حين ينغمس أمريكيون من أنصار ترمب في الثقافة المصرية
كان لدى طارق منيب فكرة جنونية: لماذا لا نعرض على الأمريكيين رحلة تبادل ثقافي مجاني إلى مصر ونرى ما سيحدث. وفيلم "رحلة مجانية إلى مصر"، الذي شارك في إنتاجه الكندي من أصول مصرية طارق منيب (يعمل ويقيم الآن في سويسرا)، وأخرجته المخرجة الرومانية الأمريكية إنجريد سيربان، يتتبع الخطوات التي قام بها منيب للعثور على أشخاص على استعداد للتخلي عن تصوراتهم المسبقة وأمتعتهم من أجل الرمي بأنفسهم في المجهول. والأكثر من ذلك، ينبغي عليهم تجاوز عقود من المفاهيم الخاطئة حول العالم العربي التي تغذيهم بها وسائل إعلامهم والسياسيون.
ليس من المستغرب، ربما، أن عرض رحلة مدفوعة التكاليف بالكامل لا يبدو أنه يفتن الكثير من الناس. بيد أن منيب ليس إلا متفائل ويصرُّ على العرض. يظهر بمقابلات على برامج الراديو، ويقف مطرب الراب آدم صالح في شوارع مدينة نيويورك ممسكاً بلافتة تعلن "رحلة مجانية إلى مصر"، ويذهب إلى معقل العدو المفترض من خلال حضور تجمع لأنصار ترمب في مدينة لويفيل بولاية كنتاكي، في محاولاته للعثور على أشخاص مستعدين لاستغلال هذه الفرصة.
سبعة شرعوا في المغامرة
وفي هذا التجمع لأنصار ترامب يَجِدُ أربعةَ أشخاص من أصل سبعة انضموا إليه في نهاية المطاف للمغامرة. واحد من هؤلاء الأشخاص هو العريف السابق في البحرية بريان كوبيليك، الذي يعرّفه بدوره على صديقيه جيسون رينولدز وجينا داي. وهما من المسيحيين "المولودين من جديد" (Born-again Chrisians)؛ وَ داي أيضاً هي ملكة جمال كنتاكي السابقة. [المسيحيون المولودون من جديد هي طائفة مسيحية من أكثر الطوائف تماهياً مع اليهودية، يتركز إيمانها على مسلَّمة أساسية، هي أن غرض الله لن يتحقق إلا إذا عاد اليهود إلى أرض الميعاد (فلسطين)، وأقاموا فيها مملكة إسرائيل اليهودية الخالصة، التي لا يشاركهم فيها أو يقيم على أرضها كمواطن من مواطنيها أحد، من غير اليهود - المصدر: كتاب: "لماذا يكرهوننا"].
في تجمع أنصار ترامب ذاته الذي التقى فيه بِـ كوبيليك، التقى منيب أيضاً بضابط شرطة أمريكي إفريقي "مارك سبالدينغ". والذي أُعجِب أيضاً بالفكرة. أما الأشخاص الثلاثة الآخرون الذين شكّلوا المجموعة فهم زوج وزوجته "إلين وتيري ديكر" وضابطة بحرية سابقة أخرى، أم عزباء "كاتي أبليدورن".
تصف إلين ديكر نفسها على أنها راديكالية سابقة تظاهرت ضد حرب فيتنام في سيتينيات القرن الماضي، بيد أنها شعرت بالخوف بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر. وقد أذهلتها العنصرية التي أصبحت عليها وهي مصممة على إيجاد طريقها للخروج من تلك المتاهة. أما أبليدورن فهي بالأصل من ولاية نبراسكا -الحزام الإنجيلي كما تسميها- وتروي كيف ذُعِرت عائلتها من أن رأسها قد يُقطع أو تُباع إلى العبودية الجنسية إن هي ذهبت في هذه الرحلة. [الحزام الإنجيلي: مصطلح غير رسمي يُطلق على إقليم يقع في جنوب شرق إلى وسط جنوب الولايات المتحدة الأمريكية تُشكِل فيه البروتستانتية المحافظة اجتماعياً جزءاً رئيسياً من الثقافة، وحضور الكنيسة المسيحية فيه أعلى منه في بقية الولايات المتحدة - المصدر: ويكيبيديا].
ولضمان الانغماس الكامل في الثقافة المصرية، يُوضع كل من المشاركين الأمريكيين مع مضيفين في القاهرة. ويتراوح المضيفون من أناس شباب عصريين إلى عائلة أرثوذوكسية متدينة. يقضي الأمريكيون أيامهم مع المضيفين وعائلاتهم، يجولون في المتاحف، ويذهبون إلى منازلهم ويستكشفون العاصمة المصرية.
وبمراقبة التفاعلات بينهم، نرى أن العصبية الأولية على كلا الجانبين تبدأ بالتلاشي. يضحك كوبيليك، الذي يُرافق مصممة رقصات وراقصة حديثة، سلمى سالم، حين يتحدث عن كيفية تشاركهما في تجربة التعرض لإطلاق النار. إذ أُطلق النار على سالم حين شاركت في احتجاجات الربيع العربي. وفي حين لا يتشارك جميعهم تجربة فريدة، إلا أنهم جميعهم ينشؤون صلات مع مضيفيهم.
وربما لن يكون من المستغرب أن الثنائي المسيحي المحافظ داي ورينولدز، ينشآن رابطاً مع مضيفيهم المسلمين المحافظين، عائلة المدكور. ففي حين أنهم قد لا يتبعون الدين ذاته، إلا أنهما كلاهما يؤمنان بنسخة فريدة جداً من دينهم.
رؤية مختلفة جداً لمصر
رغم أن الفيلم هو إلى حد ما فيلم عن رحلة، يبحر فيها "السياح" ومضيفيهم في أماكن مختلفة في أرجاء القاهرة، والمتاحف والأهرامات، بيد أنهم يزورون أيضاً أجزاء من المدينة لا يراها السيّاح. إذ يزور الأمريكيون بيوت وأحياء مضيفيهم وعائلاتهم. لتأخذهم هذه النزهات إلى شوارع جانبية ضيقة، بعضها قد تكون على الأرجح أقدم من موطنهم الأصلي.
ومن الواضح أن الفيلم يركّز على قدرة الأمريكيين ومضيفيهم على إيجاد أرضية مشتركة. بيد أن ذلك لا يعني تغاضيهم عن نقاط النزاع. يحضر كوبيليك حفلة مع أصدقاء سالم، وما بدأ كنقاش حاد حول السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط لا يتوقف إلا من خلال قول المرأة التي يجادلها بأنها سعيدة لانتخاب ترامب لأنهم معه يعرفون على الأقل وضعهم، في حين أن كلنتون كان أفعى مخادعة. يضحك ويوافق.
وسيرى الأمريكيون الذين يشاهدون الفيلم أيضاً التنوع في السكان الذين تمثّله العائلات المضيفة. ففي حين ترتدي نيفين مدكور برقعاً كاملا وترتدي بناتها الحجاب، تمثل سالم التي تقود دراجة هارلي ديفيدسون وأصدقاؤها جيلاً جديداً. في الحقيقة، سيكون من الصعب على معظمنا معرفة الفرق بينهم وبين أي مجموعة من الأمريكيين التقدميين.
بادرة أمل
كم كان لهذه الرحلة من تأثير على الأشخاص الذين اشتركوا فيها؟ لا نرى أي متابعة للمشتركين المصريين، لكن لكل مشترك أمريكي يبدو أنه يفتح أعينهم على حقيقة أن العالم ليس أبيض وأسود كما دُفِع بهم إلى الاعتقاد. هؤلاء الأعداء المفترضون، المسلمون والعرب، لديهم الكثير من القواسم المشتركة معهم، مثلهم مثل أي شخص آخر.
في الحقيقة حين توفي تيري ديكر فجأة بعد وقت قصير من عودتهم إلى الولايات المتحدة، طلبت زوجته إلين من منيب أن يرتب لها ولابنها للسفر إلى مصر لنثر رماده في الصحراء. فبالنسبة لرجل وصفه ابنه بأنه، نوعاً ما، كارهٌ للأجانب -مما يعيقه عن السفر- فإن في قدرته على قبول الناس الآخرين -بحيث أن زوجته أرادت نثر رماده في دولة أجنبية- بادرة أمل مذهل لا يُصَدَّق.
وفي حين أن الرحلة ربما لم يكن لها تأثير كبير على جميع المشاركين بها، إلا أنها قد فتحت أعينهم على حقائق أخرى وجعلتهم يدركون أن العالم ليس أمراً منفصل وجاف كما دفعهم السياسيون إلى الاعتقاد. لن يغير فيلم "رحلة مجانية إلى مصر" العالم فجأة، بيد أن ذلك ليس ما كان ينوي القيام به على أي حال. إنه يريد أن يبدأ الناس بالتحدث بعضهم مع بعض، والاستماع حقاً إلى إجابات بعضهم البعض.
إن فيلم "رحلة مجانية إلى مصر" هو فيلم رائع حول تجربة شجاعة في التغلب على المفاهيم والأحكام المسبقة للناس للمساعدة على إيجاد على أرضية مشتركة. تواصل سبعة أشخاص شجعان ومضيفيهم في محاولة لسد الفجوة التي ازدادت عمقاً واتساعاً في السنوات الأخيرة. ربما هذه هي الطريقة لإيجاد وسيلة للمضي قدماً -شخص واحد في كل مرة يتحدث إلى شخص آخر. طريقة جيدة لإيجاد أرضية مشتركة.
ريتشارد ماركوس
ترجمة: يسرى مرعي
حقوق النشر: موقع قنطرة 2019