"مطبخ المواجهة"...أطعمة من أرض الأعداء
ربما لا يوجد تقريبًا أية ثقافة لا يتمتَّع فيها الطعام بقيمة اجتماعية عالية. إذ إنَّ وجبة الطعام المشتركة تعمل على خلق حالة من الترابط والتقارب والثقة، وتشكِّل كذلك مجالاً للتفاعل والتواصل. وسواء كان ذلك بين الأصدقاء أو أفراد الأسرة أو شركاء العمل أو بين المحبين: فالطعام يخلق الجمعة ويجمع بين الناس.
والآن نحن نعيش في عصر تزداد فيه أكثر وأكثر أهمية الحوار بين الثقافات وتحتل فيه ضرورة التقليل من الاختلافات والأحكام المسبقة مكان الصدارة. والطعام يشكِّل وسيلة لتجاوز هذه الاختلافات. فمن ناحية يمتلك هذا الطابع العالمي ذو الثقافات المتعدِّدة القدرة على الجمع بين الناس وخلق التسامح، ومن ناحية أخرى فإنَّ خصائص الطعام المحدَّدة ثقافيًا - ليس فقط المكوِّنات والتوابل، بل كذلك العادات والتقاليد - تمكِّن من إيجاد تقارب حذر من ثقافة (الطعام) الأجنبية.
مطبخ المواجهة: أطعمة من أرض الأعداء
يستخدم الفنَّانان الأمريكيان جون روبين وداون ويلسكي منذ عدة أعوام من أجل مشاريعهما السياسية فنَّ الطبخ وقد أثارا بذلك اهتمام الرأي العام. وفي عام 2009 افتتحا في مدينة بيتسبرغ في ولاية بنسلفانيا الأمريكية مطعم "مطبخ المواجهة" للطلبات الخارجية. وهذا المطعم لا يقدِّم إلاَّ وجبات وأطعمة من بلدان في صراع مع الولايات المتَّحدة الأمريكية. وبحسب الأحداث السياسية الراهنة تتغيَّر بؤرة الاهتمام الإقليمية بانتظام وتتغيَّر معها قائمة الطعام أو "مواجهة اليوم". بدأ المطعم بتقديم وجبات من إيران وتلتها أفغانستان ومن ثم فنزويلا وكوبا وكوريا الشمالية وحاليًا فلسطين.
وبالإضافة إلى تقديم الأكلات والوجبات من مناطق الصراع، يقوم هذا المطعم بتنظيم فعاليات للاستعلام والنقاش حول الموضوعات الراهنة. وفي هذه الفعاليات يتحدَّث بصورة خاصة أشخاص من البلدان المعنية، ليس فقط حول المسائل السياسية، بل كذلك حول مسائل اجتماعية من الحياة اليومية.
وفي هذا الصدد يقول جون روبين: "نحن نريد التغلب على الصور النمطية والأحكام المسبقة، وحمل ضيوفنا على التفكير والنقاش وكذلك التشكيك في خطاب الاستقطاب والعرض غير الكافي من قبل السياسيين ووسائل الإعلام".
وحتى الآن تعتبر النسخة الفلسطينية من "مطبخ المواجهة" النسخة الأكثر نجاحًا وفي الوقت نفسه الأكثر إثارة للجدل. وللمرة الأولى يتم انتقاد هذا المشروع بشكل علني ويتم اتِّهامه بـ"الدعاية المعادية لإسرائيل". وحتى أنَّ تهديدًا بالقتل قد أجبر منظمي هذا المشروع على إغلاق المطعم عدة أسابيع في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2014.
لذلك فإنَّ جون روبين مصدوم من ردود الفعل هذه، غير أنَّه مع ذلك يرى أنَّ ذلك في الوقت نفسه يعزِّز ثقته في رسالته. وحول ذلك يقول إنَّ "مطبخ المواجهة هو منبر لتلك الأصوات، التي لا يريد المجتمع الأمريكي سماعها. وفي الواقع فإنَّ جميع الانتقادات تتناقض تناقضًا كبيرًا مع الدعم الذي نشهده يوميًا في مطعمنا من قبل عامة الناس".
"الطبخ خارج الإطار العام"
ومن العاصمة الألمانية برلين نشأ مشروع "الطبخ خارج الإطار العام"، الذي يستخدم المشاركة في الطعام أو الطبخ من أجل الحوار الثقافي ونشاطات الاندماج. يسعى هذا المشروع إلى معالجة موضوع اللجوء والتقليل من مخاوف الاحتكاك على كلا الطرفين، وذلك من خلال تنظيم أمسيات الطبخ الخاصة وكذلك في دورات مهنية للطبخ لدى ومع اللاجئين. ومن مجموعة منوَّعة من وصفات الطبخ العالمية، أصدر هذا المشروع الآن كتابًا للطبخ تحت عنوان "وصفات لنكون أفضل".
تقول الشابة نينو ديموت، التي أسَّست هذا المشروع في عام 2013 مع ثلاثة شباب برلينيين آخرين ضمن سياق المسابقة: إنَّ مشروع "’الطبخ خارج الإطار العام‘ بالنسبة لي يعتبر طريقة رائعة وقيمة من أجل تعزيز اندماج اللاجئين وخلق التبادل بين الثقافات". وكذلك بات يتم في هذه الأثناء تطبيق مشروع دورات الطبخ مع اللاجئين في مدن ألمانية أخرى.
خلاف على الحمُّص والفلافل
وكذلك يساهم الطباخان اللندنيان الحاصلان على عدة نجوم، يوتام أوتولينغي وسامي التميمي، عن طريق الطبخ في تعزيز التفاهم بين الشعوب. ففي مطاعمهما اللندنية التي يديرانها بشكل مشترك، يشيران إلى القواسم المشتركة بين المطبخ اليهودي والعربي ويعيدان تفسيرها مرارًا وتكررًا.
لقد تربى كلّ من يوتام أوتولينغي وسامي التميمي في القدس، ولكن في أحياء مختلفة: حيث نشأ يوتام أوتولينغي في القسم الغربي اليهودي وسامي التميمي في القسم الشرقي المسلم. وعلى الرغم من ذلك تتشابه ذكرياتهما الخاصة بالطبخ والتي تعود إلى طفولتيهما، وقد دفعتهما في عام 2012 إلى إهداء كتاب للطبخ لمدينة القدس، مسقط رأسيهما.
وفي كتابهما "القدس - كتاب للطبخ" يشدِّدان بصورة خاصة على أنَّ: المطبخ المقدسي هو بوتقة انصهرت فيها مختلف العوامل والتأثيرات، وذلك بحكم تاريخ هذه المدينة. وعلى مدى آلاف السنين اختلطت تقاليد الطبخ المختلفة إلى درجة أنَّه لم يعد من الممكن فك تشابكها. وبالتالي فإنَّ المطبخ المقدسي ليس عربيًا ولا يهوديًا، بل متعدِّد الثقافات.
وعلى الرغم أيضًا من أنَّهما لا يكتبان من منظور سياسي، إلاَّ أنَّهما يدركان مع ذلك حجم قوة الانفجار التي تمثِّلها وجهة نظرهما: ففي القدس يتم نقل التوتُّرات على جميع المستويات، وحتى على مستوى الطبخ، حيث يسود بصورة خاصة نزاع شديد حول الحمُّص والفلافل، وذلك لأنَّ كلا الطرفين يدَّعيان أنَّهما من أكلاتهم الشعبية.
وحول ذلك يقول يوتام أوتولينغي: "في القدس يوجد الآن نزاع بين ثقافتين ولهذا السبب فإنَّ كلَّ شيء مشحون سياسيًا، وحتى الطعام. وبدلًا من أن يعمل الطعام على الجمع بين الناس، يصبح الطعام هناك موضوع خلاف".
بينما وعلى العكس من ذلك يمكن للمرء - بحسب قول يوتام أوتولينغي - أن يأخذ القواسم المشتركة بين المطبخين كمنطلق للتقارب بين الطرفين: "يمكن للمرء من دون شكّ أن يستمتع بالطعام الجيِّد من دون أن يعرف من أية تقاليد يعود أصله"، مثلما يكتب يوتام أوتولينغي وسامي التميمي في كتابهما الخاص بالطبخ. وهما يريان في المطبخ المقدسي احتمالاً للتقارب المتبادل ويقولا: "هنا لا تزال توجد عقبة كبيرة يجب التغلب عليها. ونحن نعمل على ذلك. وربما سوف يجمع الحمُّص ذات يوم بين الناس في القدس".
ترجمة: رائد الباش