المعارضات القوية هي شرط استقرار الدول العربية
"الاستثمار في الاستقرار" هو عنوان البيان الختامي لأول قمة مشتركة بين الجامعة العربية والاتِّحاد الأوروبي، والتي انعقدت في آخر أسبوع من شهر شباط / فبراير 2019، في مدينة شرم الشيخ المصرية. يعتبر الاستقرار منذ أعوام الهدف الرئيسي للمجتمع الدولي في شمال أفريقيا - وذلك أيضًا بسبب القلق بشأن الهجرة والإرهاب والدول المنهارة على أبواب أوروبا.
وهكذا يعتبر الاستقرار محور السياسة التنموية والتعاون في قطاع الأمن - في حين غالبًا ما يتم السكوت دبلوماسيًا عن انتهاكات حقوق الإنسان. تخضع هذه السياسة لسوء فهم أساسي لما يعنيه الاستقرار في شمال أفريقيا - وتخاطر من خلال ذلك في المساهمة الفعَّالة في زعزعة استقرار المنطقة.
من المُسلـَّم به في أوروبا أنَّ منطقة شمال أفريقيا مستقرة طالما أنَّ دولها تنجح في الحفاظ على الوضع الراهن. غير أنَّ هذه المنطقة تتأثر بالتغيُّرات الديموغرافية والاقتصادية الواسعة النطاق، حيث تنهار العقود الاجتماعية القديمة بين الحكَّام والشعوب، وتختفي القاعدة التقليدية الخاصة بالنخب الاستبدادية. وفي هذا الصدد تُعتَبر الحركات الاحتجاجية في الأشهر الأخيرة من أعراض هذه المشكلات الهيكلية.
ولذلك فإنَّ الاستقرار في شمال أفريقيا لا يمكن أن يعني في هذه الأوقات أن يتم الحفاظ على الوضع الراهن بأي ثمن، بل إنَّ الاستقرار يجب أن يعني تَمَتُّع المنطقة بمؤسَّسات تثير هذه التغيُّرات وتستطيع التفاوض. ومن أجل ذلك لا تحتاج المنطقة في المقام الأوَّل إلى دول وحكومات قوية، بل تحتاج إلى معارضة قوية.
الدولة بحاجة إلى معارضة
وفي هذا السياق يقدِّم المغرب مثالًا واضحًا. لقد سوَّقت المملكة المغربية نفسها طيلة أعوام كشريك قوي، كجزيرة استقرار بين دول جوار مضطربة.
بينما تعرَّضت داخليًا كلُّ معارضة تُشَكِّك في سلطة القصر للقمع أو الأسر. صحيح أنَّ هذه كانت استراتيجيةً فعَّالةً لمواجهة حركات المعارضة، لكن ليس لمواجهة المشكلات التي تعزل الشعب المغربي وبشكل متزايد عن حكومته: الفساد وعنف الشرطة وعدم المساواة الاجتماعية.
وهكذا فقد وقعت مرارًا وتكرارًا في الأشهر الأخيرة احتجاجاتٌ في المناطق الضعيفة اقتصاديًا مثل جبال الريف أو جرادة. وانتشرت في وسائل التواصل الاجتماعي حملات من أجل المزيد من حقوق المرأة. وكان دويُ الهتافات ضدَّ القمع الذي تمارسه الدولة مسموعًا من الشواطئ وحتى ملاعب كرة القدم المغربية.
انهيار العقود الاجتماعية القديمة بين الحكَّام والشعوب
ونتيجة للقمع فقد ازدادت حركات الاحتجاج في المغرب تبعثُرًا. ويعود سبب ذلك أيضًا إلى تخلي هذه الاحتجاجات بشكل متزايد عن الهياكل القيادية الواضحة، من أجل تجنُّب القمع. وبهذا فإنَّ الدولة المغربية لم يعد لديها عمليًا معارضة يمكنها التفاوض معها.
ومن بين الأمثلة على ذلك المقاطعة المُنَظَّمة في جميع أنحاء البلاد عبر وسائل التواصل الاجتماعي لثلاث شركات يتم اتِّهامها بالفساد والتلاعب بالأسعار. لقد أتاح غيابُ التسلسل الهرمي الواضح المجال لتعبئة واسعة، وذلك لأنَّ اعتقال مُنَظِّمي هذه المقاطعة كان مستحيلًا.
ولكن من ناحية أخرى، كان من المستحيل أيضًا على مُنَظِّمي الاحتجاجات تحديد مطالبهم والتفاوض على إنهاء المقاطعة. وهنا يكمن الخطر الحقيقي الذي يهدِّد استقرار المغرب: ففي حين يجب على وجه السرعة أن يتم التفاوض من جديد على عقد المملكة الاجتماعي، لم يعد يوجد داخل النظام السياسي ممثِّلٌ يمكنه أن يمثِّل بمصداقية المغاربة الذين عزلوا أنفسهم عن النظام.
أمَّا في تونس، التي تعتبر الديمقراطية الوحيدة في شمال أفريقيا، فقد أدَّى التركيز على الاستقرار والتوافق إلى إضعاف المعارضة. لقد قاد البلاد على مدى سنين عديدة ائتلاف كبير كانت تنتمي إليه جميع الأحزاب التونسية تقريبًا.
وهكذا تم تأجيل النقاشات حول المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الجادة في البلاد. وانخفض في هذه الأثناء لدى الشعب التونسي دعمه للحكومة، وكذلك دعمه للديمقراطية التي كان يبدو أنَّها تتمسَّك بالوضع الراهن.
وعندما تفاقم الوضع الاقتصادي، تم تنظيم المقاومة خارج البرلمان في إضرابات عامة وحواجز على الطرق واعتصامات. وفي حين تزداد أعداد التونسيين غير الراضين عن مسار بلدهم، لا يوجد هنا أيضًا ممثِّلٌ سياسي جدير بالمصداقية، يكون قادرًا على المطالبة بالتغييرات وكذلك التفاوض، أو لا توجد بالأحرى معارضةٌ قادرة على تشكيل حكومة.
حركات الاحتجاج دليل على زيادة عدم تحمُّل الوضع الراهن
تدخل منطقة شمال أفريقيا عامًا جديدًا من دون حركات معارضة قوية وجديرة بالمصداقية في عامٍ تحتاجها فيه هذه المنطقة حاجة مُلِحّة. لقد بات من الواضح الآن أنَّ الانتخابات في تونس والجزائر تُخفي احتجاجات محتملة كبيرة. من المعروف أيضًا أنَّ مصر مقبلة على استفتاء على رئاسة السيسي، غير أنَّ الآفاق الاقتصادية في المنطقة مظلمة.
إذا كان المجتمع الدولي مهتمًا بالاستقرار في شمال أفريقيا، فيجب عليه أن يُفكِّر أقل في الدول القوية وأكثر بالفضاءات التي من الممكن أن تنمو فيها معارضة قوية.
أوَّلًا: من المهم لذلك عدم اعتبار حركات الاحتجاج كخطر يهدِّد الوضع الراهن، بل كدليل على ما يجعل الوضع الراهن غير قابل للتحمُّل على نحو متزايد. ولهذا السبب لا يمكن أيضًا اعتبار قمع حركات المعارضة من قِبَل الحكومات المحلية ثمنًا "محزنًا ولكن ضروريًا" من أجل الاستقرار. لأنَّه يضمن عدم وجود شركاء من أجل التفاوض على التغييرات السلمية ويؤدِّي بالتالي في الواقع إلى زعزعة الاستقرار. أمَّا السكوت على وضع حقوق الإنسان داخل المنطقة لا يعتبر أمرًا غير أخلاقي وحسب، بل هو أيضًا أمر خالٍ من الحكمة.
ثانيًا: لا بدّ من تقييم آثار البرامج الجارية لدعم "الاستقرار" على حركات المعارضة - وخاصة في المجالين الرقمي والأمني.
ثالثًا: بإمكان المجتمع الدولي أن يفعل المزيد ضمن إطار عمله في المنطقة من أجل تعزيز حوار واسع ومتعدِّد الأصوات، من دون نزع الشرعية عن هذه الأصوات من خلال الاقتراب المبالغ فيه. وهذا يعني أيضًا عدم تبنِّي ذلك الخطاب الحكومي الذي يصف حركات المعارضة كحركات عنف أو إرهاب.
لا شيء جديد في هذه الأساليب - ولكن غالبًا ما يتم تصويرها وكأنَّها تتعارض مع هدف الاستقرار الأساسي. والعكس هو الصحيح.
ماكس غالين
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: المعهد الألماني للدراسات الدولية والأمنية / موقع قنطرة 2019
ماكس غالين خبير الاقتصاد السياسي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.