كورونا فرصة أنظمة مستبدة في المنطقة العربية؟
أتت جائحة "كوفيد 19" إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في ظل تغيرات سياسية ومجتمعية ما تزال مستمرة منذ بداية الثورات العربية. لكن برغم اختلاف الظروف التي تمر بها كل دولة، من الدول الغنية في شبه الجزيرة العربية، إلى تلك التي مزقتها الحروب الأهلية، فإن هذه الجائحة ستضع المنطقة أمام تحديات هائلة طويلة الأمد ستحدث تغيرات جذرية فيها.
نحن نراقب ثلاثة مستويات تغيير تعني المنطقة: (1) المستوى الدولي، بوجود الصين كعامل جذب صحي وسياسي. (2) المستوى الإقليمي، بوجود دول كالسعودية والإمارات العربية المتحدة ما تزال تسعى نحو الهيمنة الإقليمية. (3) المستوى الوطني، الذي تقدم فيه مكافحة جائحة "كوفيد 19" لبعض الأنظمة المستبدة فرصة الاستمرار في تثبيت دعائم سلطتها.
الصين والشرق الأوسط: صداقة حميمة؟
منذ سنوات عدة وتشابك المصالح بين الصين وعدد من دول المنطقة يزداد بشكل مطرد، سواء من خلال تعميق العلاقات السياسية، وزيادة حجم التبادل التجاري، والتعاون في مجال الصناعات العسكرية، وصولاً إلى بناء المؤسسات التعليمية الصينية في المنطقة (مثل الجامعات ومعاهد كونفوشيوس). تشابك المصالح هذا بات أكثر وضوحاً منذ بدء الجائحة، عندما تنافست عدة دول عربية (من بينها السعودية) فيما بينها للفوز برضى بكين، من خلال تقديم الدعم وإرسال المساعدات.
تحاول الصين تصوير نفسها على أنها قِبلة المكافحة الناجحة لـ"كوفيد 19". مدى صحة إحصائيات الحالات الصادرة عنها ليس ما يحدد ذلك، بل إن الأمر يتعلق بالسردية التي تسوقها لنجاحها في مكافحة الفيروس، وذلك من خلال تصويره كجهد مجتمعي شامل تقوده قيادة الحزب. أي انتقادات على مواقع التواصل الاجتماعي تخضع لرقابة شاملة ويتم وأدها في مهدها. وبذلك، تتحول مكافحة الجائحة إلى فرصة للسيطرة التامة على المجتمع من خلال تقنيات مراقبة متطورة تم العمل بها قبل الأزمة (مثل برامج التعرف على الوجوه في كافة أنحاء البلاد، ونظام النقاط المجتمعية).
بالإضافة إلى ذلك، لا تألو وسائل الإعلام الصينية جهداً في تعميم تفسيرها للأزمة، وذلك من خلال عرض الانتشار الوبائي للفيروس في أوروبا والولايات المتحدة كدليل على عدم فاعلية أنظمة الحكم الغربية، وأن النظام الصيني أكثر جاهزية لمحاربة هذه الجائحة. هذا الشعور بالتفوق والثقة في استعراض ممارسات الحكومة، كلها جزء من توجه توثقه دراسات منذ سنوات في عدد من مناطق العالم.
هذه الدراسات لا تثبت فقط بأن الأنظمة المستبدة، مثل السعودية وإيران وروسيا والصين وغيرها، تشجع على نشوء أنظمة مستبدة أخرى، بل تروّج لتقليد إجراءاتها أيضاً. هذا التقليد يقع في دول الجوار المباشر وفي دول أخرى بعيدة جغرافياً، الأمر الذي دفع مؤشرات مثل "مؤشر فريدم هاوس" منذ سنوات عديدة إلى الحديث عن "تراجع الديمقراطية". باختصار، فإن الطريقة التي اتبعتها القيادة الصينية لمحاربة الجائحة تعطي للأنظمة المستبدة في الشرق الأوسط مثالاً مغرياً لتقليده.
الجائحة فرصة لـ"سعاة الهيمنة"
لدى الدول الغنية في شبه الجزيرة العربية إمكانيات أكثر لمكافحة انتشار "كوفيد 19"، فهذه الممالك الخليجية تمتلك طاقات استيعابية أكبر في أنظمتها الصحية، ولديها أيضاً خبرة أوسع. فالسعودية – قبلة ملايين الحجاج كل عام – لديها خبرة مؤسساتية في مكافحة الانتشار الوبائي. إلى ذلك، هنالك أيضاً خططها الوطنية الخاصة بالأوبئة، بعد انتشار فيروس "ميرس" فيها عام 2012، ما جعلها أسرع في التعامل مع "كوفيد 19" من خلال إجراءات السلامة الحكومية المبكرة وتوسيع دائرة الفحص والتشخيص.
كما أن لدى تلك الدول إمكانية إطلاق برامج مساعدة حكومية وتقديم قروض. لكن رغم ذلك، فإن دول الخليج جزء لا يتجزأ من التجارة العالمية وتعتمد عليها بشكل كامل: ففيها تتقاطع حركة الطيران العالمية، وفيها تقام الفعاليات الدولية وتتدفق عليها الاستثمارات. كما أنها مكان لعمل الكثير من العمال الأجانب، الذين من دونهم لم تكن قادرة على بناء كل مشاريعها المستقبلية، مثل مدينة "نيوم" السعودية.
وفي الوقت الذي استغلت فيه الرياض الأزمة من أجل التأكيد على طموحها في الهيمنة الإقليمية، مثل الرفض القاطع لتخفيف العقوبات المفروضة على عدوها اللدود إيران، تتحيّن الإمارات – الحليف الوثيق للسعودية – الفرصة لتحسين صورة سياساتها الخارجية والخروج من عباءة الجار الأكبر. فقد تعهد ولي العهد الإماراتي بتقديم الدعم للرئيس السوري بشار الأسد، وفي نفس الوقت أرسل مساعدات طبية لإيران، التي تأثرت بشكل كبير بالفيروس.
القمع وإدارة الأزمة على المستوى الوطني
أساليب تعامل الحكومات حول العالم من أجل إبطاء انتشار الجائحة متشابهة للغاية. لكن من الواضح كيف تنتهز الأنظمة المستبدة هذه الفرصة لتثبيت دعائم حكمها من خلال إجراءات قمعية.
فقد أمر ولي العهد السعودي باعتقال منتقديه، ومن بينهم عمه الأمير أحمد، أخو الملك، والأمير محمد بن نايف، ولي العهد السابق. كما كان أول الإجراءات التي اتخذها النظام السعودي إغلاق محافظة القطيف في المنطقة الشرقية، التي تقطنها أغلبية شيعية. هذه المحافظة لطالما كانت بالنسبة للحكام في الرياض مهد الاحتجاجات عليهم.
بالتزامن مع ذلك، استغلت الرياض الأزمة للانسحاب من بعض "مغامراتها السياسية الخارجية "، فأعلنت عن وقف لإطلاق النار في اليمن لمدة أسبوعين. من غير المعلوم ما الذي سيحدث بعد انتهاء هذه المهلة، هذا لو تم الالتزام بوقف إطلاق النار، إلا أن هنالك سعياً منذ فترة لتطوير استراتيجية خروج من الحرب في اليمن، والتي شكلت بالنسبة للسعودية عبئاً مادياً وتشويهاً لصورة الحكومة لدى الشعب، ناهيك عن تدهور السمعة الدولية بسبب ما سببته الحرب من كارثة إنسانية في اليمن.
أما مصر، بعدد سكانها البالغ أكثر من 100 مليون نسمة، فتقف بظهرها إلى الجدار: نظام رعاية صحية سُمح له بالتدهور على مدى عقود، وضعف المؤسسات الحكومية واقتصاد تنخره الأزمات يعيش على مساعدات صندوق النقد الدولي.
تحاول الحكومة المصرية إدارة هذه الأزمة، فقد أعلن الرئيس السيسي عن رفع رواتب الأطباء بنسبة 75 في المائة، وأطلق برنامج إنقاذ وطني بقيمة 100 مليار جنيه مصري (حوالي ستة مليارات يورو)، يهدف بالأساس إلى المحافظة على استقرار السوق المالية وقطاع السياحة. ترفد ذلك دعوات حكومية للصمود وأن حالة الرعب هذه ستنتهي خلال ثلاثة أسابيع (بحسب ما صرحت به وزيرة الصحة هالة زايد يوم 30 مارس/ آذار 2020).
أما الجيش، فعاد إلى تصوير نفسه كالمنقذ، وبدأ في صناعة الكمامات وأردية الوقاية، وتطبيق إجراءات تعقيم واسعة النطاق في المناطق العامة رافقتها تغطية إعلامية مكثفة. كما لا يوجد أي صبر على الاعتراض، والأخبار الكاذبة تتم معاقبتها، والصحفيون الأجانب مثيرو المتاعب يتم ترحيلهم من البلد.
غير أن التبعات طويلة الأمد كبيرة وتهدد أسس الاقتصاد المصري: تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر وعدد من الهجمات الإرهابية المحدودة محلياً تسببت في تراجع مؤقت لقطاع السياحة الهام.
أما الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية سنة 2008 فمرّت دون إحداث أضرار كبيرة في مصر، وذلك على الأغلب بسبب عدم ترابط اقتصاد البلاد بشكل كبير مع أسواق المال العالمية. لكننا هذه المرة نتحدث عن توقف تام للقطاع السياحي.
إلى ذلك، فقد تراجعت تحويلات المصريين في الخارج، وخاصة في دول الخليج، بشكل كبير. حتى إيرادات قناة السويس الهامة للنظام المصري (بلغت 5.8 مليار دولار عام 2019) باتت معتمدة على الحركة الثابتة للتجارة العالمية.
[embed:render:embedded:node:39528]
الجائحة وضمان السلطة
يشكل "كوفيد 19" تحدياً للسياسة والمجتمع في أنحاء العالم. وفي ظل مكافحة الجائحة، تبدو هنالك فرصة للأنظمة المستبدة في المنطقة، لاسيما تلك التي لم تثبت دعائم سلطتها (مصر) أو تلك التي تقف أمام تغير في هيكلية السلطة (السعودية). كما باتت هنالك نافذة فرصة للاعبين جدد في المنطقة من أجل تحقيق طموحاتهم العابرة للحدود (الإمارات).
في نهاية الأمر، فإن الأنظمة المستبدة في المنطقة ستقاس بمدى تحقيق وعودها السياسية والاقتصادية والمجتمعية، ولن تفيد أي عمليات تجميلية لشرعنتها أو سياسات قمعية شاملة إلا كعلاج قصير الأمد لأركان سلطتها المهزوزة.
توماس ديميلهوبر / توبياس تسومبريغل
ترجمة: ياسر أبو معيلق
حقوق النشر: موقع قنطرة 2020
توماس ديميلهوبر أستاذ العلوم السياسية ومجتمع الشرق الأوسط في جامعة فريدريش ألكساندر الألمانية في مدينتي إرلانغن ونورنبيرغ.
توبياس تسومبريغل باحث ومنسق مشاريع في "مركز البحوث التطبيقية بالشراكة مع الشرق" في بون.