ليست مشكلة أوزيل وغوندوغان بل أزمة هوية ألمانية
في منتصف شهر أيَّار/مايو 2018 التقى لاعبا المنتخب الألماني لكرة القدم، إلكاي غوندوغان ومسعود أوزيل برفقة لاعب كرة القدم المحترف جينك توسون، المولود أيضًا في ألمانيا والذي اختار اللعب في صفوف المنتخب التركي، بالرئيس التركي رجب طيب إردوغان وقدَّموا له قمصان نواديهم. أهدى إلكاي غوندوغان قميص ناديه لإردوغان وقد كتب عليه: "إلى رئيسي المبجَّل". استخدم حزب العدالة والتنمية بزعامة إردوغان صور لقائه بلاعبي كرة القدم للدعاية في وسائل التواصل الاجتماعي - إذ إنَّ تركيا مقبلة في الـ 24 من شهر حزيران/يونيو 2018 على انتخابات رئاسية، من الواضح فيها أنَّ إردوغان مضطر لحشد دعم لها أكثر من المتوقَّع. منذ هذا اللقاء تستمر في ألمانيا الانتقادات الواسعة النطاق للاعِبَيْ المنتخب الوطني الألماني وقد هيمنت طيلة أيَّام على الأخبار الألمانية. وفي آخر مبارتين وديَّتين خاضهما المنتخب الألماني ضمن الاستعدادات لبطولة كأس العالم ضدَّ كلّ من النمسا والسعودية، تعرَّض اللاعبان لموجة استهزاء من قِبَل مشجعيهما - كما أنَّ حقيقة تسجيل أوزيل لهدف في وقت مبكِّر من المباراة ضدَّ النمسا لم تُغيِّر أي شيء في ذلك. فهل تتعلق ردود الفعل في الحقيقة فقط بسجل الرئيس التركي في مجال حقوق الإنسان أم من المحتمل أنَّ هناك عوامل أخرى تلعب دورًا في ذلك؟ يجب على لاعِبَيْ المنتخب الوطني الألماني القبول بهذه الانتقادات: فقد قدَّما بشكل ساذج دعمًا انتخابيًا لمرشَّح رئاسي عمل بشكل متزايد في الأعوام الأخيرة على تقليص حرِّية الصحافة وحقوق الإنسان في تركيا. منذ محاولة الانقلاب في عام 2016 والتعديل الدستوري في شهر نيسان/أبريل 2017، وسَّع إردوغان قاعدة سلطته الخاصة وزجَّ بنشطاء حقوق الإنسان والصحفيين المعارضين في السجون، وأقال من الوظائف الحكومية عشرات الآلاف من معارضي الحكومة المفترضين، وأمر بمقاضاة المعارضين وخاصة السياسيين من حزب الشعوب الديمقراطي (HDP) الكردي المعارض.
وهذا لم يُحوِّل إردوغان، الذي يعتبر رئيس ثالث أكبر دولة عضو في حلف الناتو، إلى شخص غير مرغوب فيه على المستوى الدولي - حيث كان لقاؤه في لندن مع لاعبي كرة القدم استعراضًا ثانويًا خلال زيارته الرسمية، التي استُقبِل فيها من قِبَل رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي والملكة اليزابيث الثانية. عندما طُرق باب مكتب إردوغان من قِبَل إلكاي غوندوغان ومسعود أوزيل من أجل هذا اللقاء القصير، لم يكن لاعبا المنتخب الألماني مدركين لحجم الموجة التالية للقائهما بإردوغان، على الرغم من توتُّر العلاقات الألمانية التركية. خاصة وأنَّ أوزيل وغوندوغان ينظران إلى الرئيس التركي بشكل مختلف عن معظم مواطنيهما الألمان، وذلك بسبب أصلهما وهويتهما، وكذلك بسبب وجود الكثير من أقاربهما وأصدقائهما في تركيا. وفي المقابل كان يجب على الرياضيَّيْن المحنَّكين في مجال الإعلام أن يعلما أنَّ حزب العدالة والتنمية سيستغل هذا اللقاء لأهدافه الخاصة - لا سيما وأنَّ مسعود أوزيل يُعَدُّ بمستواه غير المسبوق البالغ أكثر من 31 مليون إعجاب على الفيسبوك من أبرز الناشرين في وسائل الإعلام الاجتماعية في العالم كما أنَّ التسويق الذاتي يُمثِّل بالنسبة للاعبين المحترفين ذوي الأجور المرتفعة ولمستشاريهم خبزهم اليومي. نموذج مثالي "للاندماج"؟ بيد أنَّ الانتقاد في ألمانيا لم يشتعل فقط بسبب الدعم الانتخابي لإردوغان وتوجُّهاته السلطوية؛ فكثيرًا ما كان يبدو أنَّ هناك دافعًا آخر: هو التشكيك في ولاء لاعِبَيْ المنتخب الألماني لبلدهم ألمانيا. وهذا ينسجم مع مناخ اجتماعي تعمل فيه أطراف سياسية في ألمانيا على العودة إلى فهم موحَّد للهوية والثقافة الألمانية، كان من المعتقد أنَّه تم التغلب عليه. فعلى سبيل المثال، يريد هورست زيهوفر بصفته "وزير الداخلية" أن يفرض في ألمانيا "ثقافة ألمانية رائدة" لا يرى فيها أي مكان للإسلام. وهنا تعتبر الانحرافات عن القاعدة المفترضة غير مرغوب بها، كما أنَّ "الاندماج" تحوَّل إلى كلمة رنانة كثيرًا ما يتم الاستحواذ عليها باستمرار من قبل معارضي المجتمع المتميِّز بالتنوُّع الثقافي. جدل لقاء لاعبين من منتخب ألمانيا بإردوغان وحتى أنَّ زعيم الحزب الليبرالي الألماني FDP كريسيان ليندنر قد ذهب إلى المطالبة بضرورة مشاركة مسعود أوزيل في ترديد النشيد الوطني الألماني، لأنَّه ستظهر في خلاف ذلك "مشكلة هوية تؤدِّي بعد ذلك إلى خلق مشكلات في الاندماج". ومما زاد الطين بلة أيضًا أنَّ السيِّد ليندنر قد استشهد في حديثه بالقانون الأساسي (الدستور) الألماني: لكن في القانون الأساسي لم يتم ذكر النشيد الوطني ولا الإلزام بترديده. ومع ذلك فإنَّ هذه المجموعة الكبيرة من الألمان ذوي الأصول المهاجرة - الذين باتوا يشكِّلون في هذه الأثناء ربع الألمان تقريبًا - لديهم الحقُّ في تحديد هويَّتهم الخاصة.
هذه الهويَّات تعتبر في بعض الأحيان معقَّدة: مسعود أوزيل وُلِدَ في مدينة غيلسنكيرشن كمواطن ألماني من أصول تركية وكان يلعب في نادي إف سي شالكه، وقد أصبح نجمًا عالميًا قاد ألمانيا إلى الفوز في نهائيات بطولة كأس العالم 2014. وكمسلم متديِّن فهو يُصلي قبل كلِّ مباراة، كما أنَّه أدَّى مناسك العُمرة في مكة. ومع ذلك فهذا لا يستحق الذكر مثل حقيقة عدم مشاركته منذ عدة أعوام في ترديد النشيد الوطني الألماني بسبب أصوله. لم تتم إثارة هذا الموضوع إلا بعد أن قرر هورست زيهوفر وكريستيان ليندنر وشركاؤهم تحديد ما هو ألماني وما هو غير ألماني - بشكل حصري من دون مشاركة المهاجرين والمهاجرات. كثيرًا ما تم منح مسعود أوزيل شهادة "مثال الاندماج الناجح" وخاصة من قبل الاتِّحاد الألماني لكرة القدم DFB. ولكن لماذا يجب عموماً منح هذه الشهادة لشخص ألماني مثل أوزيل وغوندوغان وُلِدَ وترعرع في مدينة غيلسنكيرشن؟ في الواقع إنَّ لقاءه بالرئيس التركي لا علاقة له بذلك على أية حال. قد يكون هذا غباءً سياسيًا وغير مناسب بالنسبة للاعب في المنتخب الوطني له وظيفة نموذجية، ولكن من غير المعقول أن يتحوَّل هذا إلى نقاش حول الاندماج. وبصرف النظر عن أنَّ غوندوغان وأوزيل لديهما أيضًا الحقُّ في حرِّية التعبير عن الرأي - فإن حق التعبير عن الرأي هو حق راسخ في القانون الأساسي، بعكس [ترديد] النشيد الوطني. صَبُّ الزيت على نار اليمينيين والرجعيين منذ فترة طويلة باتت المواقف الرجعية والعنصرية مقبولة اجتماعيًا من جديد في ألمانيا؛ وهذا لا يتوقَّف أيضًا عند المنتخب الوطني الألماني. وبعيدًا عن الانتقادات المشروعة، فقد تحدَّث غوندوغان أيضًا عن تعرُّضه لإهانات جارحة بعد اللقاء بإردوغان. بعد الملاحظة العنصرية من جانب السياسي الشعبوي ألكسندر غاولاند المهينة للاعب نادي بايرن ميونخ، جيروم بواتينغ، خرج مرة أخرى حزب البديل من أجل ألمانيا AfD بإهانات عنصرية علنية. حيث قالت أليسا فايدل، وهي رئيسة الكتلة البرلمانية في البرلمان الاتِّحادي الألماني، للصحيفة اليمينية الأسبوعية يونغة فرايهايت: "من الأفضل لهما أن يبحثا عن حظهما في المنتخب الوطني التركي". إنَّ المبالغة طيلة أيَّام بأهمية لقاء أوزيل وغوندوغان بإردوغان وتحويله في ألمانيا إلى ما يشبه قضية تخصُّ الدولة - حيث تحدَّثت أولًا المستشارة ميركل، ثم دعا الرئيس الاتِّحادي فالتر شتاينماير اللاعِبَيْن للقاء توضيحي - تمثِّل على الأقل مؤشرًا يشير إلى نقص الرزانة والثقة بالنفس في النقاش حول التغيير الاجتماعي للهويَّات الألمانية. كما أنَّ صافرات المشجِّعين الألمان ضدَّ أوزيل وغوندوغان هي أيضًا مؤشِّر، وذلك لأنَّه من غير المحتمل كثيرًا أن تكون تلك المجموعة الصغيرة من المشجِّعين المصفِّرين بسخرية مهتمةً جدًا بحقوق الإنسان في تركيا. التعليقات مثل مطالبة السيِّد كريستيان ليندنر لأوزيل بترديد النشيد الوطني تعتبر بمثابة صَبِّ الزيت على نار الاستياء، الذي يبدو أنَّه لا يزال موجودًا لدى بعض المشجِّعين. هذه الصافرات المستمرة ضدَّ لاعِبَيْن من أجدر لاعبي المنتخب الوطني الألماني لديهما أصول مهاجرة، تترك مذاقًا سيئًا للغاية، خاصة لدى المنتخب الوطني الألماني، الذي يعتبر نموذجًا مثاليًا لبلد الهجرة الجديد والمتنوِّع: ألمانيا. كرة القدم الاحترافية: غير معنية بحقوق الإنسان
الانتقاد الموجه لأوزيل وغوندوغان يبدو نفاقاً لسبب آخر أيضًا. ففي حين يتم اتِّهامهما وعن حقِّ بالتعتيم على انتهاكات إردوغان لحقوق الإنسان، فإنَّ كلًا من الاتِّحاد الدولي لكرة القدم الفيفا والاتِّحادات الوطنية والأندية تعتبر مشاركة تمامًا في ذلك وبقدر أكبر بكثير. فعلى الرغم من التأكيد مرارًا وتكرارًا على أسطورة كرة القدم التي من المفترض أنَّها غير سياسية، إلَّا أنَّ بطولة كأس العالم وكذلك بطولات أندية كرة القدم، بالإضافة إلى غيرها من الأحداث الرياضية الكبرى لا تعتبر مهمة فقط من الناحية الاقتصادية، بل لها أيضًا تداعيات سياسية واسعة النطاق. لقد شارك قبل أربعين عامًا لاعبو كرة القدم الألمان في بطولة أقيمت في الأرجنتين، في دولة دكتاتورية عسكرية، كانت مسؤولة عن قتل ثلاثين ألف شخص معارض. وحتى في نهائيات بطولة كأس العالم المنتظرة في روسيا توجد الكثير من المخاوف بشأن حقوق الإنسان. وفي هذا الصدد من المنتظر من اللاعبين ألَّا يتكلموا حول الأوضاع السياسية. ولكن فجأة بات يُزعم أنَّ كرة القدم بعيدة عن السياسة. ومع كأس العالم لكرة القدم 2022 في قطر تقترب أيضًا بطولةٌ كروية، ترافقها انتهاكات لحقوق الإنسان، تعتبر أكثر شمولًا، قامت بتوثيقها مرارًا وتكرارًا منظمات حقوقية مثل منظمة العفو الدولية أو منظمة هيومن رايتس ووتش. ومن جانبها تصف منظمة العفو هذه البطولة بـ"بطولة كأس العالم المشينة في قطر". حيث يتم وبشكل منهجي استغلال مئات الآلاف من العمال الأجانب، الذين يعملون في مواقع بناء منشآت كأس العالم وفي غيرها من المواقع الخاصة بالاستعدادات لبطولة كأس العالم وإجرائها. ومن المعروف أنَّ مئات من العمال العاملين هناك قد لقوا مصرعهم بسبب ظروف العمل الكارثية. قطر لا تستخدم من أجل الدعاية بطولة كأس العالم فقط، بل تستخدم أيضًا استثماراتها في الأندية الأوروبية مثل نادي باريس سان جيرمان. كذلك يسافر نادي إف سي بايرن سنويًا لمعسكر تدريبي في قطر، وحتى أنَّ شركة الخطوط الجوية القطرية قد ارتقت لتصبح الراعي الرئيسي لهذا النادي. وعلى الرغم من أنَّ انتهاكات حقوق الإنسان معروفة للجميع، لكن يتم تجاهل الأوضاع السيئة بشكل منهجي. واللاعبون يفرض عليهم واجب الصمت إلى أبعد حدّ ممكن. الكيل بمكيالين بينما يحصد أوزيل وغوندوغان الغضب بسبب سذاجة سياسية، يتم تمويل الأندية في الدوري الإنكليزي الممتاز من قِبَل القلة الحاكمة الروسية، والحكام المستبدين في الشرق الأوسط (نادي مانشستر سيتي) أو أنصار ترامب (نادي إف سي أرسنال). منذ حالات الفساد الضخمة في الاتِّحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) واستقالة رئيسه السابق جوزف بلاتر، لا يزال الرئيس الجديد جياني إنفانتينو مدينًا بوضع توضيح شامل لفضائح الفساد في مختلف عمليات منح تنظيم بطولات كأس العالم، كذلك لقد حاولت الفيفا منع نشر ما يعرف باسم تقرير "جارسيا"، الذي كان من المفترض أن يقدِّم في عام 2014 مقاربات حول ذلك.
إنَّ مَنْ يهتم حقًا في عدم إضرار كرة القدم على المستوى العالمي بحقوق الإنسان، من شأنه أن ينتقد وعن حقّ ظهور أوزيل وغوندوغان مع إردوغان. ولكن عندئذ يجب على الاتِّحادات والمشجِّعين عدم التهرُّب من النظر أيضًا إلى مشكلات حقوق الإنسان العديدة الأخرى. يوجد ما يكفي من الفرص لذلك: كان من الممكن أن تقدِّم مثل هذه الفرصة مباراة ألمانيا التجريبية في الثامن من حزيران/يونيو 2018 ضدَّ المملكة العربية السعودية: التي لا توجد فيها حرُّية صحافة ويتم فيها إعدام أطفال قُصَّر بسبب المشاركة في مظاهرات، ويُضطهد فيها أصحاب الآراء المختلفة من دون رحمة على الرغم من المسار الاقتصادي الليبرالي لولي العهد السعودي الجديد. قبل فترة قصيرة تم اعتقال العديد من الناشطات في مجال حقوق المرأة، وكانت من بينهم الناشطة الشابة لجين الهذلول، التي تدعو منذ عدة أعوام من أجل إصلاحات معتدلة. بالنسبة لجميع مشجِّعي كرة القدم الألمان، الذين كانوا مهتمين حقًا بحقوق الإنسان في لقاء أوزيل وغوندوغان بإردوغان، فإنَّ هذه فرصة للاحتجاج ضدَّ ذلك بصوت مرتفع، بدلًا من الاستمرار في التصفير استهزاءًا بلاعبي المنتخب الألماني - بسبب لقاء اعترفا بأنَّه كان خطأً. أمَّا على جميع الآخرين فينطبق: توقَّفوا عن الصفير! رينيه فيلدأنغلترجمة: رائد الباشحقوق النشر: موقع قنطرة 2018ar.Qantara.de