نداء حراكي لإرساء ديمقراطية جزائرية حقة
عبر دعوته لإجراء تعديلات دستورية، أراد النظام الجزائري في الواقع إيقاف الحركة الاحتجاجية -التي يطلَق عليها في الجزائر تسمية "الحراك" غالبًا– بصورة نهائية، وحرفها عن مسارها عن طريق إدخال بعض الإصلاحات التجميلية. وقد رجت قيادة الدولة، التي انتهجت مؤخرًا نهجًا سلطويًا بصورة متزايدة، أن تكتسب شرعية جديدة لها عبر هذه الإجراءات، وأن تحشر الحراك في موقف دفاعي، لكن محاولتها باءت بالفشل.
صحيح أن الدستور الجديد قد اُعتمد بعد استفتاء بنسبة 66,8 في المئة من الأصوات، إلا أن نسبة المشاركين في الاستفتاء نفسه لم تتجاوز 23,7 في المئة، وذلك في أدنى نسبة شهدتها المشاركة على الإطلاق. وكان من الممكن تزيين هذه الأرقام [وجعلها أكثر قابلية للتصديق]، فالتلاعب بنتائج الانتخابات في الجزائر أمر يحدث بشكل ممنهج منذ عقود في نهاية المطاف.
وقد أخفقت الحكومة أيضًا، خلال المرحلة التحضيرية التي سبقت الاستفتاء الذي أجري في الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، في اتخاذ تدابير لإصلاح قانون الانتخابات ولضمان شفافية التصويت.
ولذلك، نأى الجزائريون بأنفسهم عن صناديق التصويت في يوم المقرر له؛ وبدلاً من مشاهدة طوابير انتظار أمام مراكز الاقتراع، خرجت احتجاجات مضادة وحدثت اعتداءات على مراكز الاقتراع وقوبل الاستفتاء بسخرية لاذعة.
ففي العديد من المدن الجزائر الشرقية وفي منطقة القبائل الواقعة شرق الجزائر العاصمة -التي تحتوي أغلبية سكانية أمازيغية معروفة بكونها معقل المعارضة في الجزائر- قام المتظاهرون، في محاكاة رمزية [ساخرة من عملية التصويت]، بوضع صناديق قمامة تحتوي فتحات من الأعلى، وألقوا فيها أوراق اقتراع قاموا برسمها بأنفسهم.
كما انطلقت احتجاجات سلمية ضد التصويت في العديد من البلدات والقرى في منطقة القبائل وشرق الجزائر. وشهدت بعض البلدات اقتحام مراكز الاقتراع من قبل متظاهرين، حيث قاموا بإفراغ صناديق الاقتراع أو بإحراقها في الشارع. وفي ظل هذه الأوضاع [المضطربة]، تخلّت السلطات عن العملية الانتخابية في عدد لا يحصى من البلديات في شرق الجزائر بصورة تامة.
ازدهار الحراك وانتعاشه - انقلاب السحر على الساحر
لم تكن مثل هذه الانتخابات المضطربة حدثًا مفاجئًا بأي حال من الأحوال، إذ سبق للعديد من القوى المقربة من الحراك أن دعت إلى مقاطعة التصويت. أما بالنسبة للحراك نفسه، فقد رأى في حملة المقاطعة الناجحة بارقة أمل، إذ تنامت شعبية هذه الحركة الاحتجاجية بشكل ملحوظ لأول مرة منذ آذار/ مارس 2020.
وكانت شعبية الحركة قد بلغت أوجها في ربيع العام 2019، عندما خرج مئات الآلاف من المتظاهرين في طول البلاد وعرضها بصورة شبه يومية مطالبين باستقالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي كان يتولى منصبه منذ العام 1999، وقد استقال الأخير بالفعل في نيسان / أبريل 2019، ولكن نظامه استمر بالبقاء.
وتولى الجيش بعد ذلك زمام الأمور، وجرى اعتقال العشرات من المقربين من بوتفليقة وتقديمهم إلى العدالة تحت ضغط الشارع. وسرعان ما اتضح أن الجيش لن يستجيب لنداء الحراك المطالب بانفتاح سياسي حقيقي. وعوضًا من ذلك، استغل الجيش الأزمة مرارًا لتنظيف صفوفه وللقضاء على جماعة بوتفليقة في جهاز السلطة. ويحاول الجيش منذ ذلك الحين استرضاء المتظاهرين بدون الحاجة إلى الشروع بعملية دَقْرَطَةٍ [دمقرطة] حقيقية.
ومن جهته، أثبت الحراك أنه على استعداد للمقاومة حتى الرمق الأخير، لاسيما بعد أن تعلم من تجربته الخاصة ومن إخفاق ما سمي بـ "الربيع العربي" في المنطقة في العام 2011، فنبذ باستمرار اللجوء إلى العنف. وبذلك، فقد سلبت سلمية الحراك من النظام مقدرته على التدخل باستخدام القوة المفرطة أو على تشويه سمعة الحركة. ومع تشبث النظام بالسلطة بعناد، سارت البلاد نحو طريق مسدود مع مطلع العام 2020.
وعود فارغة وحريات مدنية بلا قيمة
وكطريقة للخروج [من هذا الطريق المسدود]، واظب كل من الرئيس "المنتخب" حديثًا في كانون الأول/ ديسمبر 2019، عبد المجيد تبون، الذي تبوأ منصبه بعد عملية اقتراع خيّمت عليها أجواء الاتهام بالتلاعب، وقائد الجيش القوي، السعيد شنقريحة، الذي يمسك بزمام الأمور من خلف المشهد، على الدعاية للمشاركة في الاستفتاء على الدستور.
فخلال المرحلة التحضيرية للانتخابات، ردد شنقريحة مرارًا بأن هذه المرحلة هي "مرحلة مهمة" لبناء "جزائر جديدة". وحاولت الحكومة الترويج للتعديلات الدستورية على أنها تنازل من قبلها لصالح الحراك والمعارضة؛ إلا أن الإصلاحات الحقيقية لا يمكن اختزالها بمجرد مراجعات للدستور بأي حال من الأحوال.
صحيح أن الدستور الجديد يقصر مدة ولاية رئيس الدولة على ولايتين، ويعزّز دور البرلمان، إلا أنه ما زال يسمح للرئيس بالتحكم بمناصب قضاة من ذوي الرتب العليا بمفرده، كما كان عليه الحال سابقًا، ما يمكنه بالتالي من الاحتفاظ بنفوذ كبير على القضاء. وصحيح أيضًا أن الدستور الجديد الحالي ينص على الحريات المدنية وعلى حظر الرقابة، إلا أن هذه الضمانات لا تستحق حتى ثمن الورق الذي كُتبت عليه. فقد أثبت النظام خلال المرحلة التحضيرية للانتخابات بأن هذه الضمانات عديمة القيمة، إذ استمر في اعتقال ناشطين ومعارضين وصحفيين بصورة ممنهجة، وتم جر العديد منهم للمثول أمام المحاكم بتهم وهمية.
وفي إعلان له، وصف تحالف المعارضة اليساري الليبرالي المسمى بـ "ميثاق البديل الديمقراطي" موجة القمع الأخيرة ضد المعارضين بأنها "حملة صليبية يقودها النظام ضد الحريات". فتأكيدات الحكومة على احترام حقوق الإنسان والحريات المدنية في المستقبل لا تتمتع بمصداقية.
عودة لتصدر المشهد - الحياة تدب مجددا في الحراك - بداية جديدة بمبادرة جديدة
تضاءل نشاط الحراك قبل إجراء الاستفتاء وأزمة جائحة كورونا، فلم يعد بتلك القوة القوية المثيرة للإعجاب، ولكن الريح ما لبث أن تغيرت لتلائم سفنه. فعندما حاول النظام استغلال الجائحة ذريعةً لاتخاذ إجراءات قمعية متزايدة ضد الحراك، أدى ذلك إلى نتائج عكسية لاحقًا، حيث أدت مقاومة الاستفتاء إلى دبّ الحياة في صفوف الحركة مجددًا.
ويعتزم الحراك تعزيز صفوفه أكثر في الأسابيع التالية. وقد أطلق مبادرة جديدة حملت اسم "نداء22"، تهدف في النهاية المطاف إلى دعوة المجموعات الأيديولوجية والسياسية المتنوعة داخل الحركة الاحتجاجية للجلوس حول طاولة واحدة للعمل على تشكيل تحالف واسع لوضع النظام تحت الضغط بصورة أكثر فعالية مما هو عليه الحال في الوقت الحاضر.
وبذلك، يتوجب على قيادة الدولة، حال أرادت إنهاء الأزمة السياسية فعلًا، أن تقدم للمتظاهرين شيئا أكبر من مجرد إصلاحات تجميلية. فبدون حشود جماهيرية جديدة للحراك تعّم شوارع الجزائر، من غير المرجح أن يقدم النظام أي تنازل.
سفيان فيليب نصر
ترجمة: حسام الحسون
حقوق النشر: مجلة التعاون والتنمية / موقع قنطرة 2021