الأردن ... من موطن للعرب إلى ـ"واحة استقرار"ـ
قام الأردن -مثل غيره من البلدان في منطقة الشرق الأوسط- على أنقاض الدولة العثمانية. فبعد هزيمتها إلى جانب ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، أعادت المنطقة تنظيم نفسها. وقد لعبت بريطانيا العظمى دورًا رئيسيًا في ذلك بعد أن ورَّطت نفسها في وُعُودٍ متناقضة لأخوتها في السلاح: إذ تم في اتفاقية سايكس بيكو السرِّية في عام 1916 منح سوريا للفرنسيين كمنطقة نفوذ، بينما وعدت لندن العرب بحقِّهم في تقرير مصيرهم وبدولة مستقلة.
وفي الوقت نفسه، اعترف البريطانيون بالدور القيادي للهاشميين المستقرين في شبه الجزيرة العربية، الذين أثاروا بعد ذلك ثورةً ضدَّ العثمانيين (بقيادة الأمير فيصل وضابط ارتباط بريطاني لامع قُدِّر له أن يُعرف باسم لورنس العرب). وفي وعد بلفور الصادر في عام 1917، تم أخيرًا وعدُ الشعب اليهودي بوطن قومي في فلسطين.
من مكة إلى معان
وبينما كان وزير الدولة البريطاني لشؤون المستعمرات، ونستون تشرشل مشغولًا بالتشاور مع خبرائه ودبلوماسييه في الشرق الأوسط أثناء مؤتمر تم عقده في شهر آذار/مارس 1921 في القاهرة حول كيف يمكن للإمبراطورية البريطانية المُتعثِّرة اقتصاديًا أن تحافظ على أكبر قدر ممكن من النفوذ في المنطقة بأقل تكلفة ممكنة، كان هناك أميرٌ عربي يخلق حقائق في منطقة شرق الأردن.
وأُضيفت هذه المنطقة القليلة السكَّان الواقعة شرق نهر الأردن -والتي كانت لا تزال تسيطر علىها جزئيًا قبائل وعشائر بدوية- إلى انتداب عصبة الأمم المتَّحدة بريطانيا العظمى للوصاية على فلسطين. غير أنَّ البريطانيين أظهروا في البداية القليل من الاهتمام بمنطقة شرق الأردن، التي كانت تتبع المملكة العربية السورية القصيرة العمر 1919-1920.
وبعدما بسطت فرنسا سيطرتها على سوريا وطردت من دمشق الأمير فيصل، الذي كان قد نصَّب نفسه ملكًا هناك، سار أخوه عبد الله في طريقه من شبه الجزيرة العربية ومعه عدة مئات من المقاتلين نحو الشمال من أجل الدفاع هناك عن القضية العربية ومطالبات الهاشميين بالسلطة. ومن بلدة معان الصغيرة -وهي مقر حامية عثمانية تقع على سكة حديد الحجاز في جنوب شرق الأردن- عقد المواثيق والتحالفات مع القبائل المحلية ومع القوميين العرب، الذين هربوا من سوريا وباتوا ينتظرون الأخذ بثأرهم في شرق الأردن.
مصافحة باليد في القدس
في طريق عودته من القاهرة، توقَّف تشرشل في القدس، حيث أبرم صفقة مع عبد الله، يتعيَّن بموجبها على عبد الله التخلي عن طموحاته في سوريا وضمان الهدوء على الحدود بين سوريا وشرق الأردن وفرض سيطرته على المنطقة المحرَّمة الواقعة شرق نهر الأردن، والتي كانت تتزايد فيها الفوضى من وجهة نظر البريطانيين. وذلك مقابل تنصيبه أميرًا على شرق الأردن -في البداية لمدة ستة أشهر بهدف تجريبه- وحصوله من لندن على دعم مالي وعسكري.
وبعد أيَّام قليلة، اجتمع في الحادي عشر من نيسان/أبريل 1921 عبدُ الله مع حكومته الأولى. ومن الجدير بالملاحظة أنَّ هذه الحكومة كان يوجد من بين أعضائها الثمانية عضوٌ واحدٌ فقط من شرق الأردن (بالإضافة إلى الموثوق بهم من شبه الجزيرة العربية وسوريا وفلسطين ولبنان). صحيح أنَّ عبد الله البراغماتي اضطر في اللاحق القريب إلى الخضوع للواقع السياسي، ولكنه لم يتخلَ في ذلك الوقت عن طموحاته القومية العربية.
وعندما انطلق من معان إلى عمّان، عاصمته المستقبلية، ألقى كلمة في محطة القطار قال فيها: "كل البلاد العربية كافة هي بلاد كل عربي". وأطلق بفخر اسم "الفيلق العربي" على وحدة شرطته العسكرية، التي تأسَّست بمساعدة البريطانيين ونشأ منها فيما بعد الجيش الأردني.
دولة هجينة محترفة في البقاء على قيد الحياة
نشأ شرقُ الأردن من خلال تفاعل أربعة عوامل، أثَّرت في تطوُّر هذ البلد ولا يزال لها تأثير حتى يومنا هذا.
أوَّلًا: يعتبر القرار على الأرض في يد القبائل والعشائر المحلية أو بالأحرى في يد زعماء القبائل والعشائر، الذين بالرغم من تقديرهم الحدّ الأدنى من الاستقرار والنظام، ولكنهم يريدون قبل كلِّ شيء الحفاظ على استقلاليتهم.
ثانيًا: كان عبد الله يتمتَّع بشرعية شبه طبيعية لحكمه: فالهاشميون يرجع نسبهم إلى النبي محمد وقد حكموا الحرمين الشريفين في مكة والمدينة منذ مئات السنين (حتى إجبارهم في عام 1925 على التنازل عنهما لآل سعود)، وقادوا الثورة العربية الكبرى خلال الحرب العالمية الأولى.
ثالثًا: لم يكن يجري أي شيء في فترة ما بعد الحرب من دون البريطانيين، الذين سيطروا عسكريًا مع الفرنسيين على الشرق الأوسط وضمنوا تأمين مطامعهم الاستعمارية على مستوًى دولي أيضًا ضمن إطار انتداب عصبة الأمم المتَّحدة.
ويضاف إلى ذلك رابعًا: القوميون العرب، الذين كانوا يرون شرق الأردن جزءًا من كيان عربي مستقل يجب أن يقف في وجه الإمبريالية الفرنسية والبريطانية وكذلك في وجه الصهيونية اليهودية. فقد تحوَّلت قضية فلسطين بسرعة إلى قضية جوهرية في السياسة الأردنية - ومعها أيضًا علاقة الأردن بإسرائيل. وفقط في عام 1988 تخلى الأردن أخيرًا عن مطالبته بالضفة الغربية، التي تربطه بها علاقات تاريخية وثقافية وثيقة.
هيكل الدولة الهجين الخاص هذا الناشئ من هذه الكوكبة التاريخية من عناصر حكم بدوي تقليدي ومركزي حديث واستعماري غير مباشر، ربَّما يكون هو بالذات الذي كان يُسهِّل على هذه البقعة الجغرافية الفقيرة بالموارد -والمحاصرة بقوى إقليمية متنافسة- البقاء على قيد الحياة في وسط فوضى السياسة الشرق أوسطية.
وفي عام 1946، أصبحت إمارة شرق الأردن مملكة وحصلت على استقلالها عن بريطانيا العظمى. وفي حين أطاح الجيش في خمسينيات القرن العشرين بالنظامين الملكيين في مصر والعراق وكان يحدث في سوريا انقلابٌ تلو الآخر، تمكَّن حفيد عبد الله، الملك حسين -الذي حكم الأردن من عام 1952 حتى 1999- من الحفاظ على حكمه، وبدعم من الولايات المتَّحدة الأمريكية أيضًا، التي باتت أهمَّ حليف للأردن بعد انسحاب بريطانيا من الشرق الأوسط.
ماذا بعد المائة عام؟
واليوم، يعيش الشرق الأوسط من جديد مرحلة اضطراب. لقد أظهر بوضوح الربيعُ العربي وموجاتُ الاحتجاجات التي اندلعت مرارًا وتكرارًا خلال العقد الماضي أنَّ أنظمة الحكم المتحجِّرة في المنطقة لا تقدِّم أية آفاق مستقبلية كافية لشعوبها التي تعتبر غالبيتها من جيل الشباب. ومع ذلك فإنَّ المملكة الهاشمية تكاد لم تهتز حتى الآن من هذه الاضطرابات.
نجحت المملكة عبر كلِّ تاريخها الممتد لمائة عام في ترسيخ وجودها كضامن لوحدة الأردن يحظى باعتراف واسع النطاق وفي تحقيق التوازن بين مصالح المجموعات المختلفة. وتزداد أهمية ذلك في بلد مثل الأردن تأثَّر مواطنوه بهويَّات مختلفة، مثلًا هوية سكَّان شرق الأردن القدامى من جهة وهوية اللاجئين الفلسطينيين (خاصة لاجئي النكبة والنكسة في عامي 1948/49 و1967) وأبنائهم من جهة أخرى.
وكذلك أثبت إطار المملكة الحكومي كفاءته في ضمان تعايش الأغلبية المسلمة مع المسيحيين، الذين يشكِّلون حتى اليوم نحو خمسة في المائة من عدد السكَّان، ومع غيرهم من الأقليات العرقية الأصغر مثل الشركس. زد على ذلك أنَّ الأردن لديه تقليد طويل في إشراك الأصوات الناقدة. وهكذا فقد كان بعض الوزراء اليوم ناشطين في المعارضة خلال فترة دراستهم.
وأخيرًا، فإنَّ خطاب التحديث -الذي ينادي به الملك عبد الله الثاني (ابن حفيد مؤسِّس الدولة) منذ توليه منصبه في عام 1999- قد أثار الآمال في إجراء إصلاحات ديمقراطية - خطوة بخطوة ومن دون العنف والفوضى التي يراها الأردنيون لدى جاريهم العراق وسوريا. وفي المقابل تم في الأردن تحميل المسؤولية عن الركود في المقام الأوَّل للحكومات، التي كان يستبدلها الملك بشكل منتظم.
الحاجة إلى إصلاحات اقتصادية وسياسية
ولكن حتى الأردن يجب أن يتحرَّك. صحيح أنَّ الإصلاحات الاقتصادية الليبرالية وعمليات الخصخصة جلبت منذ العقد الأوَّل من الألفية الثانية استثمارات أجنبية إلى الأردن وأعادت تنشيط اقتصاده، ولكن ازدادت عدم المساواة الاجتماعية ولم تتمكَّن سوق العمل من مواكبة النمو السكَّاني.
وبحسب الأرقام الرسمية فإنَّ ربع الأردنيين اليوم عاطلون عن العمل. فقد أدَّت أزمة فيروس كورونا إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية. وانهارت السياحة التي تطوَّرت جيِّدًا وشكَّلت في عام 2019 خمس الناتج المحلي الإجمالي تقريبًا. وعمَّال المياومة الكثيرون وأصحاب الأعمال الصغيرة هم من يعانون بالذات من الإغلاق الجزئي المفروض من قِبَل الحكومة لمكافحة الجائحة.
يُوظِّف جهاز الدولة ربع مجموع العاملين الأردنيين، وفيه تضخُّم. يعتمد الأردن على المساعدات الدولية. يتدفق من الولايات المتَّحدة الأمريكية وحدها إلى الأردن في كلِّ عام أكثر من مليار دولار أمريكي، وقد بات الأردن من أكبر البلدان المتلقية لمساعدات التعاون التنموي الألماني أيضًا. ولكن إلى متى ستتدفَّق هذه الأموال في ظلّ الاضطرابات العالمية الناجمة عن أزمة كورونا؟
توجد حاجة إلى التجديد في السياسة أيضًا. ومن الصحيح أنَّ الأردن حقَّق إثر الربيع العربي تقدُّمًا صغيرًا في عملية الدقرطة: إذ تم إدخال مؤسَّسات جديدة مثل المحكمة الدستورية وسلطة انتخابية مستقلة.
ولكن لقد ضاقت في الآونة الأخيرة من جديد مجالات المشاركة السياسية والتعبير عن الرأي في البلاد. وفي العام الماضي 2020، تم حلّ نقابة المعلمين بعد أن تظاهرت في إضرابات واحتجاجات من أجل زيادة الأجور. وتم انتقاد الانتخابات البرلمانية في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2020 حتى من قِبَل المؤسَّسات التابعة للدولة مثل المركز الوطني لحقوق الإنسان، باعتبارها غير عادلة بما فيه الكفاية.
وأفادت بعض الأحزاب بأنَّ السلطات الأمنية مارست قبل الانتخابات ضغوطًا على المرشَّحين لجعلهم لا يخوضون الانتخابات. وقد دعا الملك شخصيًا في رسالة مفتوحة في شهر شباط/فبراير 2021 السلطات الأمنية إلى التركيز في المستقبل على مهامها الأساسية ودعا إلى إصلاح قانون الانتخابات والأحزاب السياسية.
وفي بداية شهر نيسان/أبريل 2021، نشر الديوان الملكي والحكومة معلومات حول مؤامرة استهدفت "أمن واستقرار الأردن" تم القضاء عليها في مهدها. واعتُقِل أكثرُ من عشرة أشخاص، بالإضافة إلى وضع الأمير حمزة -وهو عضو بارز في الأسرة المالكة- تحت الإقامة الجبرية. لا تزال خلفيات هذا الحادث مثل ذي قبل غير واضحة التفاصيل، ولكنه يُبيِّن اضطراب أعصاب النخبة الحاكمة وكذلك التوترَ في بلد يرتفع فيه باستمرار صوتُ الشكاوى من قلة الآفاق المستقبلية الاقتصادية والفساد وسوء إدارة الدولة.
البحث عن أُفق تنموي
ألقت أخبار ثورة القصر الفاشلة بظلالها على الاحتفال بالذكرى المئوية، التي كانت تشغل في المقام الأوَّل الديوان الملكي وكان من المفترض أن تجعل الأردنيين يتفاءلون بالمستقبل. تزيَّنت طوال العام مفترقاتُ الطرق والمباني العامة في جميع أنحاء المملكة بشعار تم تصميمه خصِّيصًا من أجل هذه المناسبة مكتوب أسفله "وتستمر المسيرة". وكذلك تم الإعلان عن الحادي عشر من شهر نيسان/أبريل 2021 كعطلة وطنية إحياءً للذكرى المئوية لتولى عبد الله الأوَّل رسميًا إدارة ما كان يُعرف حينها بإمارة شرق الأردن.
غير أنَّ هذا كله لا يُمثِّل في الواقع رؤيةً للمائة عام الثانية. إنَّ اعتزاز الأردن وفخره بعملية البناء، التي قامت بها أجيالٌ من الأردنيات والأردنيين وكذلك الأسرة الهاشمية في وسط منطقة أنهكتها الأزمات، عملٌ مبرَّرٌ ومشروع. ولكنه مع ذلك ليس بديلًا لنقاش صريح وجدير بالمصداقية حول التحدِّيات الراهنة في الأردن وتطوُّره المستقبلي. والأردن يحتاج إلى مجال من أجل تحقيق ذلك.
إدموند راتكا
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2021
تولى الدكتور إدموند راتكا في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2020 منصبه كرئيس لمكتب مؤسسة كونراد أديناور في الخارج - الأردن في عمان. وكان يعمل قبل ذلك مستشارًا للشرق الأوسط في مقر المؤسسة الرئيسي في برلين وفي مكتب الخارج في تونس. وقبل انضمامه إلى مؤسسة كونراد أدناور في عام 2014، كان الباحث السياسي إدموند راتكا باحثًا ومُنسِّقَ مشاريع بألمانيا في جامعة باساو ومركز الأبحاث السياسية التطبيقية بجامعة لودفيغ ماكسيميليان في مدينة ميونِخ.
...................
طالع/ ــي أيضا
الأردن في مئة عام - من ثورة الشريف حسين 1916 العربية الكبرى إلى أزمة 2021 في العائلة الهاشمية
جيش الأردن طلب من الأمير حمزة التوقف عن تحركات بعد اعتقالات
فهل تعرض الأردن لمحاولة انقلابية؟
...................
[embed:render:embedded:node:31472]