متى تكتسب ديمقراطية تونس شرعيتها الاقتصادية؟
السيِّد سعيد الديلمي، هل ترى تونس مثالًا للديمقراطة الناجحة؟
سعيد الديلمي: تونس بشكل عام هي مثال جيِّد لعملية انتقالية ناجحة. فعلى العكس من الدول المجاورة لها، سارت تونس بشكل جاد وحقيقي وبنجاح ملحوظ في طريق الديمقراطية.
بعد انتخابات عامي 2014 و2019، تم نقل السلطة بشكل سلمي، وهذا أمر غير بديهي بالنسبة لكلِّ الدول العربية الأخرى. وخير دليل على هذه البداية الجديدة هو دستور عام 2014 الجديد وكذلك البدء في عملية اللامركزية.
عند النظر إلى النتائج الاجتماعية والاقتصادية لعملية التحوُّل هذه، تبدو المحصّلة العامة متباينة بالأحرى. نحن نتعامل هنا مع حالة غَير مُرْضيَة تنال من شرعية الانطلاقة الديمقراطية. إذ يقول الناس لأنفسهم: ’بِمَ تنفعني الديمقراطية إن لم يكن هناك رخاء؟‘. المكاسب الديمقراطية منعدمة تمامًا في مجال الاقتصاد. ولذلك يمكننا القول هنا إنَّ الديمقراطية في تونس تفتقر إلى شرعية الإنتاج.
لماذا لا ينمو الاقتصاد؟
سعيد الديلمي: نتوقَّع في هذا العام 2021 انكماشًا بنسبة ناقص سبعة في المائة بسبب الجائحة. لم يتمكَّن قطاع السياحة من التعافي مرة أخرى بعد الهجمات الإرهابية في عام 2015، على الرغم من عدم وجود أعمال إرهابية خطيرة منذ عام 2016. وفيما يتعلَّق بالصادرات المهمة مثل الفوسفات، توجد مشكلات اجتماعية ونقابية كبيرة.
والإدارة مُتحجِّرة ومُصمَّمة على غرار الهيكل الإداري الفرنسي في فترة السبعينيات. والقوى الداخلية المقاومة لأي إصلاح في الهيكل الإداري كبيرة جدًا منذ عشرات السنين. وهكذا تتم إعاقة التعامل مع الاستثمارات بشكل أكثر مرونة ويستمر الفساد في الانتشار. وهذا يُضْعِف تنفيذ المشاريع الاقتصادية الكبيرة. وإذا فكَّرنا في ذلك حتى النهاية، فسنلاحظ أنَّ الأزمة باتت أمرًا حتميًا في الأعوام القادمة.
تونس لا تزال هشة اجتماعيًا واقتصاديًا
ماذا يعني ذلك بالتحديد؟
سعيد الديلمي: على الأرجح أنَّ الاضطرابات الاجتماعية، التي تحدث دائمًا في شهري كانون الأوَّل/ديسمبر وكانون الثاني/يناير، ستصبح هذه المرة أكثر شدةً. غالبًا ما يتم في أشهر الشتاء التنفيس عن الإحباطات المكبوتة وخاصة في جنوب تونس، الذي يشعر بالإهمال من قبل الحكومة المركزية في تونس العاصمة. ومعظم الناس هناك يعيشون من التهريب. وعندما تنخفض التجارة بالبضائع المهرَّبة بسبب الطقس، يغلقون الطرق ويقومون بأعمال شغب عنيفة من أجل لَفْت الانتباه إلى وضعهم الميؤوس منه.
تونس لم تجد -لسوء الحظّ- خطةً مناسبة لمواجهة مشكلات مثل عجز الميزانية المتزايد وزيادة الاعتماد على القروض والمموِّلين الأجانب. ويؤدِّي ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب والأكاديميين بالإضافة إلى انعدام الآفاق وعدم العثور على عمل في المستقبل المنظور إلى إحباط الناس بشكل كبير.
توجد بالفعل مخاوف من احتمال انزلاق تونس إلى الإفلاس نظرًا لارتفاع مستوى الدين الوطني خلال جائحة كورونا.
سعيد الديلمي: نعم، فتونس تعيش على أجهزة الإنعاش. يتم إنفاق مبالغ مروِّعة على رواتب موظفي الدولة والتقليل من هذا الإنفاق يُمثِّل تحدِّيًا ما زالت تونس تصارعه حتى يومنا هذا. ولكن يوجد اهتمام كبير من جانب الأوروبيين بعدم اضطرار تونس إلى الإفلاس. ولذلك على الأرجح أن يستمر تدفُّق القروض إلى تونس.
هل عالجت تونس ماضيها في عهد بن علي بشكل مناسب؟
سعيد الديلمي: لم يعد معظم التونسيين -بحسب انطباعي- يشعرون اليوم برغبة كبيرة في معالجة الماضي بأدقِّ تفاصيله. ربَّما الأرجح أن تكون معالجة كلِّ شيء بأكبر قدرِ ممكن من الدِّقة هي واحدة من الفضائل الألمانية. يجب علينا أَلَّا نُسْقِط [نحن الألمان] وجهة نظرنا إلى الأمور على الشعب التونسي.
وبشكل عام لقد ترسَّخ خلال السنوات العشر الماضية مبدأُ الشمول السياسي. إذ إنَّ تحالف الأحزاب الإسلامية المحافظة والعلمانية المحافظة قد ترك بصماته على الأعوام العشرة الأخيرة وأدَّى إلى إدراك أنَّ العمل المشترك فقط يضمن السلم الاجتماعي والسياسي في البلاد.
لكن كانت توجد في خريف عام 2020 احتجاجات على قانون مخطط لإصداره من أجل إعفاء أفراد سابقين في قوَّات الأمن من العقاب.
سعيد الديلمي: لكن الذين احتجوا على ذلك كانوا أقلية. معظم التونسيين يرون أنَّهم فقدوا الأمن العام بعد الثورة، وذلك بسبب تفكيك جهاز الأمن بالكامل، ولكن الدولة تحتاج إلى قوَّات أمن. يقول الناس في تونس إنَّ شعورهم العام بالأمن كان خلال الأعوام العشرة الأخيرة أقل بكثير مما كان عليه في عهد بن علي.
ماذا حدث لثروة بن علي وأسرته؟
سعيد الديلمي: لا يوجد حتى الآن أي إجماع بشأن أموال بن علي المودعة في الخارج وخاصة في سويسرا. وهذا ينطبق على أموال جميع الدكتاتوريين العرب في البنوك السويسرية. لقد تمت مصادرة الحسابات المصرفية في تونس نفسها وفي المنطقة، ولكن إدارة هذه الأموال والأصول تتعرَّض لانتقادات شديدة في البلاد، لأنَّ الشفافية لا ترقى إلى المستوى المطلوب.
هل يوجد مانع من البنوك السويسرية؟
سعيد الديلمي: لقد جرت مفاوضات وكانت البنوك مستعدة لتحويل جزء من هذه الأصول. ولكن من المحتمل في النهاية أن تتم تسوية الخلافات في المحكمة فقط. ومن الممكن مثلما نعلم أن يستغرق شيءٌ كهذا فترة طويلة.
بين فكي كماشة الإمارات وتركيا
لقد تغيَّر الوضع الجيوسياسي في المنطقة بشكل جذري منذ عام 2011. فكيف يؤثِّر ذلك على تونس؟
سعيد الديلمي: أدَّى انسحاب الأمريكيين سياسيًا وبشكل جزئي عسكريًا من المنطقة إلى خلق فراغ في القوة السياسية تريد مَلْأَه إيران وتركيا والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتَّحدة. وهذه التغييرات -وكذلك الحرب الأهلية في ليبيا والوضع في مالي- تؤثِّر أيضًا على الواقع في تونس. وهكذا باتت تونس تجد نفسها عالقة بين فكي كماشة أطماع القوة الإقليمية لدول الخليج من جهة وتركيا من جهة أخرى.
تمارس دولة الإمارات بشكل خاص ضغطًا كبيرًا على القيادة في تونس لإنهاء التعاون مع حزب النهضة الإسلامي المحافظ. فالإمارات تحارب الإخوان المسلمين حيثما تستطيع. وفي المقابل، تدعم تركيا حركة النهضة وتتشمَّم علاوة على ذلك مشاريع استثمارية كبيرة في ليبيا المجاورة، حيث عزَّزت وجودها.
نجحت تونس حتى الآن بذكاء ودبلوماسية في تخليص نفسها من هذه المعضلة. ولكن الضغط من كلا المعسكرين يزداد بشكل ملحوظ، لا سيما وأنَّ تونس تعتمد على الحُقَن المالية من هذه الدول.
ولهذا السبب فإنَّ العلاقة مع أوروبا أصبحت اليوم بالنسبة لتونس أكثر أهميةً من ذي قبل. وهي تأمل في أن تنظر أوروبا إلى ذلك مثلها تمامًا قبل فوات الأوان.
ومن الأجدر بالاتِّحاد الأوروبي أن يستمر أيضًا في ترسيخ الاستقرار في تونس وتأسيس تعاون على نفس المستوى. يجب على الأوروبيين أن يعطوا انطباعًا إلى تونس وينقلوا لها بأنَّ أوروبا لا تريد فقط الحدّ من الهجرة ومكافحة أسبابها، بل تريد وبشكل جاد تعزيز المصالح المشتركة على جانبي البحر الأبيض المتوسط.
ترويض الإسلام السياسي
كيف تطوَّر حزب الإسلام السياسي، أي النهضة، خلال هذه الأعوام العشرة؟
سعيد الديلمي: النهضة خضعت لعملية تحوُّل مثلها مثل تونس، غير أنَّ نتيجة هذا التحوُّل لا تزال مفتوحة. تركَّزت حركة النهضة في البداية حول جماعة كانت لا تزال متأثرةً بشدة بالإسلام السياسي لدى جماعة الإخوان المسلمين المصرية. ومع مرور الوقت تعلمت هذه النواة من الناشطين، الذين كانوا في المنفى وفي السجن في عهد بن علي، أنَّ السياق في تونس لن يقبل بالإسلام السياسي مثلما تتم الدعوة إليه في البلدان العربية الأخرى.
وتونس -العلمانية والمنفتحة على العالم- أدَّت إلى ترويض النهضة وعَلْمَنَتها جزئيًا. ولم يبقَ لديها خيار آخر سوى الخضوع لهذا التغيير لكي لا يتم تهميشها سياسيًا. وهذا التغيير يتم تعزيزه ودعمه بشكل حاسم من قِبَل نخبة حزبية شابة تحب أن تصف نفسها بأنَّها مسلمة وديمقراطية ومنفتحة على العالم، وتلعب النساء فيها دورًا مهمًا.
بماذا تُحَدِّد التغيير في النهضة؟
سعيد الديلمي: يمكن رؤية هذا التغيير في حقيقة أنَّ رئيس الحزب راشد الغنوشي لم يعد اليوم مُبَجَّلًا مثل الأولياء والقدِّيسين. لقد نشأ جيل جديد لم يعد يُركِّز عليه. لقد ظهرت النهضة في البداية كوِحْدة واحدة. ومشكلاتها الداخلية كانت تتم مناقشتها في السر ثم يتحدَّث الحزب بصوت واحد. وراشد الغنوشي لم يُجسِّد هذه الانطلاقة الديمقراطية الجديدة في عمله القيادي داخل الحزب، وقد أدَّى إلى توتُّرات كبيرة في داخل الحزب خاصةً خلال العامين الماضيين.
إذن، هل باتت النهضة اليوم نسخة إسلامية من حزب الاتِّحاد المسيحي الديمقراطي الألماني؟
سعيد الديلمي: ما تزال توجد في الحزب تيارات لا تريد التصالح مع الحداثة والعلمانية. أي التيارات التي لم تتم "تَوْنَسَتُها" بعد. يجب أن يجري نقاش داخلي مع هؤلاء "المتشدِّدين" داخل الحزب. الغنوشي نفسه سعى عدة مرات إلى مقارنة حزبه بحزب الاتِّحاد المسيحي الديمقراطي الألماني. غير أنَّ تَكْوين الحزبين مختلف تمامًا، ولذلك يجب التعامل بحذر مع مثل هذه المقارنات.
كيف تُقيِّم آفاق تونس المستقبلية؟
سعيد الديلمي: على المدى القصير لا تبدو الآفاق المستقبلية جيِّدة جدًا، وذلك لأنَّ الوضع الاقتصادي والاجتماعي سيِّئ وقد يؤدِّي ذلك إلى زعزعة الاستقرار السياسي. نحن نشهد بعد عشرة أعوام من الثورات ذروة عملية القطيعة بين الشعب والنخبة السياسية. ومن الممكن أن يتجلى ذلك قريبًا في شكل احتجاجات عنيفة في عموم البلاد. ومن شأن عواقب الجائحة زيادة هذا التهديد بشكل كبير.
ولكن بالنظر إلى المستقبل البعيد فأنا متفائل نوعًا ما. أوروبا تخوض حاليًا عمليةً تعلَّمت منها ضرورة عدم جعل نفسها تعتمد كليًا على الصين. وتونس في يدها الكثير من الأوراق الرابحة عندما يتعلَّق الأمر بنقل مواقع الإنتاج من الصين إلى شمال إفريقيا. ويمكنها أن تجد خلال العشرة أعوام القادمة مكانًا لها في الإنتاج الصناعي والطاقات المتجدِّدة وقطاع الخدمات، وأن تصبح شريكًا مهمًا للاتِّحاد الأوروبي على الجانب الآخر من البحر الأبيض المتوسط.
حاورته: كلاوديا مينده
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2021
وُلِدَ سعيد الديلمي في صنعاء باليمن في عام 1978 وانتقل في طفولته مع أسرته إلى منفاها السياسي في ألمانيا. ودَرَس علوم الدولة السياسية والعلوم الاجتماعية في جامعة قوَّات الدفاع الألمانية الاتحادية في ميونِخ وحصل في عام 2011 على الدكتوراه عن أطروحته حول "فكر التجديد في العالم الإسلامي". وبعد أعوام من عمله في التدريس بجامعة قوات الدفاع الألمانية الاتحادية، عمل من عام 2014 وحتى عام 2020 مديرًا لمكتب مؤسَّسة هانس زايدل في تونس. ويعمل اليوم في مقر المؤسَّسة الرئيسي في ميونِخ.
[embed:render:embedded:node:43059]