الكنائس السورية في كمين عقلية التحصُّن والعنصرية الطائفية
دوامة العنف في سوريا تضع الكنائس السورية أمام اختبار صعب، إذ ينتمي مليونا سوري، أي حوالي 10 في المئة من السكان، إلى الديانة المسيحية، مقسمين إلى أحد عشر مذهباً مختلفاً. ومنذ اندلاع الاحتجاجات في مارس/ آذار 2011، شدد قادة الكنيسة دائماً على وقوف أغلبية مسيحيي البلاد وراء الأسد.
لكن ما يدل على أن هذه ليست الحقيقة الكاملة هي الاتهامات التي وُجِّهت مؤخراً لقادة الكنيسة في سوريا، إذ كتب كل من المعارض والصحفي السوري ميشيل كيلو والقس اليسوعي الإيطالي باولو داليليو عن صراعات كبيرة بين المذاهب المسيحية المختلفة، بغض النظر عن انتمائها إلى الكنيسة الغربية المرتبطة بروما أو إلى الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية.
كان حافظ الأسد قد نصّب نفسه في السابق حامياً للأقلية المسيحية، وهي سياسة اتبعها من بعده ابنه بشار. لكن التعايش بين الأديان والطوائف المختلفة في سوريا ليس من اختراع آل الأسد، بل يعود تاريخه إلى مئات السنين.
ومع استمرار الصراع في سوريا، أصبح من الواضح للمسيحيين بأن تمتعهم بالحماية مرهون بمقدار بقائهم موالين لنظام الأسد. ومن يُسمَع صوته ضد النظام، بغض النظر عن كونه مسيحياً أو سنياً أو علوياً، فإنه يخاطر بأن يتم قمعه علناً من قبل أجهزة القمع الحكومية.
وفي هذا الصدد، يشدد ميشيل كيلو، البالغ من العمر 71 عاماً، على أن "كثيرين من المسيحيين يعارضون قيادة الكنيسة". كيلو ينحدر من عائلة مسيحية سورية من اللاذقية، ويعتبر أحد رموز المعارضة في البلاد.
وبحسب تقدير الصحفي والمعارض السوري ميشيل كيلو، يقبع الآلاف من الشباب السوري المسيحي في سجون النظام، لأنهم شاركوا في تظاهرات أو وزعوا منشورات معارضة للنظام.
خط مباشر للمخابرات
ويرى ميشيل كيلو أن مواقف بعض الأساقفة لا تحظى بتفهم في أوساط الجالية المسيحية، وأن بعض الأساقفة يتعاونون أحياناً مع أجهزة المخابرات. أحد الأمثلة على ذلك هو ما عايَشَه كيلو بنفسه، إذ قام أسقف دمشق الأرثوذكسي لوقا الخوري بالوشاية ببعض أفراد جاليته لدى الشرطة السرية، لأن بعضهم تظاهروا ضده احتجاجاً على تعبيره عن فرحته بموت مسلمين.
لهذا، استدعى لوقا الخوري عناصر من جهاز المخابرات، الذين أودعوا بعض الشباب المسيحيين في السجن لمدة شهر، وهناك تعرضوا لضرب مبرح، بحسب ما يروي كيلو، الذي علم بقصة هؤلاء الشباب بعد الإفراج عنهم.
ويتابع ميشيل كيلو بالقول إن "الكنيسة تتعرض لضغط سياسي هائل لدرجة أنه لا يمكن اعتبارها مستقلة"، مطالباً أفراد جاليته المسيحية بمقاطعة الكنائس.
وفي رسالة مفتوحة وجهها إلى البابا بنديكت السادس عشر، على هامش زيارته الأخيرة إلى لبنان، انتقد كيلو "عقلية التحصُّن" و"العنصرية الطائفية" لدى الكنائس السورية، مضيفاً أن الكنائس تحيط نفسها بأسوار عالية وتعزل نفسها عن محيطها الشرقي الإسلامي، بينما ينشط المسيحيون على المستوى الشعبي في المعارضة. وحتى الآن لم يتلق كيلو رداً على رسالته هذه.
الحوار غير مرغوب فيه
القس اليسوعي الإيطالي باولو داليليو كان أيضاً ناشطاً في مجال الحوار بين الإسلام والمسيحية على مدى ثلاثين عاماً، قبل قرار ترحيله من سوريا في يونيو 2012. ويعرب القس باولو عن خيبة أمله في مواقف بعض ممثلي الكنيسة في سوريا.
وكان باولو داليليو قد حوَّل عام 1980 الدير الصحراوي مار موسى، الذي يقع على بعد 80 كيلومتراً تقريباً شمال العاصمة دمشق، إلى قبلة للحوار بين كافة الطوائف والأديان في البلاد. ولهذا أصبح مار موسى مكاناً يحترمه كافة المسلمين، وينظر إليه المحافظون في الكنيسة بعين ناقدة.
لم يكن القس باولو، كأجنبي، على ارتباط وثيق بمصالح الكنيسة في سوريا، وفي يونيو من هذا العام 2012، أصدر النظام قراراً بإبعاده عن البلاد بسبب مواقفة الناقدة، وعلى الأخص بسبب رسالته المفتوحة للموفد الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا، كوفي أنان، والجنازة التي أقيمت لتشييع المخرج المسيحي الشاب من حمص باسل شحادة.
وكان الأسقف المسؤول قد رفض دفن شحادة، ولهذا قام باولو داليليو وأصدقاء شحادة - مسلمون ومسيحيون - بالدعوة إلى حفل تأبين في مار موسى.
ويعترف باولو داليليو بأن مخاوف قادة الكنيسة مبررة بالنظر إلى مستقبل البلاد، إلا أنه لا يستطيع أن يتفهم سبب ارتباطهم الوثيق بنظام سيسقط عاجلاً أو آجلاً. كما أنه لا يعلم سبب عدم تفوههم بأية كلمة ضد دوامة العنف في البلاد.
وحول التقارير المتراكمة بخصوص الهجمات على المسيحيين في سوريا، فإن كُلاً من كيلو وداليليو ينظران إليها بشك، إذ من غير المعروف ما إذا كان سبب مهاجمة هؤلاء المسيحيين في أغلب الأحوال هو كونهم مسيحيين. ويقول كيلو: "قد يكون ذلك صحيحاً في حالات فردية، إلا أنه ليس شائعاً".
أما داليليو، فهو لا يزال يرى أن هناك بارقة أمل في الكنيسة السورية، بالرغم من الولاء الكبير للنظام في أوساطها. فهناك عدد من القساوسة والأساقفة الذين يعملون لصالح الشعب السوري. ويضيف باولو داليليو: "هؤلاء يتمتعون باحترامي العميق، وأنا أحسدهم بعض الشيء، لأنهم يختلفون عني في أنهم لا يزالون يعملون في سوريا".
كلاوديا منده
ترجمة: ياسر أبو معيلق
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2012