من الترحيب إلى الترهيب...بؤس صحافة بيغيدا المعادية للمهاجرين
بشكلٍ مفاجئٍ صار الآن الكلُّ منزعجًا من حركة بيغيدا، بعد خطاب الصحفي (الألماني من أصول تركية عاكف بيرينجي الداعم للشعبوية اليمينية والتوجه الإسلاموفوبي المعادي للأجانب والإسلام في ألمانيا) من فوق سيارة المظاهرة في مدينة دريسدن الألمانية الذي قال فيه: "هناك بدائل أخرى بالطبع. ولكنَّ معسكرات الاعتقال النازية مغلقةٌ حاليًا للأسف". بينما ترك عاكف بيرينجي ما يعنيه بهذه الجملة مفتوحًا بالأسلوب المعتاد للحركات البهلوانيَّة اليمينيَّة المتطرفة. عاكف بيرينجي اليميني المتطرِّف ومؤلف العديد من الكتب الأكثر رواجا.
هل عنى بكلماته أنَّ معسكرات الاعتقال النازية ليست متوفِّرة لحل وضع اللاجئين "للأسف"؟ أم كان يعني بأسلوب الأوساط اليمينيَّة المتطرفة النمطي أنَّ الحكومة أو القوى الحاكمة أو "النظام" يريد استبدال السكَّان الألمان، ويفعل ذلك بأسلوبٍ خفيٍّ، لأنَّ "معسكرات الاعتقال مغلقة للأسف" حسبما قال؟ ما هذا إذًا، أهو تحريض نازي خسيس، أم توهُّمٌ أخرق للبس لبوس الضحيَّة؟ لا فرق – كان عاكف بيرينجي يعرف كيف تؤثر كلماته على جمهوره، وقد تعمَّد وضعها في سياقٍ يتيح له التملـُّص عند الضرورة.
والآن الجميع ممتعض للغاية. ممتعض من عاكف بيرينجي، وعمومًا من أجواء الغوغاء العنيفة في مظاهرات بيغيدا، ومن عواقب التحريض اليميني المتطرِّف، مثل محاولة اغتيال هنرييتِه رِكِر (السياسية الألمانية الداعمة للاجئين) المرشحة لمنصب محافظ مدينة كولونيا. بيد أنَّ طاعني السكاكين ومضرمي النار في دور اللاجئين والغوغاء بين المتظاهرين لا يأتون بطبيعة الحال من العدم.
من يمين الوسط حتى الهوامش المتطرفة
منذ فترة طويلة توطدت في الواقع صحافة-بيغيدا، صحافة تبدأ بيمين وسط المجتمع وتصل الهوامش المتطرِّفة مارةً بعدة تدرجاتٍ رماديَّةٍ، فنلاحظ مثلاً كاتب العمود في موقع صحيفة شبيغل على الانترنت يان فبليشهاور يترهَّب مرتعد الفرائص من "الرجال المسلمين" ومن "طغيان الذكورية على الفضاء العام"، بينما يحتاج آخرون بدورهم إلى هذه الشعارات، لكي يندفعوا مباشرة للقلق الشديد بشأن "النساء الألمانيات الشقراوات".
والرائج أيضًا المطالبة بشدة بأنه على اللاجئين القادمين من سوريا الإقرار الآن بسرعة كبيرة بـ "قيَمنا"، أي بالتسامح والمسالمة والمعايير الديمقراطيَّة، ما يعكس بطبيعة الحال اشتباه عام ضمني بأنهم لا يفعلون ذلك دون هذا الإقرار، وهذا أمرٌ سخيفٌ بالفعل، إذا أخذنا بعين الاعتبار أنهم لم يهربوا من دون سببٍ ومن دون أيِّ قصدٍ من البلد المدمَّرة بسبب الحرب والكراهيَّة آتين إلينا.
أما إذا كان الإقرار بـ "قيَمنا" يوميًا أو مرةً واحدةً في الحياة كافيًا، أو كان لا بدَّ من المثول أمام لجنةٍ ما لأداء القسم، فهذا لا يقال. وهذا ليس ضروريًا، فلقد وُضِعَت البذرة، بمعنى: "هؤلاء العرب مُخيفون بشكلٍ ما". بالإمكان قراءة هذه الفرضيات في المقالات الافتتاحيَّة في صحيفة فرانكفورتر ألغماينة تمامًا كما في المدونات المتشددة في معاداة الإسلام مثل مدونة "بُوليتِكْلِي إنكورِكْت"، ولا داعي هنا لتعليقاتٍ أخرى على ما يقوله برودر وزاراتسين (المنتقدان للأجانب في ألمانيا) ومن هم على شاكلتهما. القضية واضحة: هناك تيارٌ صحفيٌ كاملٌ لم يدَّخر في الأسابيع القليلة الماضية جهدًا في سبيل استبدال "ثقافة الترحيب" بـ "ثقافة الرفض".
يمكن لبعض الألسنة الخبيثة أنْ تضيف السؤال عن مدى وجوب تكيُّف اللاجئين مع ثقافة صحافة-بيغيدا؟ هل يجب عليهم الآن إضرام النار بأنفسهم بمآوي اللاجئين؟
صحافة-بيغيدا بصفتها حليفًا للتطرُّف الإسلامي
تثبت صحافة بيغيدا في هذا السياق مرةً أخرى بأنها في الحقيقة الحليف الأقرب للتطرُّف الإسلامي وليست نقيضه. حيث أنَّ "ثقافة الترحيب" في محطات القطارات وعلى الحدود وفي البلديات كانت بالفعل أقسى ضربةٍ تلقَّاها التطرُّف المعادي للغرب في السنوات الأخيرة، وكانت لها فاعليَّةٌ تفوق فاعليَّة أيَّة طائرةٍ بدون طيار.
اللاجئون المسلمون الذين تمت مساعدتهم بتفانٍ من قبل "الأوروبيين المسيحيين" نـُقِلت صورهم عبر قنوات تلفزيونيَّة مثل الجزيرة وغيرها إلى العالم الإسلامي كله، وقد قال رجلٌ سوريٌ أمام عدسة الكاميرا على سبيل المثال "قيل لنا إنكم كفَّارٌ بينما أنتم المسلمون الرحماء الحقيقيون".
دحضت هذه الصور جوهر الدعاية الإسلامويَّة المغرضة، أي الادعاء بأنَّ "معاناة المسلمين لا تهمُّ أحدًا في الغرب". لا عجب في أنْ تثور ثائرة "تنظيم الدولة الإسلاميَّة" على "المسلمين الزائفين الذين يلقون بأنفسهم في أحضان الكفار". وقد أراد السلفيون إقحام أنفسهم بين اللاجئين متخفين كمساعدين متطوِّعين – بيد أن اللاجئين نبهوا الشرطة والمخابرات النمساويَّة إلى ذلك.
وبالتأكيد وبشكلٍ معاكسٍ لا يمكن أبدًا أنْ نستبعد أنْ يشعر جيل اللاجئين الحالي بأنه مرفوضٌ أيضًا في حال نجحت مساعي تثبيت "ثقافة الرفض" بفعل تحريض صحافة-بيغيدا، وبالتالي سوف تتقدَّم بمرور الوقت رواية "نحن ضدهم" أو "نحن ضد الغرب". تجنِّي صحافة-بيغيدا بقولها "إنهم ببساطة لا يلائمون مجتمعنا" من شأنه أنْ يتحوّل لنبوءةٍ تحقق ذاتها. وهذا ما يجعلها في الواقع خطيرةً ومقيتةً جدًا.
مختلَقٌ ومُشاع
يشمل مشهد صحافة-بيغيدا الإجمالي أيضًا حقيقة أنَّ البلاغات عن "العنف" في أماكن إيواء اللاجئين كاذبة بأكملها أو نصف كاذبة وهي تصل فعليًا في غضون دقائق إلى الصحف الرصينة. ومعظم هذه البلاغات المعمَّمة مُخْتَلَقَة كليًا.
حتى عندما يحتوي الخبر على حد أدنى من الصِحَّة من نوع ذلك الخبر الذي وصل عناوين الصحف الرئيسيَّة قبل بضعة أسابيع، حيث كُتِبَ أنَّ اللاجئين قد تشاجروا على مواد الإغاثة ما اضطر عددًا كبيرًا من رجال الشرطة للتدخَّل، وقد تبيَّن بعد ذلك أنَّ هذه الصياغة لم تكن خاطئة إلا أنها أوحت بصورةٍ خاطئةٍ تمامًا.
والحقيقة أنَّ سياسيَّة من حزب الخضر كانت قد زارت ببساطة أحد مآوي اللاجئين ووزَّعت هناك بأسلوب غير ماهرٍ بعض مستلزمات النظافة، فحدث تدافع لفترة قصيرة، يشبه ما يمكن مراقبته كل يوم سبت لدى الدخول إلى ملاعب كرة القدم دون أن يُكتب عن ذلك، فأُبلغت الشرطة، لكن لدى وصولها كان التدافع قد انتهى منذ فترة طويلة. هذا الحدث التافه تبوأ الصفحات الأولى في الصحف ولم يحقق سوى غرضٍ واحدٍ يتمثَّل في إثارة الخوف لدى السكَّان من استعدادٍ مزعومٍ لدى كتل اللاجئين التي لا يمكن السيطرة عليها للعنف.
لا يحتاج الصحافي الذي يعمل بهذا الأسلوب لأنْ يشمئز من بيرينجي ومن كتل الكراهيَّة التي تتبعه؛ ومن يؤلف سيناريوهات تهديدٍ خرقاء لا يحتاج لتصنُّع الإحساس بالصدمة عندما يقوم أحدهم بعملية طعنٍ بالسكين (ضد سياسية ألمانية تدعم اللاجئين) كما حدث في مدينة كولونيا.
روبرت ميسيك
ترجمة: يوسف حجازي