الإسلام التركي- طريق للإصلاح الديني والتغيير
لا جدال في أن الإسلام كعقيدة وكدين من الأديان التاريخية في العالم يتسم في الوقت الحالي بعنفوان سياسي وجهادي، ولكن من المهم كذلك أن نعي أن الإسلام السياسي لا يمثل كل الإسلام، وأن إسلام العنف الذي يمارسه الجهاديون لا يمثل كل الإسلام السياسي. كما لا يصح أن يغيب عن أنظارنا – على خلاف ما يوحي به الانطباع الأول - أن هناك صراعاً مريراً حول مصطلح العقيدة الإسلامية وما يرتبط بها من سلطة تأويل.
هذه الحقيقة تقف في مواجهة الرأي المنتشر في الغرب وفي العالم الإسلامي على حد سواء، والذي ينظر إلى الإسلام باعتباره كتلة متماسكة ومتجانسة، وعنصراً حاضراً في كل مكان وذا سلطة عظمى، وأنه يحدد للمسلم كل حركة وكل توجه في حياته. هذه الرؤية المجردة والمشوهة تصب داخل الدول الإسلامية في مصلحة الشيوخ ورجال الدين ونظم السلطة لديهم، ولهذا فإنهم يحافظون عليها بحماسة ويدعون إليها بغيرة.
أما السواد الأعظم من الشعب فيجد في ذلك آلية تخدم أهدافه للتحقق الذاتي من الناحية النفسية. في المقابل فإن المصطلح يبدو صالحاً في الغرب العلماني لتقديم شرح بسيط لمشاكل معقدة يُصعب الإحاطة بها؛ وهكذا تكتسب رؤية الإسلام على هذا النحو التبسيطي شعبية متشابهة في كل مكان من عالمنا اليوم.
"لم يعد هناك دين يعلو على النقد"
إن الصراع حول تحديد ماهية المصطلحات وامتلاك سلطة التأويل يتسم في العالم الإسلامي اليوم بالسخونة الشديدة لأن المنطقة ما زالت تمثل أساساً للمجتمعات الإسلامية، ولأن ذلك يمنح تلك المجتمعات طابعاً جماعياً مشتركاً، على عكس أشكال التدين التي أصبح الغرب يمارسها والتي تتسم بدرجة عالية من الفردية والخصوصية.
كما أن القراءات العصرية للقرآن وللنصوص الأساسية في الإسلام – حيث تحاول أن تحل التفسيرات الرمزية والمجازية أو التاريخية محل القراءات الحرفية - لم تستطع حتى الآن أن تفرض نفسها، وهكذا كان النص القرآني وما زال يحتل مكانة أكثر بكثير من نصوص العهد القديم أو الجديد وتأويلاتها. هذا ما يفسر أيضاً – وإنْ جزئياً – اندلاع الغضب الجماعي في العالم الإسلامي إذا استفزه عمل مثل "الآيات الشيطانية" لسلمان رشدي أو الرسوم الكاريكاتورية الدانماركية حول النبي محمد.
ورغم التراث الثري بالهجاء والنقد والسخرية والفكاهة في الأدبين العربي والفارسي فإن الإسلام المعاصر لم يستطع أن يتقبل بعد فكرة أن الدين لم يعد في العالم الحديث محصناً ضد النقد والهجاء. غير أن المسلمين أحرزوا بعض التقدم في هذا الاتجاه، وكما ظهر في أعقاب عرض فيلم غيرت فيلدر المثير للجدل بعنوان "فتنة" الذي يقدم صورة مُهينة للإسلام. كانت ردة فعل العالم الإسلامي تتسم بضبط كبير للنفس، أي أن ردود الفعل جاءت هادئة وعقلانية دون أن تندلع مظاهرات جماهيرية الغاضبة.
ثلاث مجموعات
وهناك ثلاث مجموعات أساسية تتصارع فيما بينها حول امتلاك سلطة التأويل والتحدث باسم الإسلام. المجموعة الأولى تتكون من الحكومات وأجهزة الدولة ورجال الدين الذين يصوغون معاً ويدعون إلى ما يمكن أن نطلق عليه "إسلام الدولة الرسمي". وأكثر تجليات هذا الإسلام وضوحاً نراها في "البترو إسلام" الذي تمارسه بلدان مثل المملكة العربية السعودية وإيران؛ هذه الدول تعمل على نشر ممارسات هذا الإسلام عالمياً بالأموال التي تحصل عليها من بيع البترول.
العقيدة الرسمية للبترو إسلام الشيعي الإيراني هي "ولاية الفقيه"، بينما تستند الرؤية السعودية على القرآن مباشرة باعتباره دستور الدولة. غير أن كل دولة من دول العالم الإسلامي قد طورت في السنوات الماضية رؤيتها الخاصة لـ"الإسلام الرسمي" الخادمة لمصالحها. حتى أن دولة علمانية مثل تركيا الأتاتوركية وجدت أنه من الضروري أن تعود – على الأقل بصورة مؤقتة – إلى شكل من أشكال الإسلام المتسامح والمرن والمسالم نسبياً.
وعموماً فإن إسلام الدولة – وخاصةً في أكثر أشكاله جموداً وحرفيةً – كان خلال الحرب الباردة حليفاً للغرب ومساعداً لا يمكن الاستغناء عنه. أي أن التفاعل بين هذا الإسلام والغرب قديم ويتسم بالتفاهم والتعاون الممتاز بين الطرفين. ولهذا، ليس على المرء أن يقيم وزناً كبيراً الاتهامات الجسيمة التي يكيلها كل طرف إلى الآخر علناً.
راية الجهاد
المقابل لإسلام الدولة هو الإسلام الراديكالي العنيف بجماعاته وأجنحته التي لا تنتهي. هذه الجماعات وتلك الأجنحة ترفع من جديد راية الجهاد التي طواها النسيان منذ أمد بعيد، وعبر عمليات العنف الضخمة المثيرة تريد أن تصل إلى أهدافها على نطاق العالم كله.
هذا الإسلام احتل الكعبة في مكة وبذلك هز الأركان الراسخة التي تقوم عليها المملكة العربية السعودية، كما قتل الرئيس المصري أنور السادات عام 1981 أملاً في إشعال نيران ثورة إسلامية على أرض الكنانة، كما خاض صراعاً دموياً ضد الأنظمة الحاكمة في سوريا ومصر والجزائر دون أن يصل إلى نتيجة، كما حمل عدوانيته إلى الولايات المتحدة التي هاجمها في الحادي عشر من سبتمبر.
العقيدة الجديدة للجهاد تتهم كافة الحكومات في العالم الإسلامي بالردة، وتعتبرها مؤسسات إسلامية بالاسم فقط، ولذلك ترى من واجبها أن تعيدها إلى حظيرة الإسلام من جديد. عندئذ تكون "الحاكمية لله"، ووقتئذ تتم تطبيق شريعته في البلدان الإسلامية أولاً، ثم تُطبق في العالم بأسره. هذا النوع من الإسلام لا يوافق على موقف الأغلبية المسلمة التي تتسم بالصبر، أما الضربات العنيفة الملفتة للأنظار فيُنظر إليها على أنها جهاد في سبيل الله. هذا الفهم للدين، الذي يؤمن بالفعل إيماناً أعمى، قد حرر نفسه تماماً من كافة الأفكار الحديثة، مثل المجتمع والإصلاح والسياسة الحزبية والقانون، كما تحرر من فهم الأغلبية للدين.
خير الأمور الوسط
هنا لا بد من ملاحظة أن حزب الله اللبناني وحركة حماس الفلسطينية لهما بالطبع أوجه تشابه مع ذلك الشكل من الإسلام، ولكن لا يمكن تماماً اعتبارهما جزءاً منه. لقد خرجت كلا المنظمتين من رحم حركات تحرر تقليدية وطنية، وهما يستخدمان إيدولوجيتهما ذات الطابع الإسلامي لحشد الجماهير للوصول إلى أهداف سياسية محددة. والنشاط النضالي لهاتين الحركتين محصور في منطقة بعينها، ولا يستهدف سوى المحتل، كما أنهما يضعان هدفاً واضحاً نصب أعينهم، ولهذا يتمتعان بمؤازرة شعبية واسعة.
وأخيراً فهناك الإسلام التجاري للطبقة الوسطى الذي ينتشر بصورة خاصة لدى البورجوازيين في الدول الإسلامية. هذا الإسلام حاضر في عديد من المؤسسات، مثل غرف التجارة والصناعة والحرفيين أو في فروع المصارف الإسلامية. ولأن الطبقة الوسطى تشكل العمود الفقري للمجتمع المدني في تلك البلدان، فمن الممكن أن يتحول هذا الإسلام إلى إسلام المجتمع المدني المسلم عموماً. إنه إسلام معتدل ومحافظ لا يقف عائقاً في طريق التجارة أو إتمام الصفقات. وهو إسلام يخشى مُصلحي العالم من اليساريين، كما يخشى المتحمسين الإسلاميين الراديكاليين.
إننا نجد أنموذجا مثل هذا الإسلام المتجانس اليوم في تركيا بحكومتها الإسلامية المعتدلة من حزب العدالة والتنمية. وتأثير النموذج التركي على العالم العربي، الذي يحتل موقع القلب في أرض الإسلام، واضح جلي. وحسب تقديري فإن هذا الإسلام المنبثق من الطبقة الوسطى ستكون له الكلمة العليا، وسيسود لفترة طويلة قادمة، إذا استطاعت الدول والمجتمعات العربية التي تشهد في الفترة الحالية حالة غليان أن تصل إلى قدر من الاستقرار والديمقراطية.
صادق جلال العظم
ترجمة: صفية مسعود
صحيفة نويه تسوريشر/ قنطرة 2008
ولد صادق جلال العظم عام 1934 في دمشق. درس الفلسفة في بيروت، ثم عمل أستاذا محاضراً في جامعات نيويورك وبيروت وعمان ودمشق. من أشهر أعماله كتاب "نقد الفكر الديني".
قنطرة
الآفاق السياسية للحركات الإسلاموية:
من الدوغماتية إلى البراغماتية السياسية؟
ينشط الإسلامويون على الساحة السياسية في سياقات متعددة وأُطر متنوعة تتمايز فيما بينها من خلال خطاب تصالحي تفاعلي يقوم على المشاركة السياسية أو خطاب تصادمي ينبثق من منطلق إقصائي ذي بعد أيدلوجي. الباحث عمرو حمزاوي، كبير الباحثين بمعهد كارنيغي للسلام في واشنطن، في تحليل معمق لهذه الحركات ومنطلقاتها.
الخطاب السياسي للحركات الإسلاموية
إشكالية التحول الديموقراطي
لم يعد بوسع المرء تخيُّل الخطاب السياسي في الكثير من البلدان الإسلامية من دون الحركات الإسلاموية . لكن ماذا يُقصد بالإسلاموية عموماً؟ هل هو تعصّب الخاسرين وحسب؟ وكيف يتوجّب على الغرب أن يتعامل مع "الإسلامويين المعتدلين". سونيا زِكري تجيب عن هذه التساؤلات.
التحدي الاسلاموي:
من "الإسلام هو الحل" الى الديمقراطية والتعددية
في الدور الذي يلعبه الإسلامويون الآن في حياة العالم العربي وسعيهم ليكونوا بديلا للحركات القومية الأخرى التي قادت بلدانها الى الإخفاق ينبغي عليهم التأكيد على أن وصولهم للسلطة سوف يكون مبنيا على الديمقراطية والتعددية واحترام مبادئ حقوق الإنسان للنهوض بالعالم العربي من سباته الطويل. تقرير كتبه عمار علي حسان