موسيقى عالمية وترية مستلهمة من إيقاعات الثورة التونسية
"Souvenance" تعني استذكار، وهو اسم العمل الجديد الذي عرضه أنور براهم في افتتاح مهرجان قرطاج الدولي لهذا العام. حضر أكثر من ستة آلاف مشاهد في هذا المساء خلال شهر رمضان 2014 من أجل الاستماع إليه وهو يعزف، وذلك لأنَّ حفلاته في وطنه نادرة. منذ ستة أعوام لم يصدر هذا الموسيقار العالمي المعروف خارج حدود تونس أي ألبوم جديد، ومنذ أكثر من عشرين عامًا لم يعزف في مدرج قرطاج، فهو يختار في العادة صالات أصغر ليعزف فيها. ولذلك فقد كان تشوُّق الحضور كبيرًا ومضاعفًا، كما أنَّ أنور براهم لم يختَر لذلك عملاً بسيطًا.
البداية خفيفة وجذَّابة، مثلما اعتدنا ذلك من عازف العود أنور براهم في ألبوماته السابقة. وبالإضافة إلى فرقته العادية المختصة بموسيقى الجاز والمكوَّنة من آلة الباص (العازف بيورن ماير) والباص كلارنيت (كلاوس غزينغ) والىبيانو (فرانسوا كوتورييه)، فقد دعا أنور براهم هذه المرة فرقة الموسيقى الكلاسيكية الصغيرة: أوركسترا تالين. امتزجت بسلاسة نغمات العود مع صوت الباص، وكانت تتداخل بينهما دائمًا نغمات آلات الأوركسترا الوترية. يتراجع أنور براهم بوضوح إلى الخلف ويترك ساحة العزف الموسيقيِّيه. والكثير من هذا اللحن يبدو مألوفًا وكأنَّنا قد سمعناه ذات مرة في مكان ما لدى أنور براهم: تُستثنى من ذلك المفاجآت، وباستمرار يهدِّد العزف بالانزلاق إلى الملاطفات. وفجأة تتغيَّر النغمة.
أحيانًا لطيف وأحيانًا غليظ
وبعد نصف ساعة أو ثلاثة أرباع الساعة يتغيَّر شيء ما على المسرح، وتصبح الأصوات أغلظ وأقوى، ويأخذ أنور براهم الدفة مرة أخرى في يده. وبشكل مفاجئ تومض بعد فترة قصيرة مقاطع مصوَّرة صامتة على الشاشة خلف الأوركسترا: صور لنساء ورجال وأطباء ومدنيين يحتشدون في مستشفى، وتخرج من أفواههم صرخات صامتة. ويظهر في النهاية عنوان نقرأ فيه "مستشفى القصرين 10 يناير 2011". في تلك الليلة، قبل ثلاثة أيَّام من هروب الدكتاتور التونسي زين العابدين بن علي، وقعت في مدينة القصرين في غرب تونس مواجهات هي الأشدّ حتى ذلك الحين وسقط فيها الكثيرون من القتلى. وفي القطعة التالية تأتي بعد ذلك أصوات مظاهرة تُسمع في الخلفية من مكبرات الصوت، وأحيانًا لا يكاد يمكن سماعها بين نغمات الموسيقيين.
تعكس بنية هذا العمل قصة نشأته. فقبل الثورة في تونس كان أنور براهم قد بدأ العمل على ألبوم جديد. ثم هرب الديكتاتور، وتغيَّرت المعايير في وطنه وأخذ الموسيقار بعض الوقت لإعادة توجيه نفسه. وفقط مع الانتخابات في عام 2011، بعد ثلاثة أرباع السنة، تمكَّن من العودة إلى العمل - ونشأ ألبوم استذكار "Souvenance" مثلما يبدو في شكله الحالي. يُسمع فيه الفرق بوضوح: من الجزء الأوَّل الهادئ العابر إلى الجزء الثاني الأكثر قتامة والأضخم.
تسييس الموسيقى
هذه ليست المرة الأولى التي يعتمد فيها الموسيقار أنور براهم في أعماله على التاريخ المعاصر. إذ إنَّ ألبومه السابق "عيون ريتا المذهلة"The Astounding Eyes of Rita صدر عام 2008 اعتمد على قصيدة للشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش -غير أنَّ تأثير الأحداث المعاصرة لم يكن قَطّ مسموعًا ومرئيًا إلى هذا الحدّ مثلما هي الحال في ألبوم "استذكار". فالفاصل في هذا العمل، أي التحوُّلات التي تتخلل المقطوعات تم بناؤها بوضوح في اللحن، بحيث أنَّ تسجيلات الفيديو والصوت لم تكَدْ تكون ضرورية من أجل فهم السياق.
يتفاعل في العزف الموسيقار أنور براهم -البالغ من العمر ستة وخمسين عامًا- مع فرقته بشكل سلس، على الرغم من توتُّره الواضح. يبقى في العادة هادئًا في الخلف ويُكمِّل فرانسوا كوتورييه أصوات العود، في حين أنَّ عازف الباص بيورن ماير يدفع باستمرار الإيقاع إلى الأمام. وأخيرًا يتبادل أنور براهم مرارًا وتكرارًا نظرات متواطئة وتكاد تكون غير مُدرَكة مع كلاوس غزينغ، الذي يرد بنغمات من آلته الباص كلارنيت تارة هادئة وتارة ضخمة. لكن مع ذلك فإنَّ الأوركسترا تهدِّد مرارًا وتكرارًا بأن تطغى على الفواصل الدقيقة الهادئة في عزف أنور براهم، وتُجرِّد العود أحيانًا من طابعه المتسم بالمرارة والمقترب من البساطة.
سارة ميرش
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: قنطرة 2014