فلسطيني تخترق يده زجاج سجنه ليلمس جبين طفله

أكثر من 100 صفحة من الرسوم الكاريكاتيرية السياسية، في كتاب محمد سباعنة، معتمِدة على تجربة هذا الفنان الحياتية، تقدم نسخة معقدة -وسُريالية في أحيان كثيرة- لنضالات يومية، يضطر إلى خوضها سكان غزة والضفة الغربية. الناقدة الأدبية مارسيا لينكس كويلي تحلل لموقع قنطرة بعض رسومه الكاريكاتيرية. وفيها: رقصة دبكة، ووجوه إسرائيلية وفلسطينية جمجمية، وجدار يفصل أحياء فلسطينية عن أخرى إسرائيلية وأيضا فلسطينية.

الكاتبة ، الكاتب: مارسيا لينكس كويلي

يكتب المحرر ورسام الكاريكاتير سيث توبوكمان، في مقدمته للمجموعة، أن من مهام رسام الكاريكاتير "شرح المشاكل السياسية المعقدة بطريقة يمكن لأبسط شخص فهمها".

وسباعنة، الذي يرسم لصحيفة يومية فلسطينية، في كثير من الأحيان ما يُوجز ويكثّف قضايا معقدة في رسائل مختصرة وصغيرة الحجم. ففي صورة واضحة، يجلس سجين خلف حاجز زجاجي بينما زوجته وابنه الصغير يجلسان على الجهة الأخرى. وبنوع من تحقيق رغبة، تخترق يد السجين الزجاج لتلمس جبين طفله التعيس. فالرسالة واضحة: الاعتقال الإداري يضر بالأُسَر.

Cover of Mohammad Sabaaneh′s "White and Black: Political Cartoons from Palestine" (published by Just World Books)
الغلاف الإنكليزي لكتاب "أبيض وأسود: رسوم كاريكاتير سياسية من فلسطين" للفنان محمد سباعنة: ظهرت أزمة الثقة لدى سباعنة في عام 2003، عندما اعتُقِل لمدة خمسة أشهر، إذ يقول: "لقد رسمتُ آلاف السجناء الأبطال في الماضي، لكن في السجن شعرت بالعجز كلياً. ومع عدم قدرتي على تصوير نفسي كبطل، فقد استسلمت لضعفي، فنحن جميعاً نحب، ونشتاق، ونخاف ونشعر بالألم، وكان علي أن أواجه السؤال الذي لا مفر منه: هل كان كل ما رسمته كذباً؟".

وقد كان سباعنة نفسه محتجزاً في سجن إسرائيلي في عام 2013 ويكتب -في ملاحظاته التمهيدية- حول كيفية تغيير تلك التجربة لمؤلفاته: "لقد رسمت آلاف السجناء الأبطال في الماضي، لكن في السجن شعرت بالعجز كلياً. ومع عدم قدرتي على تصوير نفسي كبطل، فقد استسلمت لضعفي، فنحن جميعاً نحب، ونشتاق، ونخاف ونشعر بالألم، وكان علي أن أواجه السؤال الذي لا مفر منه: هل كان كل ما رسمته كذباً؟".

بيد أن هذه المخاوف لم توقف سباعنة عن تأليف أعمال جديدة. فهو قد "هرّب رسومات أولية مع كل سجين أُطلِق سراحه. وعندما أُطلق سراحي، جمعت رسوماتي وأكملت الرسومات الكاريكاتيرية".

الشتات والعودة

لم يترعرع سباعنة في فلسطين. بل نشأ في الكويت ثم عادت أسرته إلى فلسطين قُبيل اندلاع الانتفاضة الثانية في أيلول/سبتمبر من عام 2000. وبعد ثلاثة عشر عاماً، وجد سباعنة نفسه في سجن إسرائيلي. وكانت التهمة "الاتصال مع جهات معادية". وقد كان هذا "الاتصال" ظاهرياً في نشر عدة رسوم كاريكاتيرية لسباعنة في كتاب كتبه شقيقه، وهو عضو في حماس.

أما سجنه الذي دام لخمسة أشهر، والذي تضمّن أسبوعين في الحبس الانفرادي، فقد كان وإلى حد بعيد أكثر المحاولات قسوة لقمع عمل سباعنة. بيد أن سباعنة كانت لديه مخاوف أخرى. هو الذي كان قد أُوقف مرة عن عمله في الجريدة لمدة عشرة أيام بعد رسمه كاريكاتيرا فسره بعض القراء على أنه تجديفي.

والأكثر متعة من بين رسوم الكاريكاتير المجمّعة في كتاب "أبيض وأسود"، ليست رسوم الكاريكاتير البسيطة الصحفية، بل الصور المتعددة الطبقات والكثيفة المزدحمة بالتفاصيل. ويكتب توبوكمان في مقدمته، أن هناك شيئا مثل لوحة غرنيكا لبيكاسو في عمل السباعنة. وفي الواقع، فإن العديد من القطع الأكثر نجاحاً تصوّر الناس في فضاءات كثيفة، مطوّقة بجدران، وأسلاك شائكة وأسلحة مشوهة. كما تملك العديد من الشخصيات -سواء الإسرائيلية أو الفلسطينية- وجوهاً صخرية تشبه الجمجمة وعيوناً فارغة بلا بؤبؤ.

جدار الفصل

أما من الصور المتكررة والأكثر قوة في المجموعة، فهي اللوحات الرمادية التي يسهل تمييزها والتي تمثّل "جدار الفصل" الإسرائيل. بدأت الدولة بتجميع الجدار في عام 2002، أي بعد عامين فقط من عودة أسرة سباعنة إلى فلسطين. وفي بعض الأحيان، يفصل الجدار الأحياء الإسرائيلية عن الفلسطينية منها، ولكنه أيضاً يطوّق البلدات الفلسطينية ويفصل الفلسطينيين عن الفلسطينيين.

وفي أغلب الأحيان، فإن الشروحات المرافقة لرسوم الكاريكاتير مفرطة في الاختزال وتعرقل الرسومات. يُظهر الرسم الكاريكاتيري المُسمّى "حيوات متقطعة" جدراناً في أجزاء صغيرة جداً، تفصل حياة كل شخص عن التالي، بينما يُظهِر الرسم الكاريكاتيري "الجدار يحاصر الجميع" ناس وحيوانات وأشجار وسماء في صناديق صغيرة، مطوّقة بأجزاء من جدار. يجلس الناس منحنيين، وأذرعهم حول ركبهم. حتى أن جندي يواجه وقتاً عصيباً في حشر بندقيته في الفضاء الصغير المسوّر.

وفي لوحة أخرى، يظهر الجدار بضخامته في الخلفية بينما خط من النساء والرجال، المرسومين بوجوه هيكلية تمثّل توقيع سباعنة، يمسكون بأيادي بعض ويرقصون الدبكة. أرجلهم مقيدة سوية بالسلاسل وتقف نقطة تفتيش بين اثنين منهم.

أما في واحدة من الأعمال المؤثرة متعددة اللوحات، فيشاهد صبي أولاً عصفوراً يطير على الجدار. وبعد ذلك، يطيّر طائرته الورقية في الأعلى. وبينما يطيّر طائرته، يتخيل أنها ليست جمادا، ولكن بوصفها عصفورا مربوطا بالسلسلة التي تبقيها خلف الجدار. يقطع الصبي السلسلة، سامحاً للطائرة الورقية بالتحليق بحرية، إلى ما وراء الجدار.

شرائط سوداء: تذكار وفخ

كما تظهر في أنحاء المجموعة أيضاً شرائط سوداء، معلّقة على صور الموتى. بيد أنه في صور سباعنة، غالباً ما تتسلل الشرائط خارج البورتريهات، فتدور حول الحمام أو تخنق الأحياء. وفي إحداها، تبرز شريطة سوداء ضخمة من بورتريه رجل، لترتبط حول عنق امرأة، وتكبل يدي صبي معاً، وتغطي عيني صبي آخر، وتتشابك في شعر فتاة، وتغلق منقار عصفور وحتى أنها تتشابك مع عقارب الساعة.

وفي رسم كاريكاتير آخر، بعنوان "صور عائلية"، لا تقتصر البورتريهات التي تحمل شريطة سوداء في زاويتها على الأشخاص فقط، بل أيضاً هناك بورتريه لسمكة، وفرشاة رسم، وشجرة، وغسيل يجفُّ على الحبل، جميعهم متوفي على ما يبدو. أما في الكاريكاتير "كفاح الحاضر والماضي من أجل المستقبل"، تصبح الشريطة السوداء على حافة البورتريه صنبوراً يقطر: أولئك المتروكون يغرقون في السائل الأسود.

محاصرون معاً: مُحتَل واحتلال

يكتب سباعنة، في مقدمته، أنه يعترف بأن "في عملية ممارسة إرادته السياسية، فإن الاحتلالَ محتّلٌ أيضاً". كما يضيف أنه، "في بعض رسوماتي، من الصعب التمييز بين المحتَل والاحتلال".

ففي واحدة من الرسومات، وبالنظر إلى العنوان الأكثر من واضح "كلنا رهائن المكان"، فإن كلاً من المحتَل والاحتلال محاصران معاً في إبريق زجاجي فيه مجسّم سفينة، مغلق بجزمة الجندي. وفي رسم آخر، فإن كلاً من الرجل في برج المراقبة والناس في الأسفل يعدّون الدقائق، يفكرون في أحبائهم، ويتمنون لو انتهت هذه المهزلة ليتمكنوا من العودة إلى نوع مختلف من الحياة.

فالرسوم الكاريكاتيرية نفسها، تصرخ طلباً لمستقبل مختلف يتمكن فيه كل من المحتَل والاحتلال، الهروب من إطاراتهما وأنماطهما الحالية، وشرائط وجدران الماضي، إلى حياة أكثر حرية.

 

 

مارسيا لينكس كويلي

ترجمة: يسرى مرعي

حقوق النشر: موقع قنطرة 2018

 

ar.Qantara.de