ربيع الشعوب العربية
شتيفان فايدنر
كولونيا، 26/04/2011
عزيزي خالد الخميسي،
كم هي سعادتي كبيرة بإتاحة الفرصة لي للكتابة إليك عبر هذه القناة! هناك أشياء كثيرة للحديث عنها، وأنا بالكاد أعلم من أين يجب أن أبدأ.
أوَّدُ أولاً وقبل كلِّ شيء أن أُعبِّر لك عن الإعجاب والتأييد الذي تتبعنا به أنا وكثيرٌ من أصدقائي الألمان والعرب الثورة المصرية! وقد كانت ثورتكم أيضًا ثورةً على أحكامنا المسبقة وعلى غرورنا الخامل، وثورةً على انتهازية الغرب في التعامل مع العالم العربي. كما أنَّ ثورتكم هي ثورةٌ ضد الكذبة التي تدَّعي أنَّ العرب ليسوا معنيين بالديمقراطية، وأنهم يحتملون الطغيان بمحض إرادتهم. ولطالما علا صوت مثل هذه الأحكام على غيره وتكرر في وسائل الإعلام. لا بل وحتى أنَّ أشخاصًا اعتُبروا حكماء كأساتذة الجامعات والمؤرخين والصحفيين المرموقين قالوا بذلك أيضًا. وأنتم برهنتم لهم اليوم العكس! فأحسنتم صنيعًا! وبرأيي إذا كان هناك من يدافع اليوم عن ما يسمى بالقيم الغربية من حريةٍ وعدالةٍ وتضامنٍ، فإنها الشعوب العربية التي هبَّت في وجه الطغاة الذين ساندهم الغرب أو على الأقل تغاضى عنهم طويلاً.
من هنا يأتي اهتمامي الشديد بمعرفة المواقف وطبيعة المؤازرة التي ينتظرها المثقفون العرب أو حتى الناس البسطاء منا نحن في الغرب. موضوعيًا إنه لمن الصعوبة بمكان أنْ يُشكل المرءُ رأيًا واضحًا بخصوص أحداثٍ لم يشارك هو بها مباشرةً، وبالتالي يصعُبُ اتخاذ قرارات كثيرة ذات شأن. لنأخذ حالة ليبيا مثالاً، كنتُ منذ البداية وعلى عكس الحكومة الألمانية مؤيدًا للتدخل العسكري في ليبيا ولفرض حظر الطيران فوق أجوائها ولمحاربة القذافي وكتائبه. وأنا على قناعةٍ بأنَّ ليس للقذافي ظهير قوي بين الشعب، وأنَّ الخلاص منه سيكون نعمةً على المنطقة.
وهذا الأمر ينسحب على ديكتاتوريين آخرين تندلع المقاومة ضدهم فيطلقون النار على شعوبهم، كما يحصل حاليًا في سورية مثلاً. ولكن ما الذي علينا أنْ نفعله؟ أنا على قناعةٍ بأنه علينا أنْ نتعاون معكم بشكلٍ وثيق وأنْ نتبادل الآراء ونتناقش لكي نعرف أين علينا أنْ نفعل شيئًا، وأين يُجدي التدخـُّل وأين لا. لم أعد مقتنعًا بالقرارات التي تتخذ من جانبٍ واحدٍ أو حتى بتشكيل الرأي من جانبٍ واحدٍ. كما لا أعتقد بأنَّه يمكن لأحِدِنا أنْ يُسيِّر أحواله دون الآخر.
وبينما أخط هذه الرسالة اليوم، الثلاثاء في 26 أبريل/نيسان أشاهد على قناة الجزيرة أخبار درعا السورية. المدينة محاصرةٌ من قِبَلِ جنودٍ سوريين وكأنهم قوة استعمارية، وكأنهم العثمانيون في الحرب العالمية الأولى حين جاء الجيش العربي بقيادة الأمير فيصل ليحرر درعا من السيطرة التركية عليها. وهذه قصة رواها أيضًا لورانس العرب لاحقًا. ولكن اليوم لا وجود لجيشٍ عربيٍ موحدٍ ولا للورنس أيضًا (وربما يكون غياب الأخير بخاصةٍ جيدًا!). وبالرغم من ذلك يبدو لي وكأن حكومات عربية كثيرة تتعامل مع شعوبها كما تتعامل قوةٌ استعماريةٌ (ومساندة معظم هذه الحكومات من الغرب يعزز هذا الاعتقاد). إنَّ ثورتكم هي بمثابة فك ارتباطٍ ثانٍ بالاستعمار decolonization. وأعتقد أنكم اليوم قد ضربتم حقًا المسمار الأخير في نعش السيطرة الأجنبية.
بيد أنِّي لا أريد أن أتحدث في الشأن السياسي فقط. وفي الحقيقة أؤثر الحديث في الأدب أكثر بكثير، ويا لها من مصادفة عجيبة أنْ يصدر كتابك "تاكسي – حواديت المشاوير" باللغة الألمانية تحديدًا في شهر فبراير/شباط! إنه فعلاً كتاب الثورة بامتياز حتى وإن كان قد كـُتب قبل وقوعها. لماذا هو كتاب الثورة؟ لأن كلَّ ألمانيٍ يريد أنْ يعرف سبب إطاحة المصريين برئيسهم الديكتاتور، ما عليِّه سوى أنْ يقرأ كتابك ليفهم كلَّ شيء. فالمرء يفهم من خلاله أكثر مما يفهم من كل التقارير الصحفية والتلفزيونية وما شابه. وبذلك يحقق كتابُك أرقى ما يمكن أن يحققه الأدب، فهو يُفسِّر العالم. يُفسِّره من منظورٍ لم يكُن معروفًا من ذي قبل. ثمة شيءٌ آخر يعجبني فيه، ألا وهو "توسيع" مفهوم الأدب. أقصد أنَّ الأدب في كتابك لا يقتصر ببساطة على الخيال فقط، بل يجمع بين الخيال والتوثيق في آنٍ معًا. كما أنَّه متعدد الأصوات، فليس الكاتب وحده من يتكلم، بل هناك سائقي التاكسي وآخرين. هذا المزج بين الجانبين هو ما يجعل من الكتاب كتابًا رائعًا. ولكن برأي أنَّ قرَّاءً كثرًا وبخاصة النقاد منهم يقعون في خطأ جسيمٍ عندما يقرؤونه على أنه يحتوي فقط مقابلات مع سائقي تاكسي ببساطة. وأنا أرى أنَّه يعكس الكثير من شخصك ومن أفكارك أيضًا. ويمكنِّي أنْ أقول من حكمتك ومن رؤاك السياسية ومن تحليلاتك. وقد سجلتُ ذلك في معرض تناولي لكتابك في جريدة "زوددويتشه تسايتونغ" العدد الصادر في 17 فبراير/شباط. وسوف يمكنك قراءة المقالة باللغة العربية في مجلتي "فكرٌ وفن" في العدد الذي سيصدر في يونيو/حزيران القادم.
يملأني الفضول لتلقي جوابك وأوجه تحياتي القلبية لك إلى القاهرة.
مع مودتي
شتيفان فايدنر
ترجمة: يوسف حجازي
***
القاهرة في 8 مايو 2011
عزيزي شتيفان فايدنر،
لطالما اعتبر الكثير من المصريين خلال العقود الماضية "الغرب" بمثابة عدو له. أعني بالغرب الولايات المتحدة الأمريكية والقوى الأوروبية الاستعمارية كانجلترا وفرنسا ويمكن إضافة ألمانيا لانحيازها غير المشروط وغير العقلاني لدولة إسرائيل. هذا العداء توازى مع العداء الأكثر تأصلا ألا وهو كراهية الشعب للحكومة المصرية. انفصل الشعب منذ نكسة يونيو 1967 عن المشروع السياسي، وبدأ تنامي شعور بعدم الانتماء مع سياسات الانفتاح الاقتصادي التي بدأت في مصر في عام 1974، وبدء عملية النهب المنظم للثروات المصرية والعربية. أصبح الشعب في واد قائظ والحكومة ومعها عصابة من رجال الأعمال في واد آخر، بالطبع واد أكثر رفاهة والتكييفات الأمريكية ترطب جنباته. أظن أيضا أن الشعور بالعداء للغرب كان أحد أسبابه إدراكنا بأن الغرب منغمس في حاله مع نظرة استعلاء للآخر، متناسيا أن التاريخ كالساقية دوّار، يوم أنت صانع للعلم وللثقافة واليوم الآخر أنت مستهلكه.
أؤكد هنا على حديثك يا عزيزي شتيفان أنه – قبل الثورة المصرية - كان هناك بلا شك شعور عام أننا محتلون بالكامل من الولايات المتحدة، وأن الحكومة المصرية هي حكومة عميلة تعمل لصالح الدول الاستعمارية لخدمة مصالحهم المالية والاستراتيجية في المنطقة، وتحصل في مقابل ذلك على المليارات. قام هذا المشروع الأمريكي العربي الأوروبي للنهب والتدمير الكوني بتمويل ودعم مشروع إسلام سياسي عالمي، وضرب المشروع الثوري العلماني العربي (بدءا من منتصف السبعينيات من القرن الماضي ولأسباب لا مجال للحديث عنها الآن ). كان التخطيط ذكيا إلى درجة أن الضربات الموجعة التي تم توجيهها للمشروع الثقافي العلماني العربي قد نجحت في تقويضه إلى حد كبير. هذا المشروع الثقافي العلماني الذي أتحدث عنه كان قد بدأ في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في مصر واستمر قرابة القرن من الزمان.
وقد أدى الموقف الأوروبي الداعم لحكومات النهب والداعم بالتالي لمشروع الأسلمة السياسي إلى التباس في موقف العديد من المثقفين المصريين إزاء الدول الأوربية، فمن ناحية نحن ندرك أن مستقبل البشرية ومستقبل الكرة الأرضية قائم على ضرورة أن نعمل سويا ضد النظم السياسية -المتواطئة حتى قدميها- مع غباء وقصر نظر وطمع الشركات العابرة للقارات، ومن ناحية أخرى نرى قدرة هذه الحكومات على التأثير على الرأي العام بصورة لم يشهد لها العالم مثيلا. ولنا في بيرلسكوني خير شاهد على ما وصل إليه النظام السياسي الديمقراطي من تردي.
قامت الثورات العربية اليوم ليس لأن الكيل قد فاض، ولكن لأن مشروعنا الثقافي قد بدأ يستعيد عافيته وبدأ المواطن يستيقظ تدريجيا داخل كل فرد. تزامن هذا مع شعور عالمي بالخطر المحدق الذي يهدد كوكب الأرض من نفس المشروع الاستعماري، ولكنه هنا ليس نفس الاستعمار الذي استعبد الأفارقة أو أفنى الجنس الهندي الأحمر أو فرض الديانة الكاثوليكية على الشعوب "المتخلفة"، ولكنه استعمار استهدف القضاء على الجنس البشري أجمعه بتدميره الكوكب الذي نعيش فيه. ماذا علينا أن نفعل؟ أظن أن علينا أن نعمل على إعلاء قيم العقلانية والرشادة، القيم الثقافية والعلمية، وأثناء قيامنا بهذه المهمة علينا أن نلقي الضوء على كل الترهات "الثقافية" التي عملت هى الأخرى كالإعلام في دعم أصحاب المال، وذلك خلال عملية نقد ذاتي حقيقي.
مع الثورات العربية أصبحت أوروبا صديقة والعالم كله أصدقاء لفتح صفحة جديدة في تاريخ الإنسان نسمو فيها عن المرحلة الكئيبة – وهي مرحلة استنزاف الكوكب، ومرحلة استنزاف ثرواتنا العربية - ونحن نرفع أقدامنا من أرض هذه المرحلة الموحلة لنضعها سويا في أرض جديدة.
كتبت يا عزيزي شتيفان فايدنر في رسالتك عن هؤلاء الذين يدافعون عما يسمى بالقيم الغربية من حريةٍ وعدالةٍ وتضامنٍ. وأظن أنني أود أن أناقشك في رسالتي هذه: هل الحرية والعدالة والتضامن والديمقراطية والليبرالية هي قيم غربية أو أوربية من وجهة نظرك؟ هل الرواية هو شكل أوربي للكتابة الابداعية؟ أحب أن أعرف رأيك؟ أظن أنا أنها ليست كذلك. لأنه من الصعب بمكان أن أمسك بداية خيط فكرة، أو ميلاد مبدأ. فالحوار بين البشر بدأ منذ الأزل. كيف يمكنني الحديث عن التضامن دون الرجوع أحيانا إلى مصر القديمة أو إلى كونفوشيوس أو إلى بابل أو غيرها من الحضارات؟ كيف يمكنني الحديث عن شكل الرواية دون النظر في كل النصوص النثرية التي كتبها الانسان؟ كيف يمكننا الحديث عن الديمقراطية دون أن نسير وراء خيط طويل من نظم سياسية وأفكار ومبادئ وفلاسفة طرحوا أفكارهم منذ آلاف الأعوام. فأنت ولا شك إفريقيا منذ مليون عام وتأثرت ولا شك بكل ما أنتجته الحضارة العربية الإسلامية من أفكار لأنه لولاها لما كانت أوربا، ولولا الإغريق ما كانت الحضارة الإسلامية، ولولا المصريون ما كان الإغريق. وأنا ربما كنت ألمانيا منذ أربعمائة عام. أظن أننا لابد من أن نعيد التفكير في هذه المصطلحات. ومن ضمنها مصطلح الشرق الأوسط الذي لا أعرف له معنى ولابد من إلغاء استعماله.
أما عن سؤالك المباشر لي: ماذا ننتظر نحن المصريين من الغرب؟ فإجابتي بسيطة. ننتظر تعاونا حقيقيا بينكم وبين المجتمع المدني المصري الذي يعافر لنشر الثقافة وأمامه تقف الحكومات العربية العميلة المرتعدة من قيام ثورات في بلادها تطيح بها، تنفق الأموال الطائلة للقضاء على أحلامنا البسيطة والقضاء على الثقافة المصرية ونشر أفكار تنتمي لعصور ما قبل التاريخ. نحن هنا نقوم بدورنا وأظن أننا اليوم جميعا يجب أن نتعاون لفتح هذه الصفحة الجديدة.
لك مني كل المودة.
خالد الخميسي
***
خالد الخميسي: ولد في القاهرة عام 1962 ودرس العلوم السياسية في جامعة القاهرة والسوربون العريقة. عمل لدى صحف مصرية متنوعة ورسم في رواية "تاكسي – حواديت المشاوير" ملامح المشهد الداخلي المصري الذي أدى إلى الثورة على نظام مبارك.
شتيفان فايدنر: من مواليد عام 1967، درس علوم اللغة الألمانية والفلسفة والعلوم الإسلامية في غوتنغن وبيركلي ودمشق. يعمل كاتبا ومترجما وناقدا أدبيا، كما يرأس هيئة تحرير مجلة "فكر وفن" التي تصدر عن معهد غوته الألماني.
حقوق النشر: قنطرة 2011
مراجعة: هشام العدم
كولونيا، 25/06/2011
عزيزي خالد،
بودي بالطبع أن أرسل لك شمسيتي بكل سرور، لكنني عدت للأسف ثانية إلى مدينة كولونيا، حيث تهطل الأمطار غزيرة، ما يعني أنني بأمسّ الحاجة للشمسية مثلك تمامًا ولكن لغاية مغايرة. ولو كان بوسعي لأرسلت لك الغيوم الماطرة نفسها، الأمر الذي من شأنه أن يفيدك ويفيدني أكثر من أية شمسية. لكن انتبه: ربما كنتم لا تعلمون بعد، إلا أن الحر في بلدكم ثروة ثمينة! نحن، بل اقتصادنا بكامله يتطلع إلى شمسكم، وستكون في المستقبل القريب مطلوبة تمامًا كالنفط العربي.
ألا تصدقني؟ الدليل الأول على ذلك هم السياح المتعطشين للشمس، الذين يأتون إلى بلدكم للاستمتاع بالشمس التي تشكو منها؛ والدليل الثاني هو وزير المالية الألماني فولفغانغ شويبله، المنشغل حاليًا للغاية، لأنه مضطر لحماية اليورو من اليونانيين الذين تعاملوا مع اليورو بإسراف شديد، وها هم اليوم مضطرون للتقنين، وعليهم في الوقت ذاته تنشيط اقتصادهم.
إن أفضل وسيلة لإنقاذ اليونانيين تكمن في شراء شمسهم بحسب رؤية شويبله. ومن شأن هذا أن يكون شكلا من أشكال التضامن بين الدول الأوروبية أيضًا. فشمس اليورو اليونانية هي بطبيعة الحال أغلى بكثير من شمس الجنيهات المصرية، وخاصة في ظل الركود الاقتصادي الحالي الحاصل لديكم أيضًا. ومع ذلك، لا يتحدث شويبله سوى عن الشمس اليونانية – إنها حالة صارخة من المركزية الأوروبية.
ولكي تصبح المسألة مفهومة، لا بد لي من أن أشرح لك سبب احتياجنا للشموس الجنوبية. هل سمعتم بالأنباء؟ لقد "تركنا" الطاقة النووية (أو بالأحرى سنتخلى عنها خلال السنوات العشرة المقبلة!) يبدو هذا في الصيغة الألمانية وكأن الطاقة النووية قطارًا أو سيارة أجرة، يتركها المرء، لتمضي بعدها بدونه. والأمر هو كذلك تقريبًا. الألمان في الخارج، بينما يتابع كل الآخرين رحلتهم مع الطاقة النووية. لذلك سنحتاج قريبًا إلى كمية تفوق حاجة الآخرين من الطاقة، وهذه الطاقة يفترض أن تأتي من الشمس اليونانية.
هذا رائع أليس كذلك؟ الألمان ينقذون اليونانيين وبالتالي ينقذون اليورو وبالتالي ينقذون كل أوروبا لأنهم يتخلون عن الطاقة النووية. يكاد المرء يعتقد أن تخليهم عن الطاقة النووية هو من أجل أوروبا فقط. بيد أن الحقيقة هي أنهم يتخلون عنها: أولاً لأنهم خائفون وثانيًا لأنهم أذكياء.
يمكنني أن أقول بدون أي تهكـُّم إن الألمان أحسنوا في هذا الفعل، وتصرفوا بشكل عقلاني بكل معنى الكلمة. وفهموا دروس تشرنوبيل وفوكوشيما. ويمكن للمرء أن يهزأ بذلك، كما فعلت أنا هنا، بيد أنها سياسة طوباوية بحق وليست سياسة واقعية قصيرة النظر بحكم التعريف. والمثير للاهتمام أن هذه السياسة شعبوية أيضًا. فالطاقة النووية لا تحظى بشعبية في بلدنا، وهي غير مرغوبة إلى درجة تجعلنا مستعدين لدفع ثمن باهظ في سبيل التخلص منها واستبدالها بأشكال أخرى من الطاقة.
أعتقد أن الأمر يتعلق هنا بإحدى الحالات النادرة التي لا تكون فيها الشعبوية ساذجة، كما لا تطلق السياسة الشعبوية فيها وعودا بفوائد سريعة سطحية (لا بل بضرر على المدى القصير) إنما هي مثالية تتوجه بنظرها نحو المستقبل ونحو الأجيال القادمة، بدلا من مراعاة أفواه الحاضر الجشع.
ربما كانت سياسة كهذه ممكنة فقط في بلد متخم وغني جدًا مثل ألمانيا. بيد أن مجرد إمكانية الجمع بين الشعبوية والعقلانية ربما يمنح الأمل أيضًا للتطورات المستقبلية في مصر الواقعة اليوم في قبضة شعبوية رخيصة وقصيرة النظر للغاية، إن كنت قد فهمتك بشكل صحيح.
عزيزي خالد، طلبت مني أن أرسل لك قصيدة. وها أنا أرسل لك أبياتًا شعرية قصيرة لكنها تتعلق في الواقع شيئا ما بموضوعنا، أي إمدادات الطاقة. أمر لا يُصدق ولكنه كذلك بالفعل: القصيدة المؤثرة تتناول موضوع:
فحم
كنا نرزح في البدء تحت جبال شاهقة
آلاف السنين
مائة ألف سنة لم نستحق فيها كلمة واحدة
لكنهم بعد ذلك بحثوا عن دفئنا
القصيدة للشاعر فاضل حسني داغلارجا (1914-2008)، الأستاذ الكبير للشعر التركي الحديث (والترجمة الألمانية الجميلة لنوفل جومارت). القصيدة قصيرة لكنها تقول الكثير. فنحن جميعًا هذا الفحم: الشعراء المنسيون الذين سوف يُكتشفوا يومًا ما، والشعوب المضطهدة التي تحرر نفسها في مرحلة ما، والمثقفون الذين لا يود أحد الإصغاء لهم الآن أو الذين لم يشأ أن يصغي لهم أحد في وقت سابق، عندما كانوا يحذرون من الطاقة النووية، أما اليوم فقد أصبحت أفكارهم فجأة رائجة ومحبوبة...
على كل الأحوال تمنح القصيدة المواساة، وهي نفسها الفحم الذي تتحدث عنه: يمكن للمرء أن يتدفأ بها، وأرجو أن تعجبك بالرغم من وضعك الراهن، الذي تحتاج فيه إلى جهاز تكييف هواء بدلا من حر إضافي.
هكذا نعود إلى البداية وإلى الطقس. هناك الكثير مما كنت أود كتابته لك، لكني أخشى أن يتهمني قراؤنا وقارئاتنا بالثرثرة، وأفضل أن أنتظر جوابك.
مع تحياتي الحارة
شتيفان
ترجمة يوسف حجازي