إمام: علينا السماح بالنقاشات الخلافية
السيِّد بنيامين إدريس، دار في ألمانيا نقاشٌ عام ساخن حول موضوع رفع الأذان بمكبِّرات الصوت، والذي أثاره مشروع نموذجي أطلقته مدينة كولونيا. فكيف تتعاملون مع هذا السؤال في مدينتكم بِنتسبِرغ؟
بنيامين إدريس: لقد طُرح موضوع رفع الأذان لدينا قبل نحو عام، وذلك عندما تم إغلاق المساجد بسبب جائحة كورونا. وقد خطرت لي تلقائيًا فكرة رفع الأذان للصلاة بشكل علني في يوم الجمعة كإشارة للمؤمنين بأنَّنا موجودون هنا حتى لا يفقدوا الأمل خلال فترة الإغلاق. وتقدَّمنا بطلب من أجل ذلك لدى بلدية مدينة بِنتسبِرغ.
وبمجرَّد الإعلان عن هذه الفكرة وانتشارها، ثار نقاش وأُرسلت رسائل من القرَّاء إلى الصحف وخرجت مظاهرة نظـَّمتها مجموعة معادية للإسلام من ميونخ، وقد جاء المشاركون فيها إلى بِنتسبِرغ خصيصًا من أجل ذلك. وعندئذ لاحظتُ أنَّ رغبتنا في رفع الأذان قد أثارت نقاشًا حادًا.
كيف كان ردك على هذه المعاداة؟
بنيامين إدريس: لقد سحبت طلبي بعد الاتفاق مع رئيس بلديتنا. ربَّما لم يحن الوقت بعد من أجل ذلك. لقد حزنت قليلًا لأنَّ المجتمع الألماني لا يزال غير مستعد ليتحمَّل لمدة خمس دقائق صوت أذان المسلمين للصلاة. أنا أريد العيش في بلد يمكن فيه سماع أجراس الكنائس في الأماكن العامة كرمز ديني، ولكن لا يُفهم فيه أيضًا صوتُ الأذان على أنَّه يشكِّل تهديدًا لقيمنا المشتركة، بل كإثراء. وهكذا يمكننا أيضًا أن نكون قدوة للدول الإسلامية، التي لا يُسمح فيها للرموز المسيحية بالظهور في الأماكن العامة.
من المفارقة العجيبة انتقاد المملكة العربية السعودية ودول أخرى على عدم السماح للمسيحيين بممارسة دينهم في الأماكن العامة ولكن في الوقت ذاته عدم الترحيب برفع أذان المسلمين للصلاة هنا في ألمانيا. ومع ذلك فموضوع رفع الأذان يجب ألَّا يطغى على الجدل حول الإسلام في ألمانيا. وذلك لأنَّ لدينا أسئلة أكثر أهمية وأساسية ويجب علينا الإسراع في مناقشها أكثر من مناقشة موضوع الأذان، الذي يجب أن يكون موضوعًا محليًا وألَّا يتم طرحه في جميع أنحاء ألمانيا.
وافدون مسلمون وأساليب معيشية إسلامية جديدة في ألمانيا
أنت تدعو في كتابك الجديد "كيف تفهم القرآن يا حضرة الإمام؟" لفهم القرآن فهمًا معاصرًا يأخذ في عين الاعتبار السياق التاريخي للنص المقدَّس. فما هو الفهم القرآني الذي يتسم به المسلمون في منطقة مسجدك بمدينة بِنتسبِرغ؟
بنيامين إدريس: هم ينحدرون من ثقافات ومذاهب شرعية مختلفة تمامًا ولديهم أيضًا وجهات نظر دنيوية مختلفة. ويتسمون بتقاليد وتجارب عائلية مختلفة خاضوها هنا في ألمانيا أو في بلدانهم الأصلية ولديهم مستويات تعليم مختلفة. ولهذا السبب فنحن لدينا مجتمع متعدِّد ومتنوِّع جدًا ومن عدة نواحٍ.
وبالنسبة لي كإمام، من المهم التفكير من منظور القرآن في هذه الآراء المختلفة والآراء المنحدرة من مختلف مذاهب الشريعة والتجارب الدينية التي خاضها المؤمنون وإذا اقتضى الأمر تصحيحها، وكذلك إرشاد المؤمنين إلى كيفية تمكُّنهم من قراءة القرآن وفهمه وتطبيقه في هذا الزمان وفي هذا المكان الذي يعيشون فيه.
زادت خلال السنوات الأخيرة أعداد المسلمين في ألمانيا نتيجة قدوم الكثير من المهاجرين الجدد. فهل يجلبون معهم فهمًا أكثر تقليدية للقرآن؟
بنيامين إدريس: بكلِّ تأكيد، فخلال الأربعين أو الخمسين عامًا الماضية كان الإسلام التركي يهيمن على المساجد وجمعياتها في ألمانيا. ولكن في هذه الأثناء أصبحت صورةُ المسلمين أكثر تنوُّعًا نظرًا للمهاجرين القادمين من مناطق منكوبة، وكذلك تظرًا للعمَّال المهاجرين من دول البلقان. ومن خلال ذلك تغيَّرت صورة مسجدنا هنا في بِنتسبِرغ أيضًا.
لقد كنتُ في البداية ألقي الخطبة على المصلين باللغتين التركية والبوسنية، لأنَّ غالبيَّتهم كانوا من هاتين الثقافتين. أمَّا الآن فقد بتُّ ألقيها بعدة لغات، ولكن في السنوات الأخيرة أُضِيفَ شيءٌ جديدٌ وهو اللغة الألمانية، التي تُوَحِّدنا جميعًا بمختلف خلفياتنا الثقافية. فعلى الرغم من اختلاف وجهات النظر والمذاهب الشرعية بإمكاننا إيجاد لغة مشتركة، هي الألمانية وهي لغة التقدير والاحترام المتبادل.
والمهم بالنسبة لي ليس فقط تلاوة القرآن باللغة العربية، بل أيضًا قراءة رسالته العالمية وتفسيرها وتبادل الأفكار حولها بجميع لغات العالم. أنا ألاحظ في جمعية مسجدي أنَّ المهاجرين الوافدين مؤخرًا يختلفون بأسئلتهم ومخاوفهم وتجاربهم في بعض النواحي عن المسلمين المقيمين في أوروبا. ووظيفتي هي بناء جسر بين الغرب والشرق وبين العقائد الدينية والعقل وبين الدين والديمقراطية وكذلك بين مختلف وجهات النظر العالمية. وبذلك أريد التأكيد على القيم المشتركة مثل احترام الحرِّية الدينية والاحترام المتبادل والتنوُّع والتسامح، وهي قيمٌ أساسية في الدستور الألماني وكذلك في القرآن.
جيل جديد من المسلمين في ألمانيا
أنت تصف طريقك بأنَّه طريق وسط لا يريد الانصهار ولا الانعزال، بل يريد هويَّته الخاصة به. وهذا يبدو مثل السعي إلى تحقيق توازن صعب ...
بنيامين إدريس: طبعًا، وهو ليس بهذه السهولة. نحن نشهد تطوُّرًا ديناميكيًا من خلال الشبكات الاجتماعية، ومن خلال الرقمنة وعولمة العالم وموجات الهجرة القوية. وكلُّ هذا يُمثِّل بالنسبة لنا تحدِّيات، ولكن مع ذلك يجب علينا أن نكون في الوسط. يجب علينا التركيز على القيم التي توحِّدنا والمشاركة في بناء هذا العالم من دون المبالغة والتطرُّف وعزل أنفسنا في عالم موازٍ. بل نحن نريد التركيز على القيم العالمية المشتركة والعمل من أجل اهتمامات الناس المشتركة في هذا العالم.
وأنا أفهم "الوسط" هكذا: مجتمع معتدل يجمع بين الاختلافات ولا يساهم في الانقسام وفي المجتمعات الموازية.
كيف يتم استيعاب ذلك لدى الجالية المسلمة؟ وهل يوجد تبادل آراء بينك وبين أئمة آخرين ومساجد أخرى؟
بنيامين إدريس: طبعًا، فأنا أشعر بوجود اهتمام لدى الأئمة الآخرين والمساجد الأخرى. وأتلقَّى الكثير من الاستفسارات من مؤسَّسات إسلامية في جميع أنحاء ألمانيا. في البداية جاءت معظم الاستفسارات من الكنيسة ومن غير المسلمين، ولكن منذ نشر كتابي الأخير "القرآن والمرأة" قبل عامين بتُّ أشعر بقدر كبير من الاهتمام من جانب المسلمين. وعلى الرغم من الجائحة فقد قمت بالكثير من القراءات وأيضًا من كتابي الجديد. وفي شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2021 وحده قمت بجولات في العديد من المدن والمساجد في جميع أنحاء ألمانيا.
هل تغيَّر الخطاب لدى المجتمع المسلم؟
بنيامين إدريس: أنا أشعر بقاعدة جديدة من المسلمين غير منظَّمة بالضرورة في جمعيَّات المساجد. وأرى جيلًا جديدًا من المسلمين يتماهى مع الإسلام، ولكن يبحث في الوقت نفسه عن أشكال جديدة من التنظيم. وأبناء هذا الجيل يؤسِّسون جمعيَّات ومبادرات جديدة لا تشبه جماعات المساجد العادية.
وهذا الجيل الجديد من المسلمين يثير فضولي. فهو يساهم في تنظيم الإسلام ليس فقط داخل جمعيَّات المساجد، بل كذلك أيضًا في وسط المجتمع داخل الجامعات وعلى الشبكات الاجتماعية وفي وسائل الإعلام وعلى المنصَّات وعبر قنوات متنوِّعة جدًا.
وهؤلاء المسلمون منفتحون على أسئلة جديدة وأشخاص جدد، وعلى موضوعات وتحدِّيات جديدة مثل القضايا البيئية ومساواة المرأة في الحقوق والمشاركة السياسية-الاجتماعية والحوار بين الأديان، وهم منفتحون قبل كلِّ شيء على وجود خطاب إسلامي جديد ضمن سياق العصر. وهذا الجيل يمثِّل التوازن للجالية المسلمة في ألمانيا وأوروبا.
الرحمة والشفقة عنصران أساسيان في الإسلام
من بين الموضوعات المهمة الأخرى أيضًا السؤالُ حول كيفية منع الشباب من التحوُّل إلى التطرُّف. لقد كتبت في كتابك أنَّ بعض المسلمين يوجد لديهم "نسيان للرحمة" وهذا يمكن أن يساهم في التطرُّف. فماذا تقصد بذلك؟
بنيامين إدريس: التطرُّف يبدأ بأفكار وكلمات وقد ينتهي بعد ذلك بأفعال. ولذلك فإنَّ الرحمة والمحبة مهمتان للغاية، بالإضافة إلى عنصرين أمنحهما قدرًا كبيرًا من الأهمية، وهما بالتحديد العقلانية والتجربة الإيجابية. وكلاهما وكذلك القيم الأخرى مثل الرحمة والشفقة عناصر مركزية في الإسلام، يؤكِّد عليها القرآن مرارًا وتكرارًا. وهذه القيم يجب أن تؤثِّر في فهمنا للإسلام.
والتطرُّف لا يحدث داخل المساجد، بل على وسائل التواصل الاجتماعي. وهنا بالذات يجب علينا كأئمة أن ننشط أكثر من أجل الوصول إلى الشباب. أنا أشعر بقدر كبير من السعادة عندما أشاهد كيف ينشر الشباب المسلمون على شبكات التواصل الاجتماعي صورةً عن إسلام المحبة والاحترام. الشباب يتجوَّلون في الإنترنت أكثر من تردُّدهم على المساجد، ولذلك يجب دعم صورة إسلام العقل والشفقة على وسائل التواصل الاجتماعي.
ماذا يمكن لجمعيَّات المساجد أن تفعل أيضًا؟
بنيامين إدريس: ما من شكّ في أنَّ جمعيَّات المساجد ليس لها بديل عندما يتعلق الأمر بالتعليم الديني والتجربة الدينية وتفسير الدين وممارسته. فهي تبقى مكانًا مركزيًا للتنوير الديني. يجب أن يكون الأئمة ومجالس إدارات الجمعيَّات منفتحين على موضوعات مختلفة، على ثقافة الحوار والنقاش المفتوح وتبادل يسمح بالتعبير عن آراء مثيرة للجدل.
ويجب أن يكونوا منفتحين على الشباب من دون تمييز بين الرجال والنساء. يؤسفني أنْ يُسمح في بعض جمعيَّات المساجد للشباب، الذين يتجوَّلون مع بعضهم في كلِّ مكان، بأنشطة منفصلة فقط، لأنَّ ذلك يحرمهم من فرصة تبادل الأفكار. ومع ذلك فبعض جمعيَّات المساجد لا تريد هذا الفصل. ولكن طالما ظلت النقاشات المثيرة للجدل لا تتم في جمعيَّات المساجد فإنَّ الشباب سيبحثون عن الإسلام في أماكن أخرى - مثلًا في وسائل التواصل الاجتماعي حيث تكون قوى التطرُّف أحيانًا أكثر نشاطًا من المساجد.
حاورته: كلاوديا مينده
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2021
بنيامين إدريس، وُلِد عام 1972 في إسكوبية في مقدونيا، هو إمام الجالية المسلمة في مدينة بِنتسبِرغ الألمانية ورئيس "منتدى ميونخ للإسلام". وهو مؤلف كتب من بينها كتاب "القرآن والمرأة: إمام يشرح الجوانب المنسية في الإسلام" (صدر عن دار نشر غُوتَرْسْلُو، سنة 2019) وكتاب "كيف تفهم القرآن يا حضرة الإمام؟ أفكار أساسية لإسلام يناسب زماننا ومكاننا"، (صدر عن دار النشر المذكورة سنة 2021).