هروب من جحيم مخيم اليرموك الدمشقي إلى أنفاق غزة المحاصرة

بلغ عدد الفلسطينيين القتلى في الحرب السورية نحو 1400 على الأقل، قبل نحو شهر من انتهاء عام 2013، وتجاوز عدد اللاجئين الفلسطينيين المضطرين إلى الفرار منها سبعين ألف لاجئ. ولكنهم لم يجدوا ترحيباً إلا في قطاع غزة من قبل حركة حماس. إنغه غونتر تسلط الضوء، لموقع قنطرة، على وضع اللاجئين الفلسطينيين الذين أجبرتهم الحرب على الهروب من سوريا في رحلات لجوء شاقة.

الكاتبة ، الكاتب: إنجي غونتر

الأطفال في سن الثانية عشرة من العمر مثل الصبي عدي أبو حسن يحبون مغامرة السفر، ولكن يختلف الأمر حين يسيطر على المسافرين وهم في طريقهم إلى المطار الخوف من احتمال سقوط قنبلة أو قذيفة على رؤوسهم - تمامًا مثلما الحال في دمشق.

لم تكن كذلك المرحلة الأخيرة من رحلة هربهم من الحرب السورية مناسبة لذوي القلوب الضعيفة. فبعد هبوطهم في القاهرة واجتيازهم الرحلة المتعبة في سيارة أجرة متهالكة عبر شبه جزيرة سيناء - كان لا بد لكلّ من عدي وشقيقه وكذلك عمَّتهم جمع كلّ شجاعتهم من جديد من أجل الزحف عبر نفق يبلغ طوله عدة كيلومترات إلى قطاع غزة. ولكن كيف كان ذلك؟ يهمس الصبي الخجول النحيل عدي: "لقد كان مخيفًا"، ثم يلوذ بالصمت.

هذه عمَّتُه آمنة التي تروي لنا ما عايشه عدي وهو ما يزال صغيرًا في أعوامه الأولى: فقدانه والده الذي توفي إثر نوبة قلبية، ووداعه أمّه التي تركته هو وشقيقه أحمد ابن الأربعة أعوام، لتبدأ حياة جديدة مع رجل آخر. وأخيرًا خبر وفاة جدّته في هجوم بالقنابل اليدوية في مخيّم اليرموك، أكبر مخيّم للاجئين الفلسطينيين في سوريا.

وجميعهم كبروا وترعرعوا في مخيّم اليرموك: عدي وأحمد بالإضافة إلى عمَّتهما آمنة وأقاربهم الآخرين الذين يتقاسمون الآن شقة رخيصة موجودة ضمن عمارة غير كاملة الإنجاز تقع في مدينة رفح على الطرف الجنوبي من قطاع غزة. لكن مخيّم اليرموك أصبح في يومنا هذا خرابًا وأكوامًا من الحطام.

ومنذ أن دارت في هذا المخيَّم في الشتاء الماضي اشتباكات ومعارك عنيفة بين الثوّار السوريين، الذين تحصّنوا في المخيّم وبين قوّات نظام الأسد، هرب من المخيّم معظم سكّانه الذين يبلغ عددهم نحو مئة وستين ألف نسمة.

مخيّم اليرموك - ملجأ لأفقر الفقراء

لم يبقَ في مخيّم اليرموك سوى أفقر الفقراء. كما أنَّ الأوضاع في المخيّمات الثمانية الأخرى الموجودة في سوريا ليست أفضل مما عليه الحال في مخيّم اليرموك، إذ أصبحت تقريبًا جميع المخيّمات الفلسطينية في سوريا مناطق حرب.

كان عدد الفلسطينيين المسجّلين في سوريا نصف مليون لاجئ فلسطيني. وتعتقد منظمة الأونروا المختصة بتقديم المساعدات لهم أنَّ نصفهم لم يعد لديهم مكان يؤويهم. ومن المفترض أنَّ عدد الفلسطينيين الذين هربوا من سوريا قد بلغ في هذه الأثناء نحو سبعين ألف فلسطيني. وعلى خلاف لاجئي الحرب السوريين لا يجد اللاجئون الفلسطينيون أي ترحيب في أي مكان آخر سوى في قطاع غزة.

لاجئون فلسطينيون في مخيم اليرموك، دمشق.  Foto: Getty Images/AFP
مخيّم مستهدف من جميع الأطرف - بات مخيّم اليرموك في يومنا هذا أكوامًا من الخراب والحطام. ومنذ أن دارت في مخيّم اليرموك في الشتاء الماضي اشتباكات ومعارك عنيفة بين الثوّار السوريين الذين تحصّنوا في المخيم وبين قوّات نظام الأسد هرب من المخيّم معظم سكّانه الذين يبلغ عددهم نحو مئة وستين ألف نسمة.

وعلى أية حال فإنَّ حركة حماس تمد لهم ذراعيها بشكل ملفت للنظر. وقد قال نائب رئيسها غازي حمد في تصريح له: "يجب أن يشعر إخواننا أنَّهم في وطنهم معنا". وهكذا عاد الطفل عدي والأطفال اللاجئون الآخرون أيضًا إلى المدرسة.

"الناس هنا لطفاء حقًا، صحيح أنَّ لديهم القليل ولكنهم يقدّمون لنا المساعدة بقدر استطاعتهم"، مثلما تقول كميليا أبو شكيم التي يبلغ عمرها اثنين وخمسين عامًا وقد هربت مع أطفالها الستة إلى قطاع غزة في صيف عام 2012 حين بدأت المعارك في مخيَّم اليرموك.

في حالتها كان ذلك سهلاً - حيث سمح لها المصريون اجتياز الحدود إلى رفح من دون صعوبات وتدقيق. إذ يفضّل المعنيون في أي مكان إبعاد أسر اللاجئين والتخلّص منهم.

كانت غزة هدفهم لأنَّ وكالة غوث اللاجئين الأونروا تعمل في غزة على تقديم المساعدة للاجئين الفلسطينيين - تمامًا مثلما الحال في الأردن ولبنان وسوريا. وقد قدّمت لهم الأونروا الفراش والبطانيات وأواني الطبخ بالإضافة إلى مبلغ 125 دولار بدل سكن شهري. وهنا يتم توفير أهم الضروريات لهم.

ولكن على الرغم من ذلك فإنَّ كميليا أبو شكيم تواجه صعوبات في التكيّف مع الحياة هنا في رفح. فهي امرأة مطلقة متحرّرة كانت تعمل صحفية في سوريا وتحبّ التعبير عن رأيها - على عكس النساء الإسلاميات.

غزة المحطة الأخيرة في رحلة اللجوء

وهي لا تريد في الواقع الشكوى والتذمُّر. فقد حصلت في آخر المطاف من حركة حماس على فرصة عمل في مستشفى وراتب شهري يبلغ 180 يورو. وتقول كميليا: "لكن كلّ شيء غريب هنا. وحتى الطعام". بيد أنَّها لم تكن قريبة إلى هذا الحدّ من وطنها القديم. حيث لا تبعد من هنا القرية التي هرب منها والداها في سنة 1948 - سنة استقلال دولة إسرائيل والنكبة الفلسطينية - سوى بضعة كيلومترات؛ هناك في صحراء النقب التي تقع على الحدود مع قطاع غزة. تتنهّد كميليا وتقول: "الآن باتت غزة محطتنا الأخيرة".

يبلغ عدد الفلسطينيين الذين لجأوا من سوريا إلى قطاع غزة المكتظ بالسكّان والذي يعاني من نقص في الرعاية والخدمات نحو ألف فلسطيني ويعتبر وضعهم على الرغم من ذلك أفضل من وضع إخوتهم الذين يتقاسمون معهم قدرهم هذا في أماكن أخرى. وفي المقابل لا يعرف الكثيرون من الفلسطينيين الذين تمكّنوا من الهرب من الحرب السورية إلى لبنان ويبلغ عددهم نحو خمسين ألف نسمة إلى أين سيذهبون.

وبحسب تقارير موظّفي وكالة الأونروا يسود في لبنان في مخيَّمي اللاجئين صبرا وشاتيلا المشهورين وضع حرج وضيق كارثي في مساحة السكن، بحيث أنَّ اللاجئين يضطرون إلى التناوب على أماكن النوم. كذلك وصلت أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في الأردن إلى أدنى مستوى أحوال اللاجئين الفلسطينيين الذين هربوا من الحرب في سوريا.

كاميليا أبو شكيم مع عبد الله وهو أحد أولادها الستة الذين تتراوح أعمارهم بين العاشرة والثانية والعشرين سنة. Foto: Inge Günther
تقول كميليا أبو شكيم (على اليسار) التي هربت مع أطفالها في عام 2012 من مخيّم اليرموك في دمشق بسبب احتدام المعارك هناك بين الثوّار السوريين وقوّات الأسد: "عندما تنتهي الحرب في سوريا لن أبقى يومًا آخر في غزة".

إذ لا يسمح الأردن للفلسطينيين السكن حتى في مخيّم الزعتري الذي يوجد فيه حاليًا مئة وعشرون ألف لاجئ سوري، بل يتم وضعهم في مخيّمات خاصة ​​منفصلة يفرض عليها قيودًا أكثر تشدّدًا. وكذلك يُقال إنَّ المملكة الأردنية الهاشمية قد أبعدت الكثيرين من اللاجئين الفلسطينيين إلى سوريا خوفًا على "توازنها الديموغرافي".

بعيدًا عن واقع اللاجئين

وفي ظل هذا الواقع يتساءل المرء: لماذا لا تفعل قيادة السلطة الفلسطينية المعتدلة في رام الله أي شيء من أجل إنقاذهم؟ تدّعي هذه السلطة على الأقل استعدادها لإيوائهم. وفي هذا الصدد يقول محمد أشتية، وهو أحد المفاوضين فى عملية السلام مع إسرائيل، إنَّهم طلبوا من إسرائيل السماح بإدخال الفلسطينيين القادمين من سوريا إلى الضفة الغربية عبر جسر اللنبي (جسر الملك حسين). ولكن الإسرائيليين لا يريدون السماح لهؤلاء الناس بدخول الضفة الغربية إلاّ بشرط تخليهم عن وضعهم كلاجئين. ويضيف محمد أشتية: "نحن نرفض هذا الشرط رفضًا تامًا".

يتعلّق إصرار الإسرائيليين على تخلي اللاجئين الفلسطينيين القادمين من سوريا عن وضع اللاجئين بما يسمى بحقّ العودة الذي يعدّ من أكثر القضايا الشائكة في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. الجميع يعلمون أنَّ الحل سيكون براغماتيًا فقط ولن تكون هناك عودة جماعية إلى إسرائيل، ولكن لا أحد يجرؤ على المساس في مبدأ حقّ العودة ولا حتى بالنظر إلى الخطر الذي يهدّد حياة اللاجئين.

وفي هذه الأثناء بلغ عدد الفلسطينيين الذين قتلوا في الحرب السورية حتى الآن ألفًا وثلاثمائة وسبعة وسبعين فلسطينيًا، وعلاوة على ذلك فقد مات العشرات من الفلسطينيين غرقًا أثناء محاولتهم عبور البحر من ليبيا إلى مالطا.

وكذلك يقول اللاجئون الذين وصلوا من سوريا إلى قطاع غزة إنَّ أي فلسطيني لن يقبل بإذعان السلطة في رام الله ببساطة لمطالب الإسرائيليين والتخلي عن حقّ العودة، على الرغم من أنَّ الكثيرين من هؤلاء اللاجئين سوف يستفيدون من فتح حدود الضفة الغربية لهم. ولكن مع ذلك يتجاهل هذا الجدل المشحون أيديولوجيًا رغبات الأفراد في الحياة.

وفي هذا السياق تقول عمّة الطفل عدي، آمنة أبو حسن: "لا نريد حين تنتهي الحرب السورية وعندما أتمكّن من جمع المال الضروري لشراء تذاكر السفر سوى شيء واحد فقط؛ أي العودة إلى سوريا. هناك حيث أبصرت أعيننا النور وحيث نشعر أنَّنا في وطننا". ومن ناحيتها تعبّر كميليا أبو شكيم المفعمة بروح الكفاح عن رغبتها وبصيغة متشدّدة أكثر: "في هذه الحالة وعندما تنتهي الحرب في سوريا لن أبقى يومًا آخر في غزة".

 

 

إنغه غونتر

ترجمة: رائد الباش

تحرير: علي المخلافي

حقوق النشر: قنطرة 2013