"غزة حيث ذهب الغرب لحتفه"
يعد رسام الكاريكاتير الأمريكي- المالطي جو ساكو، رائدا في "صحافة الكتب المصورة" ولديه عددا من الأعمال مثل "Palestine" أي فلسطين، و"Footnotes in Gaza" أي هوامش في غزة، والتي صورت بوضوح الحياة الفلسطينية تحت الاحتلال الإسرائيلي. وفي خضم التصعيد الأخير في غزة، اكتسبت أعماله زخما مع صدور طبعات جديدة من كتابه "فلسطين" الصادر عن دور نشر Fantagraphics وEdition Moderne. وفي الفترة من يناير/كانون الثاني حتى يوليو/حزيران من عام 2024، كتب بانتظام سلسلة مقالات تحت عنوان "الحرب على غزة" بمجلة "The Comics Journal".
قنطرة: عندما أصدرت قصة فلسطين في أوائل التسعينات، هل كنت تتخيل أنها ستحقق نجاحًا لعقود متتالية؟ وبرأيك ما الذي منحها كل هذا الصدى الدائم؟
جو ساكو: لا لم أتوقع هذا الصدى. لسوء الحظ، الكثير مما صورته في الكتاب لا يزال موجودًا حتى اليوم، بل اتخذ نهجا أكثر وحشيه من ذي قبل على كافة الأصعدة؛ من هدم المنازل، إلى تدمير أشجار الزيتون، ومصادرة الأراضي، وسجن الشباب الفلسطينيين، وهجمات المستوطنين.
اليوم اشتدت أعمال العنف بشكل كبير، حتى أن مستوى الوحشية يكاد يكون غير مفهوم، ويمكن للناس أن يروا أصداء الماضي في أحداث اليوم.
تنبع أهمية هذا التاريخ من أنه يذكرنا أن تلك القضايا لم تظهر على السطح فجأة في يوم السابع من أكتوبر/ تشرين أول. لم يبدأ الصراع في ذلك اليوم فقط، بل لديه جذور ضاربة تعود إلى ما قبل 1948. وبالفعل، يُظهر الكتاب بشكل جزئي كيف كانت تتفاقم تلك الأمور منذ ذلك الحين.
ما هي مميزات وعيوب صحافة الكوميكس من وجهة نظرك؟
تكمن نقطة ضعف كتابة القصص المصورة - الكوميكس- في أنها تستغرق وقتا طويلا حتى تنتج عملًا جيدًا. ويستغرق الأمر سنوات حتى تخرج كتابًا. أما عن ميزتها، أرى أنها وسيلة سهلة تجذب القارئ، لطالما يميل الناس إلى المواد المرئية مثل الأفلام والصور لسهولتها. لذا تصل الكوميكس أو القصص المصورة للناس بسهولة.
كما أن القصص المصورة تعمل كمصفاة. حيث إنني أجد صعوبة في مشاهدة الصور الصعبة التي تحتوي على عنف، فلا يمكنني مشاهدة الأفلام الوثائقية التي تنقل مشاهد مؤلمة أو لحظة الموت. أما في القصص المصورة، الكوميكس، يختلف الأمر كثيرًا لأنها تخلق مسافة بعيدة (عن تلك المشاهد العنيفة)، لأنها تسمح برسم العنف بطريقة تخفف من وطأة حقيقة المشاهد المؤلمة التي يصورها فيلما وثائقيا لنفس الحدث.
رسم المشاهد القاسية، مازال صعبا بالنسبة لي، وليس من السهل حتى أن أطالعه. إذ يجب أن تكون حريصا وألا تفرط في عمله.
ألا يوجد أيضًا خطر أن تغذي هذه الوسيلة هوس العنف والمعاناة؟
الحرص مطلوب، حيث يمكن لأي وسيلة ــ سواء صورة أو فيلم أو حتى الكوميكس ــ، أن تمجد العنف. في نهاية المطاف، أليس ما يفعله أبطال الكوميكس الخارقين، على سبيل المثال، ماهو إلا شكل من أشكال الهوس بالعنف؟ فالمخاطرة دائما موجودة في الفن. لا أنكر ذلك.
لقد ذكرت أنك تستغرق سنوات حتى تنتهي من عمل كتاب؟ في المقابل تنتج وسائل التواصل الاجتماعي قصصا بسرعة فائقة للغاية. فهل ترى في ذلك مشكلة اليوم، حيث قد يقضي الصحفيون الآن وقتا أقل للتفكير في أعمالهم؟
وسائل التواصل الاجتماعي جزء شديد الأهمية من الصحافة. من نراه اليوم من غزة، من صور لا يمكن تجاهلها. هذه صور حقيقية لاستمرار الألم والمعاناة. نتابع فعليا عملية إبادة شعب بشكل لحظي. ومع ذلك، إذا كنت تريد حقًا أن تفهم ما يجري، وليس أن تتأثر به عاطفيا فقط، فأنت بحاجة إلى التفكير بشكل أعمق.
لابد أن تشرح التغطية الصحفية كيف وقعت تلك الأحداث وكيف تطورت وتكشفت. وبينما تساعد وسائل التواصل الاجتماعي الناس على رؤية وفهم والتفكير في الموقف، نحن بحاجة أيضا إلى الصحافيين والمؤرخين ليقدموا ويشرحوا لنا سياق الأحداث.
تركز أعمالك على تجارب الفلسطينين تحت الاحتلال، إلا أنها تتضمن القليل عن وجهات النظر الإسرائيلية. هل هناك سبب لعدم التوازن هذا؟
في أمريكا، وحتى أواخر الثمانينات، لم تكن هناك أصواتًا فلسطينية في وسائل الإعلام. لم نكن نسمع سوى وجهة النظر الإسرائيلية فقط، وحتى يومنا هذا، ظلت (وجهة النظر الإسرائيلية) هي المهيمنة. في الولايات المتحدة - وأعتقد مؤخراً في ألمانيا - هناك جهودا مضنية لقمع أية روايات مغايرة للرواية المهيمنة. لهذا أصبحتُ أكثر اهتماما بالفلسطينين ورواياتهم.
لقد نشأت معتقدا أن الفلسطينين ما هم إلا حفنة من الإرهابيين، لأنني تأثرت بتلك الرواية الوحيدة بالطبع. غير أنه عندما تشكّكت في ذلك، وجدت شيئا آخر يحدث. لذا سعيت للوصول إلى الأصوات الفلسطينية وسماعها، لأن كل ما تعرضت له في السابق لم يكن سوى تبريرات لما تفعله قوات الاحتلال الإسرائيلية.
أؤمن بأن أعمالي ذاتية، لكنني أعتقد كذلك أن عملي الصحفي نزيه. عندما ذهبت إلى فلسطين وعملت على كتبي. ذهبت وأنا أنوي الإسهاب في نقل الأصوات الفلسطينية. بدأت ولدى وجهة نظر أن الفلسطينيين تاريخياً مظلومين ولن أدعي خلاف ذلك.
لقد درست الصحافة وأحاول أن أنظر إلى ما ألاحظه بصدق وأنقله بدقة. أحيانا، أواجه تصريحات من الفلسطينيين تزعجني. ومع ذلك، فإنني أنقل ذلك لأن هذا ما يجب عليك فعله.
هل لمفهوم "الصحافة الموضوعية" وجود؟
عندما تكون في تغطية صحفية لحادث سيارة، فقد تذهب لموقع الحادث وتعتمد على رواية السائق كشاهد وعلى أقوال الشرطة كذلك. حينها تكون تغطية موضوعية، لأنك تنقل أقوال الآخرين على مسؤوليتهم الشخصية بدون أن تكون نفسك شاهدت الحادث.
لكن بالنظر للغربيين، - وأعتبر نفسي منهم - فإنك تأتي للشرق الأوسط محملا بأحكام مسبقة عن الناس والمجتمع هناك. لذا فمن المهم أن تُقر بذلك، وأن ينعكس على رؤيتك للعالم بأسره. إذا قدمت إلى الشرق الأوسط محملا بفكرة أن الغرب هو الأفضل، أما الباقي فهم كائنات غريبة فهذا في حد ذاته حكمًا مسبقًا، ولهذا لن تكون موضوعياً.
وهذا ما يحدث بالفعل الآن في الصحافة، حيث يُنظر للقتلى الفلسطينين أو اللبنانين على أنهم أعداد احصائية فقط، بينما تختلف النظرة كليا عند الإعلان مقتل أمريكي أو إسرائيلي، حينها فقط يلقى الضوء على أنهم (الأمريكيين والإسرائليين) بشر.
برأيك، ما أوجه قصور تغطية وسائل الإعلام الغربية؟
تعتبر الصحافة بالنسبة لي عمل دعوي، مثل الكهنوت، بهدفها العميق. يجب أن تشعر بها وتلامس روحك وتستوعب أهميتها. لكن التيار السائد اليوم بين الصحافيين هو أنهم مهنيون ويبحثون عن الفرص، ومعظمهم يجهل الكثير من الأمور. عندما يكونوا أمام الميكروفون فإنهم يميلون للتمسك بالرواية الغربية المهيمنة. مع مرور الوقت، أصبحت لدي القدرة على التمييز بين التقارير التي تنطوي على تجربة مباشرة، وما يسمى غالبا بالصحافة. معظم الصحافيين اليوم لا يغادرون استوديوهاتهم أبدًا.
عندما بدأت مسيرتي المهنية، كنت أنظر إلى الصحافة على أنها مهنة نبيلة، لكن نظرتي مع الوقت تغيرت. فأنا الآن ومعي أصوات مستقلة أخرى، نسعى لخلق صحافة جديدة تقوم على نقد الوضع الحالي القبيح بشكل صارخ. نحن وبصفتنا معشر الصحفيين، كان يجب علينا أن نشارك في خلق مجتمع ديمقراطي، لكن هذا الأمر أصبح احتمالية حدوثه معدومة إذا اخترت ببساطة أن تسير على نهج الأفرع التنفيذية أو القوى المهيمنة وروايتهم التي يرغبون بنشرها.
في أعمالك، دائما ما تعتمد على التاريخ الشفهي، على الرغم من تشككك عندما تتعارض بعض الشهادات مع بعضها البعض. في كتابك "هوامش في غزة"، اعتمدت على نقل ما حدث في مجزرة غزة عام 1956 بشهادات من عايشوها. فلماذا تعتمد تضمين التاريخ الشفاهيّ، خصوصا في الأحداث التي وقعت منذ عقود؟
مشاكل الذاكرة لا يمكن إنكارها. في "هوامش إن غزة"، جمعت قصصًا من كبار السن، وكانت رواياتهم تتعارض أحيانًا في التفاصيل. سألت نفسي إذا كان ينبغي عليّ حل هذه التناقضات، لكن الشهادة الشفهية تلتقط ذكريات ذاتية، وفي بعض الأحيان تتعارض مع بعضها البعض.
وخلصت إلى أن نقل هذه التناقضات هو الأمر الأكثر أهمية، مع الإشارة إلى أنه مع اختلاف الشهادات إلا أنها كلها اتفقت على المسار ذاته. فالأحداث العنيفة دائما ما تلصق بالذاكرة. ففي كتاب "هوامش في غزة" أجمع كل من حاورتهم معهم على فرارهم إلى المدرسة، وتذكروا كيف ضُربوا على بوابتها، فضربة على الرأس ذكرى تظل معك طوال حياتك.
هناك أنماط متسقة في جميع القصص. ورغم أن التفاصيل قد تختلف، فمن المهم التعرف على هذه القضايا مع إظهار أن مجموعة من الشهادات الشفوية يمكن أن تكشف عن رواية لا يمكن إنكارها. لقد بحثت أيضًا عن سجلات تاريخية لدعم عملي، لكنها أيضًا بها مشكلات. في كثير من الأحيان، تكون هذه السجلات عالقة في الأرشيف أو مخفية، وأحيانا لا تكون موجودة على الإطلاق. وفي بعض الأحيان، تُكتب السجلات مع وضع المستقبل في الاعتبار، مما يزيد الأمور تعقيدًا. لذا، لا يوجد بحث مثالي.
بدأت هذا العام في كتابة عمود جديد تحت عنوان "The War in Gaza" أي "الحرب على غزة" حيث قمت باستعراض أفكارك حول الحرب الدائرة. وفي أحد تلك الأعمدة، كتبت "غزة هي المكان الذي ذهب إليه الغرب ليلقى حتفه هناك"، ماذا كنت تقصد بهذه العبارة؟
لم يعد الغرب يتمتع بمكانة أخلاقية. كل هذا الحديث عن حقوق الإنسان، والقانون الدولي، والنظام القائم على القواعد، كله هراء. إذا كنت لا تستطيع أن ترى الآن أن هذه الكلمات فارغة، فأنت لا تنظر إلى نفس الصور التي أنظر إليها. لا يتمتع الغرب بأي سلطة أخلاقية في هذه المرحلة، ولا يستطيع أن يتظاهر بذلك. فمشروع التنوير برمته، رغم أنه كان به العديد من الجوانب الجيدة، إلا أنه كان ينطوي أيضًا على الكثير من العنصرية.
إذا قرأت لبعض المفكرين التنويريين، فإن العديد من قيمنا الليبرالية كانت مخصصة لأوروبا الشمالية فقط، ولم تكن تنطبق على أي مكان آخر. لقد قاموا بتصنيف البشر. عندما تقرأ لـ كانط (الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط) أو غيره من المفكرين الذين لديهم الكثير من الأفكار القيّمة، تخلص في النهاية إلى أنها تدور حول "نحن" فقط.
كيف اختلفت تجربة التعليق على هذه الحرب عن مشاريعك السابقة؟
إنه أمر مختلف تمامًا. كنت أفضل كثيرًا أن أكون مراسلًا في غزة، لكن هذا مستحيل بالنسبة للصحافيين الأجانب في الوقت الحالي، والصحفيون المحليون يعملون في ظروف قاسية. عشرات منهم بالفعل قتلوا. ليس لدي سوى الإعجاب بالصحافيين الفلسطينيين، لكني لم أستطع الذهاب بنفسي.
في البداية، شعرت بالرعب من حجم ما حدث في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وكنت أعلم أن رد إسرائيل سيكون وحشيا. لكنه كان أسوأ مما تخيلت. لم أستطع استيعاب الوحشية. استغرق الأمر بعض الوقت حتى تتشكل أفكاري. كتب لي عابد، أحد الأصدقاء من خان يونس قائلاً: "من فضلك ارفع صوتك". جعلني هذا أدرك أنني بحاجة إلى التصرف.
عادة ما أتجنب مقالات الرأي، ولكن في هذه الحالة، كان هذا خياري الوحيد. لم أرغب في كتابة رأي جدلي مباشر، لذلك اخترت السخرية، مستخدمًا الكوميديا السوداء للتعبير عن وجهة نظري.
هل صديقك عابد هذا هو من ظهرت صورته في كتاب "هوامش في غزة" وكان دليلك هناك؟
بالضبط. كان عابد في خان يونس لمدة شهرين عندما بدأت الحرب لكنه تمكن من الفرار وهو الآن في القاهرة. المرشدون المحليون ضروريون لعملي. لا أستطيع القيام بما أفعله بدون مرشد يعرّفني على المنطقة ويترجم لي ويسهل الأمور ويعلمني العادات. هذا الدعم مهم وضروري لمعظم الصحفيين. حتى لو بدا الأمر وكأنهم وحيدون في كثير من الأحيان، فهذا ليس هو الحال عادةً.
هل ستواصل الكتابة والرسم عن الحرب في غزة بعد آخر عمود كتبته في يوليو/ تموز الماضي؟
نعم، ولكنني مازلت أبحث عن الطريقة. هناك أشياء قيد التنفيذ. بصراحة، كنت أريد العودة إلى القيام بأعمال مضحكة، لا تتعلق بالحرب. ولكن كما قال عابد، يجب أن أرفع صوتي. هذا كل ما أملكه.
© قنطرة