يعزز فكرة الانصهار بين الثقافات ويضيف: "سينتج عن هذا ألا يضطر شبابنا لتعلم اللغة الكردية".
يؤمن ديمير بأن الأعمال المسرحية تعكس المشاعر في المقام الأول وهو أمر لا يتطلب بالضرورة فهم معنى كل كلمة. ويرى ديمير أن ابتعاد الجمهور عن المسرحيات الكردية يرجع في الأساس لمشكلة اجتماعية ويوضح: "ينظر الكثير من الأتراك إلى الأكراد وكل ما هو كردي على أنه يفتقر للقيمة وبالتالي فلديهم صورة مسبقة عن مدى جودة مسرح الأكراد".
أكثر من مجرد دعاية تهييجية
لا تزال بعض الأفكار المسبقة تتداعى للذهن عند الحديث عن المسرح الكردي ومن بينها أنه ينشر الدعاية، ويروي ديمير أن لهذه الفكرة أساس، وهو أن معظم العروض في تسعينيات القرن الماضي كانت من نوعية فن الـ"أجيت بروب" (الدعاية التهييجية). يرغب ديمير من خلال فرقته أن يظهر أن الفن الكردي لديه أكثر من مجرد دعاية تهييجية ليقدمه للمشاهد.
يدرك إرهان يلديريم اتساع حجم المسرحيات الكردية ويقول:" لعبة تبادل الأدوار المتواترة لها أساس قوي في مجتمعنا منذ زمن طويل وتعد من الأنشطة المحببة في أوقات الفراغ". وبدأ حال المسرح في التطور منذ أن كتب الصحفي والأديب الكردي، ومؤسس مركز "بلاد الرافدين" الثقافي في اسطنبول، أولى أعماله باللغة الكردية خلال تسعينيات القرن الماضي، إذ صارت الملحمات الشعرية الكردية تؤدَّى على المسارح علاوة على ترجمات جديدة لأعمال أنطون بافلوفيتش تشيخوف إلى الكردية، وقيام مخرجين مثل باران ديمير بتحويل قصص قصيرة كردية إلى أعمال مسرحية.
وبرغم كل هذه التطورات يوجه إرهان يلديريم انتقادات للنجاحات المزعومة للتوجهات السياسية تجاه الأكراد ويقول: "ينظر إلى السماح بتدريس اللغة الكردية في المدارس الخاصة حاليا على أنه نجاح لكن الكثير من الناس قتلوا وطردوا من ديارهم وأشعلت القرى. فكرة أني كدافع ضرائب أدفع المال من جيبي الخاص حتى أتعلم لغتي الأم، ليست سوى إساءة"، لكن يلديريم يرى في الوقت نفسه أن تطور الفن الكردي حتى وإن كان بطيئا، فهو بداية جيدة.
جيداء نورتش
ترجمة: ابتسام فوزي