"اليمين المتطرف يهدد أوروبا أكثر مما يهددها مليون لاجئ"
سيد كرماني، نشاطاتك واسعة ومتعددة المجالات: أنت مستشرق، روائي، وصحفي رحلات...كيف تتوافق كل هذه المجالات بعضها مع بعض؟
نافيد كرماني: باستثاء بعض الحالات القليلة، يمكن إرجاع كل أنشطتي إلى الأدب. فلدى كتابة الأعمال الروائية وكذلك في الكتابات العلمية والصحفية ألتجئ إلى الكتب سواء العلمية منها أو الأدبية.
لنأخذ على سبيل المثال ريبورتاجاتك الصحفية من مناطق الحرب أو النزاع كرحلتك مؤخراً مقتفياً أثر اللاجئين، والذي نُشر تحت عنوان "انهيار الواقع". ألا يختلف أسلوب العمل هنا كلياً عن الجلوس خلف الطاولة وكتابة المواد العلمية أو الأدبية؟
نافيد كرماني: بالطبع فصحافة الرحلات نوع فني خاص، قائم بحد ذاته. الرحلات الصحفية هي زيارات قصيرة يجب أن أكون مستعداً لها بشكل جيد. فربما لا تستغرق رحلتي في واقع الأمر أكثر من عشرة أيام أو أسبوعين. فقد استغرق كتابي الأخير ثمانية أيام فقط، ولكنها كانت ثمانية أيام من الخبرة الصرفة الخالصة. لو كنتُ قد مكثتُ أكثر من ذلك، لكانت قدراتي الإدراكية ستُنْهَك قريباً، وكان يتوجب علي أن أمكث عدة أشهر لأتمكن من التعمق أكثر فيما أشتغل عليه.
المرحلة التالية هي عملية الكتابة، التي لا تختلف في واقع الأمر كثيراً عن أي عملية كتابة أخرى. فهي عملية مستمرة لعكس التجارب، وتشكيل صدى الواقع، بينما أحاول الحفاظ على التناقضات وعلى الفوارق البسيطة الدقيقة. وبالإضافة لما سبق، فإني لا أترك نفسي خارج ريبورتاجاتي أبداً. فتقاريري الميدانية ليست ملاحظات مراقب حيادي، بل نابعة من عينيّ، وقد ترى عيون أخرى الأشياء بشكل يختلف عن رؤيتي.
في كتابتك السياسية يبدو أن التراث الأدبي يبقى هو المرجعية فيما تكتب. فعلى سبيل المثال، قد لا يربط الكثيرون تحليل الإرهاب بـ ليسينغ [مُلاحظة: غوتهولد إفرايم لسينغ {1729-1781} هو شاعر وكاتب مسرحي وناقد أدبي ألماني يعتبر أحد أهم كتّاب عصر التنوير في ألمانيا]...
نافيد كرماني: قد يكون هذا صحيحاً. تضم مكتبتي بالإضافة إلى الكتب السياسية الكلاسيكيات الأدبية. يحدث أن أقرأ في صحف الصباح شيئاً ما، فأربطه بـ ليسينغ. ما يميزني عن جيلي هو أن الأدب، الذي طبعني وأثرّ بي، هو أدب القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وليس أدب ما بعد الحرب العالمية الثانية. بالطبع أتفهم أنه في فترة ما بعد 1945 توجب على جيل ما بعد الحرب أن ينأي بنفسه عن النزعة العاطفية، التي تردد صداها في الأدب الألماني، كمرجعية ميتافيزيقة.
[ ملاحظة: جسدت النزعة العاطفية ذروة المرحلة الرومانسية في الأدب الألماني. وقد تعرضت النزعة العاطفية لانتقادات بعد توظيف الخطاب النازي لها وللغتها للتأثير على الجماهير. هناك ثلاث وسائل إقناع تُستخدم في مخاطبة الجماهير: أولاً-(الجانب العاطفي) استثارة العواطف والاحاسيس. ثانياً-(الجانب العقلي): العقل والمنطق. ثالثاً-(الجانب الروحي): الأخلاق والدين والضمير].
هل تمثل النزعة العاطفية، التي تستخدمها أنت في بعض الأحيان، شيئاً خاصاً بالنسبة لك: فكرة لثقافة ألمانية غير مرتبطة بالأمة الألمانية؟
نافيد كرماني: بالتأكيد نعم. فبالطبع، شخص مثل كلايست [ملاحظة: بيرنت هاينرش فيلهلم فون كلايست هو أديب ألماني ولد في عام 1777 وتوفي عام 1811] كان لديه نزعاته القومية. ولكن في نطاقه الأوسع لم يتماهَ الأدب الألماني قبل القرن العشرين مع الأمة الألمانية. وكذلك أنا؛ مرجعيتي هي اللغة الألمانية، وبدقة أكثر الثقافة الألمانية، وليس الأمة الألمانية.
يبدو أنك، وبالإضافة إلى النزعة العاطفية، ورثت من عصر التنوير الموقف المعتدل للعقل، أي الموقف الإنساني المعتدل الذي لا يجمّل الأشياء ولا يشيطنها. ألا يصبك اليأس أحياناً، واليوم على وجه الخصوص، بسبب التطرف الراديكالي المتزايد المعادي للثقافة في النقاش العام؟ هذا التطرف الذي يغذيه، في الغالب، ما ينشر على الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي من كلام فج غير ناضج؟
نافيد كرماني: أصبح النقاش العام، بالفعل، يحدث ضوضاءَ وغير منتج في أجزاء كثيرة منه. ولكني أعتقد أنه هناك عدة أمثلة تبعث على الأمل وتثبت العكس. على سبيل المثال، في يناير الماضي، عندما نشرنا الرسالة المفتوحة، "رسالة كولونيا"، ضد العنف الجنسي وضد التحريض على معاداة الأجانب، وجدت الرسالة صدىً كبيراً جداً. فقد نشرت صحيفة "كولنر شتات انتسايغر" وعلى مدار أيام صفحات كاملة من رسائل القراء. وقد كانت 90 بالمئة من الرسائل إيجابية أو في كل الأحوال موضوعية ومتباينة بعضها عن بعض. وهذا يرجع بالتأكيد إلى أنه لم يكن هناك مجالٌ للتعليق أونلاين على الرسالة، بل توجب على من يريد التفاعل أن يرسل رسالة بالبريد العادي أو عن طريق البريد إلكتروني أو يرسل فاكساً أو يتصل هاتفياً بالمحررين في الأوقات معينة.
لقد تفاعل القراء بشكل بنّاء وكانوا مُمْتَنِّين أننا سمينا الأشياء بمسمياتها، وكان امتنانهم بنبرة يمكن الدخول بنقاش معهم. وكنتيجة لذلك كان بمقدور الناس التعبير عن إحساسهم بالعجز. أعتقد أن هذا مثالٌ جيدٌ عن النجاح بإطلاق نقاش بناء، على المستوى المحلي على الأقل. وحدث هذا، ببساطة، عن طريق التحايل على وسيلة الاتصال: الانترنت. نقاشات الانترنت غير مقيدة ولا يمكن كبح جماحها، ولحد كبير لاعقلانية.
على ذكر العجز، كيف يمكننا النجاح بأن نبقى، أو ربما نصبح، مجتمعاً متعدد الثقافات ومتعدد الأديان ومتسامح، في مواجهة موجة الهجرة العارمة اليوم؟
نافيد كرماني: لا حلول بسيطة لدي. فمن جهة، هناك النشاطات اليومية الصغيرة على المستوى المحلي. ومن جهة أخرى، هناك المستوى السياسي القومي: أنا على قناعة أنه يمكننا النجاح بذلك بدعم وترسيخ الاتحاد الأوروبي. ما كان يتوجب علينا تعلمه من القرن العشرين، مؤخرا في حروب البلقان واليوم من الشرق الأوسط، أن تسامح الدولة القومية الحديثة، ذات الطابع الأوروبي، هش جداً.
يقود نموذج الدولة القومية بشكل إلزمي إلى التعريف الإثني لشعب هذه الدولة، وبالتالي إلى تعريف أولئك الذين لا ينتمون إلى هذه الدولة. نحن نشهد الآن خطاب الإقصاء، وللأسف ممارسة هذا الخطاب على أرض الواقع، في كل مكان تستعيد الدولة القومية سلطتها أو تريد استعادة هذه السلطة: من بولندا إلى هنغاريا وصولاً إلى الأحزاب القومية اليمينية في فرنسا وألمانيا. لم تلغِ أوروبا الفوارق، وكان هذا سيكون مرعباً لو حدث. فقد حافظت على الثقافات القومية واللغات القومية والتقاليد القومية، غير أن أوروبا نزعت فتيل تفجير هذه الفوارق على المستوى السياسي.
لا تفتقد أوروبا في الوقت الحالي إلى مرجعية المثالية فقط، ولكن أيضاً، وبشكل ملموس، للقدرة على الفعل السياسي.
نافيد كرماني: للأسف، نعم. ولكن الأمرين متلازمان. ربما يجب أن يتم تأسيس تحالفات أوروبية أصغر حجماً لخلق القدرة على الفعل. وبهذا تسير أوروبا بسرعتين: الاتحاد الأوروبي والتحالفات الأوربية الأصغر بين الدول.... وهذا فكرة ليست خاطئة... على كل حال، آمل أن الجيل الأوروبي الحالي، الذي نما وترعرع في ظل الرفاهية والحرية والسلام، ومع أوروبا والديمقراطية وحقوق الإنسان كمُسَلَّمات، أن يرى هذا الجيل من جديد ويشعر بوضوح أكثر كم نحتاج جميعنا إلى أوروبا.
في وجه الموجة الجديدة من القومية، وأيضاً المأساة المتفاقمة على أبواب أوروبا، فإن أوروبا تحتاج لدفعة اجتماعية جديدة. وهذه الدفعة يجب ألا نتنظرها دائما من مستويات عليا، بل يجب تأتي من المواطنين أنفسهم. فنحن نرى، وعلى الأقل الآن، ما هو المجتمع الذي يود رافضو المشروع الأوروبي العيش فيه. ما هو على المحك الآن هو قيمنا: التضامن والحرية والانفتاح على سبل الحياة المتعددة، ليس على الثقافات الأجنبية فقط. يشكل كل من فيكتور أوربان(رئيس وزراء هنغاريا اليميني)، وماري لوبان(رئيسة حزب "الجبهة الوطنية" اليميني في فرنسا)، أو حزب "البديل من أجل ألمانيا"، تهديداً لهذه القيم أكثر من التهديد الذي يشكله مليون لاجئ لها.
حاورته: كاترين نويمارك
الترجمة من الألمانية: خالد سلامة