تحولات نوعية في فهم الآيات القرآنية
تعتبر مادة الفقه وأصول الدين الإسلامي في الجامعات الألمانية مادة جديدة لا تزال في مهدها، يتم تدريسها منذ ما لا يزيد عن أربعة أعوام فقط. فمنذ عام 2010 تم تأسيس كراسي أساتذة جامعيين متخصصين في دراسات الفقه وأصول الدين الإسلامي في خمس جامعات في ألمانيا. من خلال المؤتمر الدولي المنعقد في مدينة فرانكفورت تحت عنوان "آفاق الدين الإسلامي..الفقه والأصول والعقيدة"، تم في بداية شهر أيلول/ سبتمبر 2014 عرض هذه المادة الجديدة على الرأي العام الألماني.
تناقش في هذا المؤتمر مائة وخمسة وسبعون عالمًا من أوروبا والولايات المتَّحدة الأمريكية والعالم العربي وتركيا وجنوب أفريقيا حول إيجاد طرق جديدة لتفسير القرآن، وحول الفقه السياسي والمقاربات النسوية، وكذلك أيضًا حول مسائل الأخلاقيات البيولوجية وتأهيل مدرّسي الديانة الإسلامية.
كان من بين المشاركين في هذا المؤتمر باحثون من أبرز المدافعين المعاصرين عن الإسلام الإصلاحي مثل الإيراني عبد الكريم سروش وكذلك عالم الدين ولاهوت التحرير فريد إسحق من جنوب أفريقيا. المراد من خلال هذا المؤتمر "توثيق طيف ومدى وأهمية الفقه وأصول الدين الإسلامي باعتباره فرعًا من فروع العلم"، كما يقول بكيم أغاي، المدير التنفيذي لمعهد الثقافة والدين الإسلامي في جامعة غوته في مدينة فرانكفورت الألمانية.
لقد أصبح المسلمون أخيرًا جزءًا من المشهد الأكاديمي الألماني. ولكن مع ذلك فإنَّ هذا الاختصاص العلمي الجديد بات مهدّدًا مرة أخرى بخطر "انهيار موضوعه"، بحسب تعبير الباحث المتخصص في الدراسات الإسلامية والمقيم في مدينة برن السويرية، البروفسور راينهارد شولتسه. ذكر البروفسور راينهارد شولتسه في كلمته الافتتاحية أنَّ الأحداث الأخيرة في الشرق الأوسط والأعمال الوحشية المقترفة من قبل متطرّفي تنظيم الدولة الإسلامية أظهرت وجود "تفكُّك في الإسلام" تزداد سرعته بنسبة مخيفة.
وأضاف أنَّ مجتمعات الشرق الأوسط تمر في تحوّل مرحلي، وأنَّ مجال ممارسة الإسلام ممارسة تقليدية مع الإجماع على قيم مشتركة بات يتقلص بشكل ملحوظ. وبحسب تعبيره ينشأ على الهوامش من ناحية كيان باطني صرف، منغمس في النزعة الاستهلاكية، مثلما هي الحال على سبيل المثال في دول الخليج.
وعلى الجانب الآخر تقف بحسب قوله "الجماعات الإسلاموية المتطرّفة" من السلفيين وحتى تنظيم الدولة الإسلامية - هذه الجماعات التي احتلت مجالاً واسعًا، حتى أنَّها تجاوزت بمعنى الكلمة هذه المجتمعات. فكيف يمكن للفقه وأصول الدين الإسلامي مواجهة ذلك؟
مفكرو الإسلام المنفيون
وحين استحضر عالم الدين الإصلاحي الإيراني عبد الكريم سروش تنوّع التفسيرات والآراء في الإسلام، بدا ذلك استحضارًا شبه يائس. عبد الكريم سروش، المولود في عام 1945 في طهران والذي يعدّ من أبرز المفكرين المسلمين المعاصرين، يفهم الإسلام على أنَّه "سلسلة من التفسيرات" الشبيهة بسيل من الآراء أكثر من شبهها بمجموعة أساسية ثابتة مكوّنة من حقائق عقائدية محدّدة الملامح. وبفضل تمييزه بين الدين بحدّ ذاته والمعرفة الدينية التي لا يمكنها أبدًا أن تستوعب الحقيقة كاملة، يُعتبر عبد الكريم سروش ناقدًا مهمًا للإسلام المُسيَّس.
غير أنَّ مثال عبد الكريم سروش يظهر أيضًا مدى محدودية تأثير المفكرين الإصلاحيين المسلمين في إيران وفي العالم العربي حاليًا. يعيش هذا المفكّر الإيراني منذ عام 2000 في المنفى، وقد عمل في التدريس لدى بعض الجامعات في كلّ من الولايات المتّحدة الأمريكية وألمانيا. لم يعد يدور اليوم في إيران أي نقاش تقريبًا حول انتقاده لاحتكار رجال الدين الشيعة للدين، في حين أنَّه لا يلقى في أوروبا أي صدى لأفكاره.
يدور النقاش النقدي حول التقاليد على قدم وساق وتزداد سرعته من خلال إخفاق "الربيع العربي"، ولكنه يجري في المقام الأوّل من قبل المسلمين في العالم الغربي، وفي آسيا وكذلك في تركيا. ولذلك فقد كان ظهور الخبيرة السياسية هبة رؤوف عزت من جامعة القاهرة أكثر إثارة للاهتمام. لقد تناولت هذه الخبيرة القرآن الكريم من منظور علم الاجتماع وحللت عملية تسييس الإسلام البطيئة في المائة عام الأخيرة.
تقول هبة رؤوف عزت إنَّ الصيغة الأصلية لتمجيد عظمة الله، أي هتاف "الله أكبر"، قد تحوّلت في يومنا هذا على الأقل بشكل جزئي إلى صيحة حرب. وتضيف أنَّ بعض المصطلحات الفقهية الأخرى في القرآن الكريم مثل "التمكين" حصلت كذلك على مدلول سياسي.
هذه الخبيرة السياسية، التي عملت في التدريس في كلية لندن للاقتصاد المرموقة، تنظر إلى شعور الشرقيين بالدونية منذ حقبة الاستعمار باعتباره السبب الرئيسي لهذا التحوّل النوعي في فهم القرآن. وترى أنَّ الموقف الدفاعي أدّى إلى رفض المقاربات الفلسفية والعلمية الاجتماعية القادمة من أوروبا. تقول هبة رؤوف عزت: "لقد كان بإمكاننا أن نستفيد كثيرًا من التحليلات العلمية الاجتماعية الغربية". ولكن بدلاً من ذلك فقد "فسّر المرء في النصوص المقدّسة ما كان يبحث عنه". ولذلك بات يجب الآن على العلماء المسلمين - بحسب رأيها - التصدّي على نحو متزايد لقراءة القرآن الكريم قراءةً إيديولوجية والعودةُ إلى جوهره الروحي: أي علاقة الإنسان مع الله.
شعور بألم بسبب "الإرهاب"
الجدل حول التقاليد يسير كذلك لدى عالمات الدين النسويات الإسلاميات في مرحلة جديدة، وتزداد حدّته. وبالنسبة للجيل الأوّل من النسويات الإسلاميات لا يعتبر القرآن من حيث المبدأ ذكوريًا، ولكن تم تفسيره على مر قرون من الزمن من قبل الرجال ولذلك فقد تمت قراءته قراءة متحيّزة. وجاءت محاولة قراءة الآيات القرآنية بشكل مقبول للنساء، بما فيها الآيات التي قد تبدو معادية للمرأة، ملهمةً لأيقونات نسائية مثل أمينة ودود وأسماء بارلاس اللتين تعملان في التدريس الجامعي بالولايات المتّحدة الأمريكية.
وفي المقابل فإنَّ عالمات الدين الإسلامي الأصغر سنًا ينظرن إلى هاتين الرائدتين وعلى نحو متزايد بعين ناقدة. إذ فضّلت الأستاذة جاروشا تانر لامبتي، من اتّحاد المعهد اللاهوتي في نيويورك، الحديث في هذا المؤتمر حول فقه المسلمات بدلاً من الحديث حول فقه النشاط النسوي الإسلامي.
وترى الأستاذة جاروشا تانر لامبتي أنه توجد أيضًا آيات في القرآن الكريم لا يمكن فهمها مهما حسنت النوايا بمعنى المساواة في العلاقة بين الجنسين - على سبيل المثال الآية 34 من سورة النساء، حيث يتم تحديد التزام الزوجة بطاعتها لزوجها. أما العثور على إجابات مقنِعة على ذلك فسيكون مهمة الناشطات النسويات الإسلاميات الأصغر سنًا في الولايات المتّحدة الأمريكية وفي أوروبا.
ربما يكون التعليق على الأحداث المحيطة بتنظيم الدولة الإسلامية أمرًا أسهل في أطراف العالم الإسلامي. وكان من أشد المنتقدين في هذا المؤتمر المعقود في مدينة فرانكفورت عالم الدين فريد إسحق من جنوب أفريقيا. فقد عبّر عن ألم يشعر به في هذه الأيَّام الكثيرون من المسلمين: حيث أعرب عن أسفه الشديد لأنَّ بعض النصوص في القرآن الكريم من الممكن قراءتها كمبرّر لهمجية الجماعات الإرهابية. وبالنسبة للنقاشات الإسلامية الداخلية سوف يكون لذلك تأثيرا بالغ الأهمية.
كلاوديا مينده
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: قنطرة 2014